حسن شقراني
الثقة بأميركا «سلعة نادرة»... استعادتها تبدو مستحيلة

«حال الاتحاد» هذا العام لم تكن جيدّة. ربّما كانت الأسوأ في تاريخ الولايات المتّحدة، مع الركود المزعج الذي يعتري احتلال العراق، إضافة إلى الحرب التي يشنّها البيت الأبيض لملاقاة الكساد عند بداياته. ولعلّ أبرز ما جاء في خطاب الرئيس الأميركي، جورج بوش، الثلاثاء الماضي، هو أنّ «الثقة في اقتصادنا على المدى الطويل» هي الشعور المنطقي والواجب لأنّ أسس الاقتصاد سليمة، وإشارته إلى أنّ أميركا لا يمكنها أن تبقى معتمدة على النفط، لمصلحة استمرار ازدهارها ونموّها، وعامة من أجل أمنها القومي.
النقطة الأخيرة تبدو، حتى الآن، معقّدة جدّاً بالنسبة لأميركا، المستهلك الأوّل للنفط في العالم؛ فمع استمرار اعتمادها على نفط الخارج، وعدم نجاح بوش خلال جولته الخليجيّة الأخيرة في «إقناع» زعماء النفط بزيادة إنتاج «أوبك»، تبقى الأمور على ما هي عليه: الولايات المتّحدة متعطّشة للنفط الذي تبطئ أسعاره المرتفعة من عجلة اقتصادها، مع بقاء كميّاته المعروضة عند مستوياتها.
ويجدر في هذا الصدد إدراج ما سرّب عن المسؤولين في «أوبك» عن اجتماعهم اليوم. فقد لفتت تقارير إعلاميّة أمس إلى أنّ من المتوقّع إبقاء الإنتاج ثابتاً نظراً لاقتراب موعد إجراء المصافي عمليّات صيانة ينخفض خلالها الطلب بنحو مليوني برميل يومياً.
وإذ يشدّد المسؤولون على أنّ غالبيّة وزراء نفط دول «أوبك» غير راضين عن السعر الحالي المرتفع، يجدّدون تأكيدهم على أنّ السوق هي التي تحدده، لأنّ عوامل سياسية ومضاربات وزيادة استثمارات الصناديق في سوق النفط كلّها تسهم في ارتفاع الأسعار.
أمّا الموضوع المتعلّق بعجلة الاقتصاد الأميركي عامة، فيصحّ إدراج معالجته، بحسب التطوّرات السريعة، على الشكل الآتي:
كشف مكتب التحقيقات الاتحادي الأميركي «أف بي آي» أمس، أنّ التحقيقات الجارية في قضايا متعلّقة بأزمة الرهونات العقاريّة (ومرتبطة بـ14 مؤسّسة ومصرفاً) ستمتدّ لتطاول شركات أخرى، إلّا أنّ نتائجها ستأخذ وقتاً كي تتبلور نظراً للتعقيدات التي تعتريها؛ فهي تتعاطى مع نظام مالي إلكتروني متداخل الشبكات والمتاهات وتأمل الكشف عن فساد في نظم المحاسبة، و«التجارة الداخليّة» إضافة إلى خروق أخرى للقانون الفدرالي.
غير أنّ ما أثبتته تجربة «المضارب الخارق»، الفرنسي جيروم كيرفييل، في التعاطي مع أصول وأرباح مصرف «سوسييتيه جنرال» خلال السنوات الثلاث الماضية، تبرز أنّ للمتعاطي مع الإحداثيّات الماليّة في البعد الوهمي (بيع السندات والعملات والأسهم وشراؤها بواسطة حاسوب مرتبط بكل بوصات العالم وبتعقيدات بحجم العقود الآجلة) هامشاً ملحوظاً للمناورة لدى المساءلة. وبالتالي، فإنّ التحقيق الدائر داخل الدوائر الماليّة من شركات مضاربة ومؤسّسات قروض ومصارف، يبدو غير مجد، إلّا إذا حتّم الأمر على المؤسّسة المستهدفة كشف الفضائح (وهو ما حدث مع «سوسييتيه جنرال» تجاوباً وخوفاً من انعكاس الأزمة التي يمرّ بها الاقتصاد الأميركي على الاقتصاد الكوني).
فقد بلغت تعقيدات النظم الماليّة درجة، يبدو مستحيلاً عندها البحث في الأسس القانونيّة: فالعولمة أصبحت بكلّ بساطة خارج القانون الاقتصادي (وهي تخطّت حتماً عتبات القانون الإنساني)، وهو ما ينعكس لدى الرأي العام الفرنسي «تكريماً» لكيرفييل، الذي استطاع إثبات أنّ «النظام الذي يخنقنا» ليس خارج الزمن.
مسألة أخرى يُجدي البحث فيها في هذا السياق، هي أنّ الاحتياطي الفدرالي الأميركي أجرى خفضاً جديداً للفائدة أوّل من أمس، بلغ نصف نقطة، لتصبح الفائدة الأساسيّة 3 نقاط فقط، بغية منه لإراحة الأسواق «التي لديّ ثقة عظيمة بها»، على حدّ تعبير وزير الخزانة الأميركي، هنري بولسون (موضوع الثقة يتكرّر هنا أيضاً). وتبدو هذه الخطوة ملحّة، خصوصاً بعدما أفادت المعطيات الاقتصاديّة بأنّ الربع الأخير من العام الماضي سجّل نسبة نموّ 0.2 في المئة فقط، ليكون النمو الكامل الذي شهده الاقتصاد العام الماضي 2.2 في المئة، وهي النسبة الأقلّ منذ 5 سنوات، وتشير من دون شكّ إلى أنّ «الاقتصاد هو على شفير كساد، إن لم يكن فيه أساساً»، حسبما علّق الخبير الاستراتيجي في حقل المضاربة في شركة «ميلر تاباك» في نيويورك، بيتر بوكفار.
وإجراءات الاحتياطي الفدرالي «اليائسة» تأتي فيما لا يزال بت مسألة رزمة الإنقاذ معلّقاً، مع بروز الاختلافات حول حجم الإنفاق المتوخّى ونوعيته، بين البيت الأبيض ومجلس النوّاب من جهة، وبين مجلس الشيوخ الذي طرح أمس سلّة من الخفوض الضرائبيّة تبلغ قيمتها 157 مليار دولار، وتنافس ما يطرحه سيد البيت الأبيض.
ما يمكن استخلاصه من دعوات بوش، ومما يحدث حقاً في الأسواق النفطيّة و«البعد الوهمي» للمبادلات الماليّة، يفيد بأنّ «الثقة» التي يدعو البيت الأبيض المستثمرين إلى التحلّي بها لدى معالجة خياراتهم في ما يتعلّق بتوظيف أموالهم، «لأنّ ما يهمّ هو المدى الطويل»، أصبحت سلعة نادرة بالنسبة لأميركا.