أرنست خوري
«مخاوف من مقتل أكثر من 100 مهاجر أفريقي غير شرعي على شواطئ جزر الكناري». «توقيف أكثر من 80 مهاجراً غير شرعي مختبئين في شاحنة في اليونان». «غرق مهاجرين مصريّين غير شرعيّين قبالة السواحل التركية والإيطاليّة»...
يكاد لا يمرّ يوم واحد، إلا وتعجّ فيه وكالات الأنباء العالمية بعناوين مماثلة. أرقام مخيفة من القتلى تخصّص لها زاوية من 100 كلمة في الصحف اليومية (هذا إذا كانت هناك مساحة). وجهة واحدة تتّخذها حركة المهاجرين: من الجنوب إلى الشمال.
«مهاجرون غير شرعيّين» عبارة تحمل في طيّاتها الكثير من التمويه، وحتّى التزوير. قد يجوز اقتراح تسمية بديلة أقرب إلى الواقع: «فقراء عابرون للحدود»، أو «مهمّشو العولمة». هم ضحايا العولمة الأوائل؛ فإذا كانت هذه العولمة قد فتحت الحدود أمام حركة انتقال البضاعة من وإلى الشمال والجنوب، فإنّ أبرز تجليّاتها التدميرية اجتماعياً واقتصادياً، يبقى إقفالها الباب أمام انتقال اليد العاملة الفقيرة إلى الغرب الرأسمالي.
في هذه النقطة، تُعدّ العولمة ظاهرة «رجعيّة»؛ فمرحلة ما قبل تبلورها في شكلها الحديث، شهدت «عصراً ذهبيّاً» لانتقال مجموعات كبيرة من شعوب الجنوب إلى الشمال، لكي يُسهم هؤلاء في إعادة إعمار أوروبا التي هدّمتها الحربين العالميّتين الأولى والثانية. وبغضّ النظر عمّا حصل لاحقاً عندما جرى استغلال هذه اليد العاملة ورميها كسلعة انتهت مدّة صلاحيتها، تبقى تلك المرحلة «تقدّمية» من ناحية أنها مكّنت مئات الآلاف من العمّال الآسيويين والأفارقة معدمي الأحوال، من تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، والمساهمة بفعّالية في تنشيط اقتصاديات بلادهم الأم من خلال التحويلات من العملات الصعبة التي يرسلونها إلى ذويهم.
أمّا اليوم، مع العولمة في أعلى مراحلها، فالمطلوب رأسمالياً هو عبور السلع والثروات الطبيعية، لا اليد العاملة. والسبب هو «الإنجاز» الأبرز الذي اخترعته العولمة، وهو سياسة نقل فروع الشركات إلى الدول حيث اليد العاملة رخيصة، بدل أن يأتي العمّال إلى أوروبا خصوصاً.
هذا عن الغرب. أمّا العالم العربي، فقدّم بدوره نموذجاً قد يكون الأكثر تعبيراً عن علاقة الحاكم العربي بمحكوميه. فمنذ ما يقارب شهر، توفّي ما يقرب من ثلاثين شابّاً مصريّاً غرقاً أمام السواحل الإيطالية، استقلّوا مركباً بدائيّاً وحاولوا العبور فيه من «الجحيم المصري» إلى «الجنّة الأوروبيّة»، مع علمهم المسبّق بأنّ حظوظهم بالنجاح ضئيلة.
حينئذ أصدر الأزهر فتوى حرّم من خلالها اعتبار هؤلاء شهداء، لأنهم «ذهبوا من أجل أطماع مادية فألقوا بأنفسهم إلى التهلكة». أمّا وزير الخارجيّة أحمد أبو الغيط، فلم يفوّت الفرصة ليلوم هؤلاء القتلى مبدياً استغرابه من السبب الذي يدفع المصريّين إلى الهرب من بلادهم، متناسياً أن نسبة الذين يعيشون تحت خطّ الفقر في مصر (بأقلّ من دولارين في اليوم)، وصل إلى 52 في المئة من الشعب المصري، أي 40 مليون مواطن.