حسن شقراني
«مؤتمر الأغنياء» في دافوس اليوم: نحو نظام كوني جديد!
أميركا مترهّلة اقتصادياً. لم يعد أحد يشكّ في هذا المعطى «الخطير». مسألتان يثيرهما هذا الواقع: هل كان من الممكن معالجة هذا التدهور (الذي سيتحوّل إلى كساد، تعيش الولايات المتّحدة بداياته) قبل استفحاله، وما مدى انعاكسه على الاقتصاد الكوني؟ هل هو تحوّل داخل دورة اقتصاديّة سرعان ما ستعيد الأمور إلى مجاريها بعد لعبة العرض والطلب، ابتداءً من النفط، وصولاً إلى أصغر سلعة في أحد متاجر سلسلة «وولمارت»؟

دورة من دون ترياق!

يمكن الملاحظة أنّه منذ سبعينيات القرن الماضي، تمكّنت العائلات الأميركيّة من تطويع ميزانيّاتها، بين الاستهلاك والادخار (الاستثمار في الأسواق الماليّة). وقدرة الزوجين حينها على العمل في الوقت نفسه، في ظلّ فرص العمل المتاحة، إلى جانب قيمة القطاع المنزلي المرتفعة، عملت على ابتكار توليفات في كلّ مرّة، تحيّد «المحرّك الأساسي للاقتصاد» (الاستهلاك) من فخّ الدورات الاقتصاديّة. غير أنّ أزمة القروض المنزليّة عالية المخاطر التي ظهرت مفاعيلها الخطيرة في آب الماضي، إلى جانب التقلّص الحاد في المعروض من فرص العمل (ارتفعت نسبة البطالة في الشهر الماضي من 4.7 في المئة إلى 5 في المئة: ارتفاع قياسي)، وارتفاع سعر النفط، وتكاليف الحياة العاديّة من رعاية صحيّة وتعليم... جميع تلك العوامل تظهر أنّ أكبر اقتصاد في العالم يواجه إحدى أكبر الأزمات الاقتصاديّة منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية.
أيّ ترياق اقتصادي، يعتمد على إدماج السياستين الماليّة والنقديّة، كان يقوم بعد انتهاء تلك الحرب على تطبيق ما أوعز به الاقتصادي العلّامة، جون ماينرد كينز لمواجهة أيّ كساد عادي مرتقب: خفض الضرائب، ورفع قيمة النفقات العامّة، وخفض أسعار الفوائد. النتيجة: سرعان ما يعود الإنفاق الاستهلاكي إلى سابق عهده (بنسبة أكبر بحسب إحداثيّات التطوّر اللولبي: في كلّ مرّة الدورة تتكرّر، لكن على مستوى أرفع) وترتفع نسبة القروض، وينتعش الاستثمار.
وما يطرحه بعض الاقتصاديّين في وقتنا الراهن يفترض أنّ ما يجري حالياً ليس في كنف دورة معيّنة. والأسباب بسيطة: المداخيل في الولايات المتحدة مستمرّة في الانخفاض منذ فترة طويلة، وأسعار النفط مستمرّة بمنحاها التصاعدي، وأزمة الطاقة تزداد تحدّياتها، والأهم أنّ جانب القروض المنزليّة لن يتعافى في وقت قريب.
في أيّار الماضي، عندما بدأت عوارض تأثير العامل الأخير تتمظهر، خرج رئيس الاحتياطي الفدرالي الأميركي، بن برنانكي، ليطمئن الأميركيّين: «تأثير الأزمة التي تسببها القروض عالية المخاطر على القطاع المنزلي بشكل عام، سيكون محدوداً». رؤية أظهرت الأشهر السبعة الماضية أنّها خاطئة كليّاً، وأنّ عدم ملاقاة الأزمة منذ بداياتها ولّد قلقاً اقتصادياً لدى المستهلك الأميركي في الخريف الماضي، فامتنع الأخير عن الإنفاق وبدأ الحديث عن بداية عام كساد في أميركا.
برنانكي عاد الخميس الماضي لإعلان طمأنة جديدة افترضت أنّ «رزمة محفّزات» تطرحها الحكومة الأميركيّة وتقوم على «وضع مزيد من السيولة في يد العائلات (المستهلكين) والشركات ستكون أكثر فاعلية» من أي إجراء بديل، مثل اقتراح جعل الاقتطاع من نسبة الضرائب أمراً دائماً.
الرزمة الإنقاذيّة التي طرحها الرئيس جورج بوش من أجل معالجة «الصدأ الحيوي» (الذي كلّف المصارف المعنيّة بالقروض العقاريّة مليارات الدولارات وعمّم انكماشاً في الائتمان في قطاع الأعمال ولدى المستهلكين) تفترض محفّزاً ضرائبياً هائلاً (حقنة اقتصاديّة) قيمته 150 مليار دولار، أو ما يزيد على 1 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي.
وبعد الخفوضات الثلاثة التي أجريت منذ أيلول الماضي، والتي انتقدتها المؤسّسات الماليّة والشركات كثيراً، لأنّ ردّة الفعل جاءت متأخّرة ولم تتضمّن زخماً في الطروحات، فرضت السلطات النقديّة أمس خفضاً جديداً «جريئاً» في سعر الفائدة، بنسبة 0.75 في المئة، لتصبح 3.50 في المئة. ويتوقّع العديد من المراقبين الاقتصاديّين أن يقوم الاحتياطي في 30 من الشهر الجاري، بخفض جديد.
أسواق المال استجابت بسرعة فائقة للتدبير الدراماتيكي الذي يُعدّ المؤشّر الأوضح على خوف السلطات من خطر الكساد، غير أنّها عادت وهبطت في مؤشّر عن الهشاشة، بانتظار افتتاح بورصة نيويورك التي عفت عنها عطلة «يوم مارتن لوثر كينغ»، أوّل من أمس، والتي أفادت بمعطيات سيّئة خلال الساعات الأولى للتداول فيها أمس.
وزير الخزانة الأميركيّة، هنري بولسون، شدّد في خطاب أمام غرفة التجارة أمس، على أنّ «الوقت من ذهب، والرئيس (بوش) حاضر لاستصدار تشريع ثنائي (بين القطاعين العام والخاص) يخصّ النمو الاقتصادي، في أقرب وقت ممكن».
يمكن الافتراض أنّ ما تطرحه الإدارة الأميركيّة من «حقن» لمعالجة الوضع الاستثنائي للاقتصاد الأميركي (الكثيرون يتحدّثون عن أنّ «أسسه لم تعد سليمة») يفيد، بحسب ما ورد، بأنّه لا يمكن توقّع خير في المدى المنظور، لذا فالابتكار في الجهد الذي يبذله المرشّحون الديموقراطيّون والجمهوريّون إلى الرئاسة الأميركيّة هو الأمل لأمّة تعتمد على استهلاكها في قيادة العالم... لكن ماذا يحدث في العالم؟ وكيف تنعكس الشؤون الاقتصاديّة الأميركيّة عليه؟

دافوس... الحلّة نفسها؟!

منذ انطلاقته عام 1971 تحت مسمّى «المنتدى الاقتصادي الدولي»، لم يشهد مؤتمر دافوس عاماً تكون فيه الولايات المتّحدة في هذا الضعف الاقتصادي الساري حالياً. ففي جبال الألب السويسريّة يبدأ «روّاد العالم» (27 رئيس دولة وحكومة، 113 وزيراً، رجال أعمال وشخصيّات ماليّة وثقافيّة وفنيّة) اليوم اجتماعات تستمرّ 5 أيّام تستعرض عضلات الثروة والنفوذ، وتبحث في كيفيّة جعل الأرض مكاناً أفضل للعيش.
اجتماعات تنعقد في وقت عاشت فيه بورصات العالم أمس أسوأ أيّامها، في ما يعبّر عن الانعكاس الأوضح والأكثر تجليّاً لمستنقع الأسواق الماليّة الأميركيّة.
فمن طوكيو إلى بروكسيل، مروراً حتى بموسكو وشانغاي، عانت الأسواق الماليّة خلال اليومين الماضيين، بسبب «غرق المستثمرين في بحر أحمر اللون (يعبّر عن القلق) إثر المعطيات الاقتصاديّة الدوليّة الضعيفة، والمعطيات الضعيفة للشركات، والخوف من كساد»، على حدّ تعبير الخبير في الشركة الماليّة، «باركليز»، هانك بوتس.
في غالبيّة الأحيان، ليست معالجة الظواهر الاقتصاديّة «المرحليّة» (تضخّم، انكماش، ركود، كساد...) قائمة قبل بدء تبلور تلك الظواهر. وما حدث في الولايات المتّحدة، وينعكس على الاقتصاد الدولي، يُدخل المعني والمراقب في دوّامة حلول صعبة، علّق على مفاعيلها رئيس اللجنة الاقتصاديّة المشتركة في الكونغرس الأميركي، السيناتور تشارلز شومر، بالقول: «لن أرسم أيّ خيوط على الرمال».
والأكيد أنّ ما يشهده العالم على الصعيد الاقتصادي، يحتّم تشكيلات ماليّة جديدة لاتخاذ القرارات. وهو ما عبّر عنه رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون، حين دعا من شانغهاي أوّل من أمس إلى تغيير منظمات الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي بسبب «الطفرة الاقتصادية الآسيوية الكبرى» التي تخلق «نظاماً عالمياً جديداً».
براون سيكون في دافوس اليوم إلى جانب وزيرة الخارجيّة الأميركيّة، كوندوليزا رايس، التي ستفتتح المنتدى. وبعدما لم تستطع بورصات العالم (حتى الآن) احتواء المطبّ الأميركي، سؤال وجيه يُطرح: هل علينا انتظار «كساد عظيم» جديد كالذي أغرق الاقتصاد الدولي عام 1929؟
ليس واضحاً بعد إذا ما كانت الإحداثيّات الاقتصاديّة في الولايات المتّحدة ستولّد كساداً حقيقياً بالمعنى التقني: انكماش في النشاط الاقتصادي والتوظيف يمتدّ 6 أشهر في الحدّ الأدنى، وتأثير المعالجة أو الاستفحال يتعلّق بمدى ضراوة الإجراءات الماليّة والنقديّة (استكمال اللعب على وتر خفض الفوائد)، وإذا كان الكونغرس، الذي يسيطر عليه الديموقراطيّون، سيتجاوب مع الإدارة الجمهوريّة ويقرّ «رزمتها الإنقاذيّة» (الاجتماع مع بوش حصل في وقت متأخّر أمس، بحضور رئيسة مجلس النوّاب نانسي بيلوسي).
أحد السيناريوات، المبني على مؤشّرات النمو ومعطيات الشركات وآراء الخبراء، يفترض أنّ الأميركيّين سيكملون في إحجامهم عن الاستهلاك، بموازاة نتائج سيّئة في قطاعي مبيعات التجزئة والشركات. وستستمرّ أسعار المنازل التي هبطت بنسبة 8 في المئة على الصعيد الوطني منذ عام 2005 (في بعض المناطق وصلت نسبة الهبوط إلى 40 في المئة) بالانخفاض خلال العام المقبل أيضاً.
وقد تكون المأساة أكبر إذا لم يستطع القطاع المصرفي والشركات المضاربة التعافي بالوقت اللازم، من الخسائر الفادحة التي لحقت بها، أو حتّى إذا لم يستطع الدولار تجنّب هبوط حاد في سعر صرفه، وفقد المستثمرون الثقة في الاقتصاد الأميركي.
الأميركيّون يشعرون بالأفق الاقتصادي لـ«النظام»، وربّما عوّلوا على أن تنفع أصواتهم في الانتخابات التمهيدّية للسباق نحو البيت الأبيض، في تحقيق التغيير. والعالم تنبّه خلال اليومين الماضيين إلى أنّ «أطروحة الإمبراطوريّة» لا تزال حيّة: «إذا عطست أميركا فإنّ العالم كلّه سيشعر بتوعّك»، قد يكون زكاماً مرحلياً... وقد تكون العواقب أوخم.