حيفا ــ فراس خطيب
«تكسير عظام» واغتيالات... والنتيجة «أوسلو»


في الثامن من كانون الأول عام 1987، هبّ الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة على الاحتلال الإسرائيلي، في تحرك أدخل إلى قاموس الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي كلمة جديدة اسمها «الانتفاضة».
كان حكام الدولة العبرية، الرافضون لأي تسوية مع «العرب من وراء الحواجز»، يؤمنون برؤية «الاحتلال المتنور». يعتقدون بأنّ الشعب القابع تحت وطأة الحواجز والاحتلال ومكاتب الارتباط والادارة المدنية، «لم تكن حالته أفضل ذات يوم». فلم يكن مصطلح الشعب الفلسطيني وارداً في قواميسهم السياسية، وبات الاعتراف بحقوقهم، بطبيعة الحال، بعيداً عن «الواقع الاسرائيلي». في أحسن الحالات، كانوا يطلقون عليهم اسم «مجموعة إثنية»، أو «هؤلاء العرب».
كانت المناطق الفلسطينية المحتلة قبل الانتفاضة الأولى، مرتعاً للنظرة الاستعلائية الإسرائيلية. كان انطباع الإسرائيليين عن الضفة الغربية وقطاع غزة، صورة تتلخص بـ«عامل فلسطيني خنوع قادم من غزة ليعمل بأبخس الأثمان في ميادين تل أبيب ويتحدث العبرية بصعوبة».
رأت الدولة العبرية في المناطق المحتلة «مصدراً للأيدي العاملة الرخيصة»، فاستغلتها أبشع استغلال. قطاع غزة كان «سوق خضر» للتجار والسكان، ولا يضر أيضاً تصليح السيارات في كراجات الضفة الغربية.

الزمن الأصفر!

لأربعين عاماً، نظر الإسرائيليون إلى الفلسطينيين «من فوق»، أو «من منظار البندقية»، كما قال احد الصحافيين الاسرائيليين. وقبل ستة أشهر من اندلاع الانتفاضة الأولى، سافر الكاتب الإسرائيلي، دافيد غروسمان (قُتل ابنه الجندي في عدوان تموز)، إلى المناطق المحتلة وقضى سبعة أسابيع هناك.
كتب غروسمان سلسلة تحقيقات ميدانية عن أوضاع الفلسطينيين، صدرت في ما بعد في كتاب اسمه «الزمن الأصفر»، قال فيها «كان واضحاً بالنسبة لي أنَّ إناء الضغط سينفجر قريباً».
عندها، هاجم رئيس الحكومة الاسرائيلية اسحق شامير غروسمان وقال له «توقف عن اختراعاتك الأدبية. الفلسطينيون لم يعاصروا حياة أفضل من تلك التي يعيشونها الآن. لن يحتجوا، لا سبب لأن يحتجّوا».
غروسمان لم يكن الصحافي الإسرائيلي الوحيد الذي تنبأ. ففي فترة سبقت الانتفاضة، شهد الشارع الفلسطيني «غلياناً صامتاً» وروحاً اندفاعية، فقرر الصحافي الاسرائيلي، يورام بينور (في القناة الثانية اليوم)، التخفي بصفة فلسطيني والعيش في المناطق المحتلة.
قضى بينور فترة لا يستهان بها متنقلاً بين اسرائيل والمناطق المحتلة. وفي تقرير للقناة الاسرائيلية الثانية، كشف عن تلك الفترة بالقول: «قصتنا (الاسرائيليون) في المناطق المحتلة لن تستمر طويلاً»، وتابع «علاقتنا بالفلسطينيين لن تظل علاقة بعامل غزاوي في تل أبيب».
بعد شهور، اندلعت الانتفاضة، التي فاجأت الاسرائيليين وخلقت استقطاباً تضامنياً منقطع النظير. صار رمزها الحجر. لم تكن هناك عبوات ناسفة ولا حركات تتصارع على سلطة ولا أسلحة موجهة لصدور حامليها. كان الجميع موحداً من وراء الحجر، وعبوة «المولوتوف» والمقلاع الصغير. لم تكن هناك مصطلحات «مسلحين فلسطينيين» ولا «عبوات ناسفة». كان المصطلح التحذيري الاكثر شيوعاً بين جنود الاحتلال: «كمين حجارة بناء».

ارتباك في «الأركان»

كانت القيادة العسكرية الاسرائيلية مرتبكة للغاية. وبعد عشرين عاماً، كشفت القناة الاسرائيلية الثانية الفوضى العارمة التي ألمّت في جلسة في ديوان وزير الدفاع الاسرائيلي اسحق رابين في العاشر من كانون الأول.
في تلك الجلسة، قال قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي، اسحق مردخاي، «هذه ليست موجات عابرة كتلك التي عرفناها. هؤلاء ليسوا عشرة أو عشرين طفلاً يخترقهم جيب عسكري فيتفرقون. هؤلاء كثيرون، يحملون الحجارة والمولوتوف. الرصاص لا يوقفهم. ليسوا أطفالاً فقط. فيهم من كل الاجيال، وكبار سن أيضاً». وتابع «من دون تركيز قوتنا، سنواجه موجة عارمة أخرى».
هذه المباحثات دفعت المستويات العسكرية إلى استعمال المزيد من القوة، المزيد من هدم البيوت، المزيد من «السياسة الصارمة»، التي جاء منها قرار وزير الدفاع اسحق رابين: «كسروا عظام المتظاهرين»، وهو ما ظهر علناً في مشاهد مصورة لجنود إسرائيليين وهم يكسرون عظام الأيدي والأرجل والرأس.
وكان للانتفاضة أثر واضح على الأجواء السياسية، فتدخّل الأميركيون، وعرض وزير الخارجية جيمس بيكر، في أيار 1989، اقتراحات تشتمل على وقف العنف، لكنها لم تنجح. وطلب شمعون بيريز وساطة المصريين للتدخل واقترح «التفاوض بشأن الوضع الاقتصادي»، لكن الفلسطينيين كانوا قد قرروا: «الانتفاضة لن تهدأ إلى حين إنهاء الصراع كلياً».

استهداف القيادة

أكسبت منظمة التحرير الفلسطينية، التي اتخذت تونس مقراً لها، الهبّة روحاً تنظيمية، فلجأ الإسرائيليون إلى سياسة الاغتيالات. وفي السادس عشر من نيسان من عام 1988، استطاعت سرية قيادة الجيش الاسرائيلي «سييرت متكال» بالتعاون مع عناصر من الموساد الاسرائيلي، الوصول الى شواطئ تونس، ومن ثم الى بيت أبرز قادة الانتفاضة، خليل الوزير (أبو جهاد) واغتياله وحراسه الشخصيين.
اعتقد الإسرائيليون أن اغتيال ابو جهاد سيسكت الانتفاضة، لكنه زادها اشتعالاً. وواصل الاسرائيليون سياسة تكسير العظام.
ووصل التحريض على الفلسطينيين إلى الشارع الاسرائيلي. ففي العشرين من ايار عام 1990، اقدم شاب إسرائيلي، يدعى عامي بوبر، على إطلاق النار صباحاً على عمال فلسطينيين في مدينة ريشون لتسيون، وهو ما أدى إلى استشهاد سبعة منهم.
وفي الثامن من تشرين الاول، في عام 1990، حاولت الحركة اليهودية المتطرفة التي تدعى «أمناء الهيكل» «وضع حجر الأساس للهيكل الثالث»، فانتقلت الاحتجاجات إلى فلسطينيي 48.

عودة رابين

بعد استعماله كل الأساليب الممكنة، اقتنع رابين، الذي انتخب رئيساً للحكومة في عام 1992، بأن الجيش لن يكسر عزيمة الفلسطينيين. وبدأت الاتصالات والمفاوضات بين منظمة التحرير والقيادة الاسرائيلية، وهو ما أنتج أوسلو، وبناء السلطة الفلسطينة، التي أسست لنهاية الانتفاضة الأولى بـ«نصر سياسي»، قبل أن تنطلق الانتفاضة الثانية في عام 2000، والتي انتهت إلى ما يشبه الكارثة الفلسطينية.