أرنست خوري
بعد خطواتهم «الإصلاحيّة» في قضايا الأكراد والعلويّين والتعديلات الدستورية والقانونيّة على موضوع الحجاب الإسلامي، والحملة على عصابات «الدولة داخل الدولة»، ها هم حكّام أنقرة ينفتحون على معضلة قديمة ــ جديدة، مثّلت تاريخياً عقبة أمام العضوية الأوروبية لتركيا، وهي موضوع اعتراف الدولة التركية بعالميّة الكنيسة الأرثوذكسيّة

بدأت الصورة تنجلي، وتتّضح النتائج التي حقّقتها الزيارة
«التاريخيّة» التي قام بها رئيس الوزراء اليوناني كوستاس كرامانليس إلى أنقرة قبل أيام، وهي الأولى منذ نحو نصف قرن لأرفع مسؤول يوناني إلى تركيا، الدولة الجارة ـــــ «العدوّة».
ففي ظلّ توافق الإعلام اليوناني والتركي على فشل الزيارة في إنجاز الأهداف «الكبيرة»، من نواحي حلّ المشاكل حول السيادة على جزر بحر إيجيه، ومعضلة الجزيرة القبرصيّة المقسّمة منذ 1974... تركّز الاهتمام على المكاسب الاقتصاديّة والاتفاقات التي أُبرمَت بين القيادتين.
لكن، بين سطور هذه الاتفاقات، انسلّ شبه اتفاق، إذا نُفِّذ، سيكون تاريخيّاً... وهو موضوع لا ملامح سياسيّة واضحة فيه، لكنه رغم ذلك، يكتسي قيمة رمزيّة سياسية عظيمة، وهو نيّة حكومة رجب طيب أردوغان رفع يدها عن البطريركيّة الأرثوذكسيّة في اسطنبول، من ناحية الاعتراف بصفتها «المسكونيّة» العالميّة، والاعتراف بتمثيلها للملايين من أتباع هذه الطائفة في العالم، وخصوصاً السماح بإعادة فتح مدارسها الدينيّة التي تخرّج الرهبان والكهنة.
الملامح الأولية للتسامح التركي، تبلورت على مرحلتين: الأولى، ظهرت خلال الزيارة اليونانيّة في الأسبوع الماضي، على لسان أردوغان نفسه، الذي لمّح إلى وجود «بحث داخل الحكومة التي ستفعل كل ما يمكنها فعله لإيجاد حلّ للكنيسة الأرثوذكسيّة ولتسهيل أمورها». أمّا الإشارة الأوضح، فجاءت على لسان وزير الخارجيّة علي باباجان، في نهاية الأسبوع، خلال مشاركته في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، حين قال بوضوح إنّ حكومته ستسمح بإعادة افتتاح المدارس الدينية للطائفة الأرثوذكسيّة، كما ستفتتح قسماً للعلوم اللاهوتيّة، حسبما كشفت عنه صحيفة «حريات».
قد تبدو قصّة البطريركية، هامشيّة، مقارنة بالملفّات الضخمة التي تواجهها تركيا داخليّاً وخارجيّاًَ. غير أنّ الحقيقة ليست كذلك، إذ إنّ هذا الموضوع يحمل وجهين، أوّلهما تركي محلّي، والثاني أوروبي.
مؤسّسة الكنيسة الأرثوذكسيّة في إسطنبول هي من الأقدم في التاريخ. عمرها 1100 عام، حيث إنّ إسطنبول اليوم، القسطنطينيّة في الأمس (تغيّر اسمها عام 1453)، كانت عاصمة الإمبراطوريّة البيزنطيّة، مركز المسيحيّة الشرقيّة. ولا تزال كنيستها حتّى اليوم، عاصمة هذه الطائفة الشرقية، كما هي الحال مع الفاتيكان بالنسبة إلى الطوائف الكاثوليكيّة الغربيّة.
وعام 1971، أُقفل معهد «هالكي» الديني في جزيرة هايبليادا، وهو المعهد الذي يعود تأسيسه إلى قرون مضت، ويُعنى بتدريس الطلاب اللاهوت وتخريج الكهنة والرهبان، بمعنى آخر، فإنّ هذا المعهد كان يُوصَف بأنّه خزّان الأجيال الأرثوذكسيّة، حيث خرّج معظم المسؤولين الدينيّين الحاليّين، بينهم البطريرك الحالي برثلماوس الأول. والإقفال حصل تطبيقاً لقانون أصدرته الحكومة الموالية للعسكر في أنقرة، حيث رأت بموجبه أنّ المؤسّسات الدينيّة، يجب أن توضع، أسوة بالمؤسّسات التي تقدّم التدريب العسكري، تحت إشراف الدولة، من ناحية الإدارة والتعيينات والتمويل... وهي صورة من صور العلمانيّة الفريدة عن باقي التجارب العلمانية في العالم، حيث العلاقة بين الدولة والمؤسّسات الدينية، لا تقوم على الحياد، بل على اعتبار هذه المؤسّسات جزءاً من البيروقراطيّة الحكوميّة.
ويُعدّ هذا الموضوع، منذ أفصحت أنقرة عن رغبتها بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في خمسينات القرن الماضي، موضع ضغط أوروبي على حكّام أنقرة؛ فالاتحاد يصنّف الوضع غير المريح لمسيحيّي تركيا (أقلية تقدَّر بـ1 في المئة من الأتراك)، تحت خانة «النقص في الحريات الدينيّة». ولمّا كان السعي كبيراً إلى تضمين دستور الاتحاد عبارة تفيد أنّه «مسيحي الثقافة»، فإنّه لا يمكن قبول عضويّة دولة ذات غالبيّة إسلاميّة ساحقة، تضيّق الخناق على مسيحيّيها وعلى مؤسّساتهم، وخصوصاً في ضوء التحذير الأخير الذي أطلقه برثلماوس، والذي عبّر فيه عن مخاوفه من «انقراض» و«موت» كنيسته إذا لم يتمّ إعادة فتح معهد «هالكي».
انطلاقاً من هذه المعطيات التي تعطي هذه الكنيسة قيمة فائقة الأهميّة في علاقة أنقرة مع بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، يبدو أنّ الحكومة التركيّة قرّرت محو الإرث العسكري في التعاطي مع هذه القضيّة الحسّاسة. ومصدر الغرابة في الأمر أنّ حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، هو حزب إسلامي (وإن كان معتدلاً)، ورغم ذلك، قرّر فتح آفاق حريّة التعليم وإعطاء استقلاليّة التنظيم حتّى لغير المسلمين (بعدما قرّر التسامح مع المسلمين العلويّين الذين يمثّلون نحو 20 في المئة من سكّان البلاد)، على عكس تعامل الأحزاب العلمانيّة التي حكمت طيلة عقود، وأحكمت الطوق على سلوك المتديّنين، تحت شعار العلمانيّة.
رئيس وزراء اليونان، ووزيرة خارجيّته، دورا باكايونيس، عرفا كيف يخاطبان نظيريهما التركيين. قام كرامانليس، وقال في أنقرة بوضوح: «أنتم (الأتراك) تملكون بين أيديكم جواز سفر للعضوية الأوروبية، وجواز السفر هذا ليس سوى اعترافكم بمسكونيّة (تمثيل أرثوذكسيّي العالم) الكنيسة الأرثوذكسيّة». أمّا رئيسة الدبلوماسيّة اليونانيّة، فأوضحت بدورها الموضوع أكثر: «نحن على ثقة بأنّ على تركيا الاستفادة من وجود البطريركيّة المسكونيّة على أراضيها، لأنّ هذه الأخيرة هي أفضل سفير لتركيا الأوروبيّة».
باباجان لاقى الإشارات الإغرائيّة بمثلها، فأكّد أن حكومته ستفتح النقاش في الموضوع على مصراعيه، بما أنّه «يجب عدم تناوله ك «تابو (محرّمات)» وسنأخذ بالاعتبار جميع الحلول». أمّا مستشار أردوغان للشؤون الخارجيّة، إغمين باكيش، فوزّع في حديث لصحيفة «زمان»، ملاحظات أكثر انفتاحاً، لافتاً إلى أنّ «الكنيسة لم تولَد في الأمس، فهي جزء لا يتجزّأ من تاريخ تركيا، لذا يجب إعادة النظر في التعاطي الرسمي معها».