strong>حسن شقراني
انهارت المنظومة الاشتراكية. نشأت روسيا. سرح ثعالب الرأسماليّة في ربوع مؤسّساتها الرسمية الجاهزة كي تُغتصب بأدوات خصخصة، ليست مقوّمات اندماجها في بنية اقتصادية ـــ فكرية سوى محصّلة ليأس أيّ روسي من كلّ ما هو «موجّه»

عندما انهار حائط برلين في تشرين الثاني عام 1989، كان فلاديمير بوتين لا يزال جاسوساً لجهاز الـ«كي جي بي» في الشقّ الشرقي من المدينة المقسومة منذ 28 عاماً. فترة اقتضاها التحوّل ما بعد الحرب العالميّة الثانية كي يؤدّي انهيار الاتحاد السوفياتي دور بيسمارك في نهاية القرن العشرين، ويعيد الزمن إلى ما قبل البولشفيك وإلى ما قبل البيان الشيوعي حتى.
عاد بوتين إلى مسقط رأسه في سان بطرسبورغ. عمل في بلديّة المدينة المنتمية إلى بلاد مستقلة حديثاً، لكن مشرذمة بفعل إرهاق البلوغ ووطأة الأوليغارشيّة. تعلّم التكنولوجيا السياسيّة. انخرط في النظام. تطوّر ليُستدعى عند بداية الألفيّة الجديدة كي يرأس البلاد، ويخلّصها من يدي سلفه بوريس يلتسين.
من المنطقي بدء الحديث ببوتين، رجل عام 2007 بحسب مجلّة «تايم»، لدى تقويم حراك «روسيا الجديدة» سياسياً واقتصادياً، داخلياً وخارجياً، خلال العام نفسه واستشراف ما يخبّئ العام المقبل. كما أنّ الحديث عن عودة التوازن الدولي، ليس إلّا أساسياً في أداء «كرملين بوتين» خلال ولايتين في مواجهة بيت أبيض مرهق. وليس «المعنى الأخلاقي» سوى الشقّ الوحيد الممكن التطرّق إليه في بناء نظريّة نقدية تعالج الخصوصية الروسية.
لعلّ الديموقراطيّة الروسيّة لا يمكن أن تكون إلّا سياديّة (ديموقراطيّة موجّهة وديكتاتوريّة توافقيّة). ليس جليّاً إن كان العكس صحيحاً (تاريخ روسيا المستقلة والمستعيدة العافية لا يزال في بدايته). والمحتّم أنّ هذا المفهوم الاجتماعي السياسي المبني على إدارة جيّدة للقدرة الاقتصادية وللإرث العسكري والمعرفي، مقبول داخلياً. فكلمة السرّ: بوتين (رجل العام بحسب الروس أنفسهم بمبايعة تفوق نسبتها الـ80 في المئة من الشعب)، ومن اختاره الأخير لكي يكمل المسيرة (في سدّة الرئاسة بعد الانتخابات الرئاسيّة في آذار المقبل)، نائب رئيس الوزراء ديميتري ميدفيديف، يحظى منذ الآن بتأييد أكثر من 65 في المئة من الروس.
روسيا مستقرّة داخلياً:
موضوع الشيشيان انحسر بحوادث متفرّقة عبارة عن قنابل ومفرقعات. المعارضة اقتنعت بعدم إمكانها تحقيق مكاسب (مرشّح «روسيا الأخرى»، غاري كاسباروف، انسحب من السباق الرئاسي وكذلك فعل زعيم «اتحاد القوى اليمينيّة» بوريس نيمتسوف).
وميدفيدف، رغم وجهه البشوش للغرب وتألّقه في منتدى دافوس في الألب السويسريّة في كانون الثاني من العام الماضي، ما يريح النخب الغربيّة المنادية بـ«روسيا ديموقراطية»، أكّد بعد إعلان ترشيحه من الحزب الحاكم (روسيا الموحدة) أنّه «لم يعد في وسع أحد تلقيننا دروساً وكأننا تلاميذ. الجميع يحترمنا ويأخذ رأينا في الاعتبار. روسيا استعادت مكانة تليق بها ضمن الأسرة الدولية».
في 21 من الشهر الماضي، قبل 11 يوماً من انتخابات الـ«دوما» التي اكتسحها «روسيا الموحدة» (بلائحة يرأسها بوتين)، وصف سيد الكرملين معارضيه بأنّهم «ثعالب يتلقون الأوامر من السفارات الغربيّة». هذه هي طريقته في التعاطي مع الداخل (تفتقر للمعاني الأخلاقيّة)، إلا أنها تفيد بخلاصة واحدة: كي تعيد روسيا إلى أمجادها القيصرية عليك احتواء الأعداء، ومنهم الداخليون، قبل أن يكبروا.
في شباط الماضي، وخلال مؤتمر للأمن الدولي، أطلق بوتين رصاصة الرحمة على آخر ما بقي من «مهادنة روسية» مع الغرب (كان أوجها في قمّة التنسيق مع إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش في مكافحة الإرهاب الدولي، مباشرة مع هجمات 11 أيلول 2001): «الولايات المتحدة تخرج من حدودها الوطنية في جميع المجالات، وهذا خطير للغاية. لم يعد أحد يشعر بالأمان».
«سنوجّه صواريخنا نحو أهداف جديدة في أوروبا»، كان ردّه في حزيران الماضي على إصرار واشنطن المضي قدماً في نشر الدرع الصاروخيّة في بولندا وتشيكيا. وهو الخطاب الذي تضمّن التبشير بالانسحاب من معاهدة القوّات التقليديّة في أوروبا، التي كانت إلى حد زمني معين تعتبر اللافتة لانتهاء الحرب الباردة وتكديس ترسانات الأسلحة عند الستارة الحديديّة في أوروبا. وهو الخطاب الذي تبعه أيضاً الكشف عن برنامج لتطوير الترسانة النوويّة (السلميّة والحربيّة) ببرنامج يمتدّ حتى عام 2015.
موسكو تطالب بمزيد من الحقوق القديمة التي جردتها منها حقبة «الذلّ» (الأساس الأخلاقي لخطاب بوتين) وبعائدات أكبر للحقوق المستجدة التي أمنها لها النفط والغاز. وهي بدأت باستخدام سلاح الطاقة حيال بلدان مجاورة (أوكرانيا ودول البلطيق الثلاث) وحيال أوروبا بأكملها حتى؛ فالقارة العجوز لا تزال تعتمد في أكثر من خُمس احتياجاتها النفطية على الجار الشرقي، الذي يؤكّد على تمسّكه بامتداده الأوروبي (وإن يتعارض مع نزعته التوسعيّة، المترجمة سيطرة في الجوار ونفوذاً عبر المحيطات).
موسكو تستطيع المطالبة بدور أوسع؛ ففي تقويمه الأخير لأداء الاقتصاديات النامية، أوضح تقرير «غولدمان ساكس» أنّ روسيا تفوقت على الصين، إذ تمكّنت من الانتقال من المركز الـ140 إلى المركز الـ66 خلال 10 سنوات فقط، وهي التي يعد اقتصادها الثامن عالمياً (بعد فرنسا مباشرة) الآن بحسب تقرير البنك الدولي المعتمد على معايير القدرة الشرائية.
إنجازات روسيا التي تحققت منذ تسلم بوتين مفاتيح الكرملين، جعلت منها نداً دولياً في جميع الملفات، بدءاً من كوسوفو، وصولاً إلى إيران، عبر دبلوماسية تعتمد خلط الأوراق.
عادت لتبقى
في استشراف لتحدّيات العام المقبل، يمكن إلقاء الضوء على تشديد ميدفديف على أنه الضامن لسياسة بوتين. وتأكيداً على هذه الاستمرارية السياسية، طلب من بوتين تسلّم رئاسة الوزراء في حال انتخابه (وهو قبلها). وفي هذه الحالة، سيبقى بوتين ممسكاً بزمام الأمور، إن بصلاحيّات فائقة في رئاسة الحكومة، أو بمنصب مستجد كرئاسة الوحدة الروسية ـــــ البيلاروسية، التي توفِّر صلاحيات أكبر من تلك التي تتمتع بها الحكومات الوطنية.
ومن هذا المنطلق يمكن تحديد روسيا العام المقبل بالعناوين التالية:
1ـــــ النخبة الحاكمة التي يتزعّمها بوتين، وهي تتألف بغالبيّتها من رجالات طينتهم «سوفياتيّة» (معظمهم عملاء سابقون في الـ«كي جي بي») ستبقى ممسكة بزمام الأمور، وإن بواجهة أكثر لبراليّة ولطافة.
2 ـــــ النمو الاقتصادي الروسي سيستمرّ وستمضي شركة «روزوبورونكسبورت»، المسؤولة عن «التأميم الحديث»، بعملها وتمتين مفاصل «السياديّة». وسيكبر تأثير سلاح الطاقة مع ارتفاع أسعار النفط.
3 ـــــ «العامل الروسي» في الملفّات الدوليّة سيزداد نفوذاً لسبب بسيط: قوميّة تدعم الحكم، وتتقاطع مع رغبة باستعادة التأثير لـ«إعادة الإمبراطوريّة».
مع انتهاء العام، يمكن استذكار إشارة بوتين إلى أنّ انهيار الاتحاد السوفياتي كان أكبر كارثة في القرن العشرين. يبدو من طلائعه أنّ هذا القرن هو لـ«إعادة الأمجاد القيصرية».