باريس ــ بسّام الطيارة
هل يستطيع موظف متواضع تبديد 7 مليارات دولار... بمفرده؟

في اليوم الذي كانت فيه تظاهرات الموظّفين والعاملين في الإدارات العامّة تخترق شوارع أكبر المدن الفرنسية للاحتجاج على عجز الحكومة عن «تحسين القدرة الشرائية ورفع مستوى المعيشة»، والتنديد بسياسة الرئيس نيكولا ساركوزي، كان اهتمام المواطنين الفرنسيين منصبّاً على «رجل الـ٥ مليارات يورو»، وهو الاسم الذي أطلقه الإعلام الفرنسي على الشاب جيروم كيرفييل (٣١ سنة) الذي مرّت بين يديه أكبر خسارة مصرفية يسجّلها مصرف في التاريخ (أكثر من ٧ مليارات دولار خلال أقل من سنة).
وغطّت فضيحة خسارة «سوسيتيه جنرال» على أخبار التحرّك النقابي، وإن كانت هناك «صلة تربط بين كل هذه الأمور»، لترابط النظام المصرفي بالنظام الاستهلاكي العام وتوجيه كل الأنشطة نحو «مربحية مالية مباشرة» من دون النظر إلى انعكاسات «ارتفاع مؤشرات الربح المالي» على البيئة الاجتماعية وتطورها في المدى المتوسّط والطويل.
ويقود هذا إلى طرح السؤال الذي هو على كل شفة ولسان: كيف يستطيع «موظف متواضع» حشر أحد أكبر المصارف العالميّة في زاوية خسائر لا يمكن التراجع عنها، وبالتالي، «تدفيع المساهمين الصغار» ثمن تلاعباته وعدم قدرة إدارة المصرف على اكتشافها في الوقت المناسب؟
للإجابة عن هذا السؤال، الذي يتضمّن كمّاً من الأسئلة، وجبت معرفة «حقيقة ما حصل» وهي، حتى الآن، ليست بالشيء السهل بتاتاً نظراً إلى استراتيجية التعتيم التي تعتمدها إدارة المصرف وتحميلها الموظّف الصغير كل تبعات الخسائر، مع اعترافها بأنه «لم يقم بهذا من أجل إثراء غير مشروع»، وأنّه لم يستفد من هذه الخسائر.
كما أنّ المصرف المركزي الفرنسي يتغاضى في حملته الإعلامية التي أطلقها عن مسؤوليات المصرف لحماية «باريس كمركز مصرفي». إلا أن عدداً متزايداً من المراقبين والاختصاصيّين يتشكّكون في جدية اتهامات الإدارة للموظف الـ«ميدل أوفيس» بتحمّل مسؤولية عمليات «سواب» (شراء مؤجّل الدفع) التي قال المصرف إنها بلغت نحو ٥٠ مليار يورو، بينما لا تتجاوز موجودات المصرف ٣٠ مليار يورو، من دون أن يكشفها مركز المراقبة في المصرف، أي الـ«باك أوفيس».
ويرى الخبير في الشؤون الاقتصادية البروفسور إيلي كوهين، أستاذ علم الاقتصاد في مدرسة العلوم السياسية الشهيرة في باريس (iep)، أنّ «المصرف يضع كل اللوم على موظف مسكين»، وأنه يحاول عبر هذه العملية «إخفاء خسائر ضخمة جداً تحمّلها بسبب الرهن العقاري في الولايات المتحدة».
ويشارك في هذا التحليل عدد كبير من المحلّلين العاملين في هذا المجال، ويرون أنّ من المستحيل أن «يستطيع موظّف وحيد تجاوز كل العقبات التقنية لمدّة سنة من دون أن يُكشف أمره»، وخصوصاً أنه لم يسعَ إلى إخراج ولا إلى تحويل أرباح من المصرف، وأن خسائر المصرف المتراكمة لم يكن ممكناً تجاهلها لمدّة سنة كاملة كما تدّعي إدارة المصرف.
وممّا يعطي بعض الصدقية لهذه التحليلات، هو أن الـ«سوسيتيه جنرال» يعيش «حالة مرعبة»، إذ إنّ قيمته الأسهميّة تراجعت أمس بمعدل 4.14 في المئة بسبب هذه الفضيحة، ما جعل قيمته في البورصة تتراجع ٤٢ في المئة خلال الأشهر الستة الأخيرة.
ورغم إعلان الإدارة عن «أرباح بلغت ٨٠٠ مليون يورو»، إلا أن الخسائر المعلنة حتى الآن، أي الفضيحة والرهن العقاري، تتجاوز ٧ مليارات يورو، وتمثّل خسائر مباشرة لحاملي الأسهم الصغار الذين قرّروا رفع عدد من الدعاوى الجنائية التي قد تشمل إدارة الصرف أيضاً، ومنهم رئيس مجلس الإدارة دانيال بروتون، رغم إعلانه تخليه عن رواتبه المستحقّة له للأشهر الستة المقبلة. وفي إعلانات احتلّت صفحات كاملة في الصحف الفرنسية الرئيسية، اعتذر بروتون للمساهمين، فيما تشكّكت الصحف ومحلّلون في ما إذا كان طلب مجلس الإدارة منه البقاء في منصبه سيدوم طويلاً.
وقد كشفت بعض المصادر أن التكتّم على الفضيحة، جاء نتيجة توافق بين المصرف المركزي وإدارة البنك لتجنب انهيار أسعار أسهمه في البورصة عند إقفالها أمس، من دون أي إمكان للتدخل خلال عطلة نهاية الأسبوع. وفي هذا السياق، قرّرت الإدارة فتح اكتتاب قيمته 5.5 مليارات يورو لإعادة رسملة المصرف تحت إشراف وضمانة مصرفين أميركيين، بعدما سقطت قيمته في البورصة إلى ٣٥ مليار يورو، ما قد يجعله لقمة سائغة للمصارف الأجنبية يمكنها أن تضع يدها عليه.
وكانت فرنسا قد استفاقت على استنفار حكومي لكلّ الطاقات، بهدف طمأنة الأسواق والمودعين. ورغم الوهج الذي أعطته المعلومات عن نيّة ساركوزي توقيع عقود نووية ضخمة مع السلطات الهندية خلال زيارته التي بدأها أمس إلى نيودلهي، حضر موضوع الاحتيال بقوّة في كلام سيد الإليزيه. إذ حاول في أوّل تعليق له على الموضوع، التقليل من أهميّة الحدث، واصفاً السابقة التاريخية بأنها «عملية احتيال داخلية واسعة النطاق لكنها لا تثير الشكوك في تماسك النظام المالي والثقة فيه».
كما أنّ محافظ البنك المركزي الفرنسي كريستيان نوييه اضطرّ إلى التدخّل للمرّة الثانية منذ الكشف عن العمليّة، فقال إنّ «حسابات البنك تمّ تطهيرها بعدما تمّ تفكيك المراكز التي كوّنها المتعامل». ونفى نوييه تكهّنات بأن تكون بعض الخسائر المرتبطة بالحادثة، نتجت عن أزمة الائتمان العالميّة الحالية، علماً بأنّ الغموض لا يزال يحيط بالمكان الحالي لوجود كيرفييل، رغم أنّ أحد المحامين الذي عرّف عن نفسه بأنه موكَّل من قبل المتّهم، أكّد أنّ كيرفييل، وبخلاف المتعامل نيك ليسون الذي ارتكب عملاً مشابهاً مع مصرف «بارينغز» البريطاني في وقت سابق، لم يهرب ومستعدّ للتعاون مع المحقّقين.


المصرف يضع كل اللوم على موظف مسكين، وهو يحاول عبر هذه العملية، إخفاء خسائر ضخمة جداً تحمّلها بسبب أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة. من المستحيل أن «يستطيع موظّف وحيد تجاوز كل العقبات التقنية لمدّة سنة من دون أن يُكشف أمره»



هكذا جرت العملية «التاريخية»

التداول بالعملات وأسهم البورصة بات «رياضة عالمية» تقوم على مبدأ عمليات الـ«سواب»، وهو التعبير المصرفي لعمليات الشراء المؤجَّل الدفع لأسهم أو مواد أوّلية أو عملات، وهي تمرّ في «غرف العمليات» التابعة لعدد من المصارف العالمية التي تدير «أوامر البيع والشراء والمقاصّة»، وهي عملية دفع الربح أو قبض الخسارة في نهاية الفترة المتَّفَق عليها. ويتكفّل بها في المصارف، جهاز مؤلَّف من ٣ مكاتب: «الفرونت أوفيس»، وهو جهاز الموظّفين الذين يتعاملون مباشرة مع الزبائن ويأخذون منهم «أوامر البيع والشراء» ويرسلونها إلى مركز تجميع الأوامر أو «الميدل أوفيس»، لتنفيذها. وهذا المكتب «يلاحق» السلعة (أسهم عملات أو مواد أو مؤشّرات) المطلوبة ويضع أوامر الشراء. وفي المقابل، فإنّ جهاز المراقبة «باك أوفيس»، يقوم بدراسة «حساب المخاطرة» (value of risk) بشكل روتيني مباشر ويقارنها مع مؤشّرات ثابتة وخاصّة بالمصرف تتعلّق بـ«نسب الربح والخسارة» المقبولة والمحدّدة مسبقاً (profit and loss) من إدارة المصرف.
وبحسب رواية «سوسيتيه جنرال»، فإن جيروم كيرفييل، المتهم بعملية الاحتيال، استطاع «بناء منظومة رقمية» موازية لموقعه في الـ«ميدل أوفيس»، وضعت حاجزاً بينه وبين الـ«باك أوفيس» بحيث كانت مخاطر المصرف مستندة إلى أوامر وهمية تستوعب احتمالات الخسارة الممكنة، وهو ما كان قد أخفى احتمالات الخسارة التي تتجاوز الحدود المسموح بها، لذلك لم يستطع «الباك أوفيس» التنبّه إلى ارتفاع مخاطر الأوامر التي كانت تُوضع على مسؤولية المصرف.