أرنست خوري
عصابات قوميّة متطرّفة انتقلت من تصفية الشيوعيّين إلى قتل «أعداء الداخل»

لم يكن وجود خلايا مسلّحة، موازية للقوى النظاميّة في تركيا، سرّاً في يوم من الأيّام؛ فكلّ من تابع من قريب أو بعيد التطوّرات التي حملها التحالف المتين بين واشنطن وأنقرة، منذ اختارت الثانية الوجهة الأطلسيّة في استراتيجيتها السياسية في وجه المعسكر السوفياتي خلال الحرب الباردة، يعرف أنّ الجيش التركي، الحاكم الفعلي منذ تأسيس الدولة عام 1923، شكّل عشرات الخلايا، مهمّتها تصفية «أعداء الأمّة»، أكان هؤلاء أكراداً أم مثقّفين أو سياسيّين.
لكن بقي الحديث عن هذه المجموعات من التابوات التي تعرّض كل من يثير النقاش فيها، إلى عقوبات قانونيّة أو حتّى إلى انتقام تنفّذه إحدى المجموعات المتعارف عليها في تركيا بعبارة «الدولة داخل الدولة». انطلاقاً من هذه المعطيات، لم تكن مجرّد حملة واسعة النطاق تلك التي نفّذتها القوى الأمنيّة التركيّة يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين بحقّ مجموعة من 35 شخصيّة «نخبويّة» في صفوف اليمين التركي الفاشي. هي أكثر من ذلك بكثير. قد يكون الوصف الأدقّ هو أنّ تركيا في طريقها نحو مصارحة مع الذات تمهيداً لمراجعة قاسية لتاريخها الحديث. مصارحة لم يكن وارداً أن تقوم بها إلا حكومة «العدالة والتنمية» التي ثبّتت رجليها في الحكم، وانتظرت 6 سنوات بعد تأليفها، قبل أن تتّخذ تلك الخطوة الجريئة.
فهذه الحكومة، قرّرت أن تقطع مع التاريخ العسكري الدموي لتركيا، لكن بخطوات تدريجيّة تفادياً لعدم تكرار التاريخ نفسه؛ تاريخ سماته الأبرز تشكيل الميليشيات البارا ـ عسكرية، وفرق التصفية والتعذيب الخاضعة مباشرة لقيادة الجيش الذي أخضع بدوره حكومات أنقرة لسطوته المباشرة.
الحملة كشفت أسماء بارزة في الميادين الصحافيّة والدينيّة والسياسية والعسكريّة: مجموعة من المقرّبين من حزب «الحركة القوميّة التركية» المتطرّف، الذي يتمثّل بـ70 نائباً، ينتظمون في «ميليشيا» أطلق عليها اسم «ERGENEKON»، ترتبط أسماء قيادتها بجرائم مهمّة للغاية. فمن بين هؤلاء، رئيس تحرير صحيفة ناطقة باسم الحركة القوميّة، المتحدّث باسم البطريركيّة الأرثوذوكسيّة والمحامي الشهير كمال كيرينشيز، الذي ارتبط اسمه بملفّ مقاضاة المثقّفين الأتراك تحت عنوان «شتم الهويّة التركيّة»، وهي التهمة التي لا تزال مسلّطة فوق رأس كل من يجرؤ على تقديم قراءة نقديّة للشوفينية التركية المستفحلة في سلوك وعقيدة الجيش والحكومات التي رعاها.
أمّا أخطر ما في هويّة المعتقلين (عدد منهم لم يُكشَف عن أسمائهم)، الجنرال المتقاعد والي كوشوك، وهو الذي بقي اسمه ملازماً الحرب على حزب العمّال الكردستاني، وأكراد تركيا عموماً. وكوشوك، هو مؤسّس الوحدة السريّة «جيتام»، وهي فرقة متخصّصة في التصفيات السرية تابعة لقيادة الشرطة التركيّة. وحتّى قبل اعتقال الرجل، كان معروفاً، بحسب صحيفة «لو موند» الفرنسيّة، أنه هدّد مرّات عديدة الكاتب الأرمني الأصل، هرانت دينك، الذي تمّت تصفيته قبل عام، ما دفع معظم الأوساط إلى اتّهام الجنرال المتقاعد بارتكاب الجريمة.
وإلى جانب هذه المجموعة العسكريّة شبه النظاميّة، شكل كوشوك عدداً كبيراً من العصابات تحت أسماء تنظيمات مدنيّة وهميّة، شكّلت جميعها ما يسمّيه الأتراك «الدولة داخل الدولة».
ومن ضمن لائحة الاتهامات الموجّهة إلى «ERGENEKON»، بالإضافة إلى قتل دينك، قتل الكاهن سانتورو، ومهاجمة مجلس شورى الدولة خلال العام الماضي، وكلّها ارتكبها هؤلاء تحت شعار «تخليص الجمهورية من أعداء الداخل».
وبحسب الصحف التركيّة، فإنّ المنظّمة كانت تخطّط للقيام بمجموعة من الجرائم الجديدة، أبرزها بحقّ حامل جائزة نوبل للآداب أورهان باموك، وعدد من السياسيين الأكراد والصحافيين المعادين للتطرّف القومي، في مقدّمتهم فهمي كورو، صديق الرئيس عبد الله غول منذ الطفولة. باختصار، تؤكّد المعلومات التي كشفتها صحيفة صحيفة«راديكال»، أنّ المجموعة كانت تعدّ لانقلاب عسكري يطيح الحكّام الإسلاميّين.
والمجموعة المذكورة، ليست سوى واحدة من آخر الخلايا الإرهابيّة التي تكوّنت في فترة الحرب الباردة، حيث ألّفها قادة حلف شمال الأطلسي لتحمل أعباء الحرب على الشيوعيّة، بحسب تحليل كورو نفسه، الذي أوضح أنها «جزء من الدولة الموجودة داخل الدولة، لا تقتصر قياداتها على الشخصيات التي أوقفت».
وإعلان توقيف الشخصيات الـ35، قُوبل بترحاب معظم ضحايا التنظيم، وضحاياه المحتَمَلين. ووصفت عناوين الصحف التركيّة الحملة بأنها «غير مسبوقة من الدولة التركية ضدّ الدولة الموجودة في داخلها»، حتّى إنّ محامي هرانت دينك، إرغين سلمان، رأى أنه «للمرّة الأولى في تاريخ تركيا، يبدو التحقيق جدّياً، وهو مصدر تفاؤل لدينا». أمّا رجب طيّب أردوغان، فكعادته، فضّل التكتّم، إذ اقتصر تعليقه على الحملة بالقول: «الدولة تقوم بعملها».