strong>طوني صغبيني
فيما يختتم العملاق الآسيوي خلال الأيام القليلة المقبلة إحدى سنواته الصاخبة في مجالات الاقتصاد والأمن والسياسة الخارجية، يجدّد المحللون تفاؤلهم بتحوّل الصين «تنيناً أكبر» للقرن الواحد والعشرين يوازن الإمبراطورية الأميركية ويُدخل العالم في حقبة التعددية القطبية

الصين هي اليوم ثاني أكبر اقتصاد عالمي من حيث الإنتاج، وقد بلغت نسبة نموها العام الماضي أكثر من 11.5 في المئة، وهو معدل خيالي لمعظم دول العالم. وارتفعت الصادرات الصينية إلى أرقام قياسية، إذ بلغ العجز التجاري الأميركي مع بكين أكثر من 250 مليار دولار، ووصل العجز التجاري الأوروبي إلى 24 مليار دولار شهرياً، فيما كدّس البنك المركزي الصيني أكبر احتياطي من العملات الصعبة في العالم (1.3 ترليون دولار أميركي).
ترافق ذلك مع خطوات داخلية حثيثة هدفت إلى ترجمة القوة الاقتصادية في السياسة. واتخذ الحزب الشيوعي الحاكم، المعروف بـ«تقديسه» السابق لاستراتيجية خارجية محورها تجنّب المواجهات وإعطاء النمو الاقتصادي الأولوية على السياسة، قرارات مهمة بدت مسيّسة أكثر فأكثر.
وعلى الصعيد السياسي، حافظ الحزب الشيوعي على حزمه المعهود في مؤتمره العام السابع عشر، فشدّد على استمرار سيطرته الكاملة على السلطة، رغم التخفيف الطفيف لبعض القيود السياسية المتعلقة بحرية الرأي والتعبير، ولا سيما الدينية منها. وقد ضمن المؤتمر انتقالاً هادئاً للسلطة بعد انتهاء ولاية الرئيس الحالي هو جنتاو، بإدخال عناصر شابة إلى اللجنة المركزية للحزب وكبح أي صراع ممكن على النفوذ بين كوادره الكبرى.
عسكرياً، الحديث عن انعكاسات إعادة هيكلة الجيش الصيني وتحويله من جيش دولة إلى جيش إقليمي يبسط نفوذه في منطقتي آسيا الشرقية والوسطى، بات روتينياً في التقارير الأميركية اليومية الواردة إلى البيت الأبيض، وتحوّل إلى همّ أساسي لصنّاع القرار في منطقة الهادئ.
كذلك ظهر التقدّم الصيني بوضوح في مجالات العلاقات الخارجية، حيث ترفع بكين الشعار القائل بأن نموها «يمثل فرصاً كبرى لا تحدياً كبيراً». وفي هذا الإطار، يمكن اختصار العام الماضي بتسميته «عام توثيق الصلات الصينية مع العالم».
ويستعمل قادة الدولة تعبير «الشراكة الاستراتيجية» لوصف العلاقة مع أهم القوى العالمية، مثل روسيا واليابان والهند التي شهدت علاقاتها قفزة كبرى مع بكين العام الماضي، وذلك بعد فتور سابق. ويتكرر المشهد مع الدول الأوروبية، التي حافظت على موقعها شريكاً تجارياً أول للصين.
كذلك شهدت علاقات الدول النامية مع العملاق الآسيوي فورة مشابهة، يحرّكها بشكل أساسي الظمأ النفطي لثاني أكبر مستهلك للطاقة في العالم بعد الولايات المتحدة. وقد ربطت بكين المساعدات السياسية والاقتصادية وصفقات الأسلحة، التي تؤمنها لهذه الدول، بتوقيع العقود النفطية البالغة مليارات الدولارات، وخاصة في أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط. أما التطور الأهم في المجال الخارجي فكان بامتياز اتفاق شباط الشهير مع كوريا الشمالية، والذي كرّس حلًّا سليماً لأزمة شبه الجزيرة الكورية المستمرة منذ خمسين عاماً، بعدما أزاح عبئاً هائلاً عن كاهل بكين مضفياً صدقية جديدة على سياستها الخارجية.
تضاف إلى ذلك ملامح التحوّل في منظمة شانغهاي، التي تضم روسيا والصين وبعض جمهوريات آسيا الوسطى، إذ تتطور المنظمة بثبات من رابطة اقتصادية إلى كيان إقليمي ذات تطلعات سياسية واقتصادية طموحة.
لكن التقدم هذا يحمل في طياته تحديات جمّة، أولها ناشئ عن الانفجار الاقتصادي نفسه. ويرى محللون أن الأزمات الصينية المقبلة قد تنشأ عن النتائج غير المنظورة لـ«النمو الزائد»؛ فالتضخم المتصاعد الناجم عن فائض الميزان التجاري ينذر بأزمة كبرى قد تطيح الجزء الأكبر من النمو. وقد حاولت القيادة الصينية حتى الآن معالجة ذلك بخفض الفوائد ورفع الدعم عن بعض القطاعات الصناعية وتحرير العملة تدريجياً، من دون نجاح يذكر في لجم النمو. يضاف إلى ذلك تزايد الفساد في أجهزة الدولة أمام مغريات النمو والربح، حيث أعلنت بكين أنها أوقفت وحاكمت السنة الماضية 97260 عضواً في الحزب الشيوعي موظفين في الإدارات الحكومية.
كذلك فإن التفاوت الاقتصادي الخيالي بين فئات السكان وجنوح بعض المناطق الغنية نحو الانفصال يقلقان القيادة الصينية التي تحاول درء ذلك باعتماد سياسة «المجتمع المتجانس» بهدف تثبيت دولة الرعاية الاجتماعية وتنمية المناطق الفقيرة.
لكن التحدي الأكبر للاستقرار الداخلي هو الحراك السياسي الذي يعدّ نتيجة طبيعية للرخاء الاقتصادي وازدياد الحضور الصيني في الخارج. ولم تنجح بكين حتى الآن في إيجاد نموذج مستقر للمشاركة السياسية. ولا يزال هاجس بقاء الحزب في السلطة مطروحاً بقوة عند رسم سياسة الحكم. ظهر ذلك بوضوح خلال إعلان الصين عزمها على تأجيل الإصلاحات الديموقراطية في هونغ كونغ إلى عام 2020، رغم ما سيسببه ذلك من اضطرابات فيها.
وتضاعف عدد الاعتقالات السياسية خلال العام الماضي، فبلغ 604 بالمقارنة مع 296 في العام الذي سبقه، وشنّت السلطات حملة إغلاق للمجلات والمواقع الالكترونية المعارضة قبيل انعقاد مؤتمر الحزب الحاكم.
ومن المتوقع أن تتصاعد وتيرة النقاش الداخلي باطراد مع تزايد المسؤوليات الخارجية، ولا سيما بعد تعرّض المنشآت الصينية النفطية في نيجيريا والسودان لهجمات شبه دورية من متمردين، وإطلاق متمردي دارفور تهديداً جدياً بمعاملة القوات الصينية في الإقليم بصفتها قوات احتلال. ولعلّ ذلك كان ابرز إشارة في العام الماضي إلى تحوّل الصين إلى قوة عظمى.
كذلك الثمن السياسي للنمو يرتفع، وأبرز محطاته الخلاف الاقتصادي الأميركي ـــــ الصيني الذي فشل قادة البلدان في حلّه في الاجتماع الاستراتيجي الشهر الماضي. ويتجلى الخلاف أساساً بانخفاض قيمة اليوان، الأمر الذي يكسب السلع الصينية تفوقاً على نظيرتها الأميركية ويؤدي إلى عجز أميركي بمليارات الدولارات، وإلى ارتفاع «المشاعر الحمائية» في البلدين، التي بلغت ذروتها الشهر الماضي في قضية الألعاب الصينية التي سحبت من الأسواق الأميركية بحجة عدم ملاءمتها الصحية.
وقد يكون «التحرّش» الأميركي المستمر بالتنين الأصفر في ميانمار والتيبيت وتايوان، هو ترجمة الخلاف الاقتصادي في السياسة. ولعلّه في الوقت نفسه يهدف إلى إلهاء بكين بقضايا داخلية وحدودية وإقليمية تعوق «عولمة» نفوذها. وهي بالفعل تعاني جدياً في مجالها الإقليمي، ومشاكلها في هذا الإطار عديدة؛ فالخلاف مثلاً على بحر الصين الجنوبي (غني بالنفط) يضرّ بعلاقاتها مع اليابان ومع دول جنوب شرق آسيا، وهو شديد الأهمية لأمنها ونموها ولن يلاقي على الأرجح حلًّا قريباً. وتايوان هي تهديد دائم و«بديل» ناجح اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وجاهز دوماً لتنغيص الأوضاع في البر الرئيسي. وما يزيد الأمر صعوبة أن جيران الصين هم بدورهم قوى إقليمية وعالمية كبرى (روسيا والهند واليابان) تنافسها في طموحاتها الإقليمية والعالمية، وبالتالي تقاسمها النفوذ.
يمكن القول إنه رغم تثبيت الصين موقعها قوةً إقليمية مهيمنة، واقتصاداً ضخماً لا يمكن تجاوز مفاعيله، فإن تقدمها في السنوات المقبلة لن يسير على «طريق الحرير»، وهو مرتبط خصوصاً بكيفية إجابتها على التحديات الداخلية والإقليمية القريبة قبل التحوّل إلى قطب عالمي حقيقي.