بغداد- زيد الزبيدي
«مصر تكتب، لبنان يطبع والعراق يقرأ». كانت تلك المقولة سائدة في زمن النهضة العربية مطلع القرن الماضي، حين كان العراقيّون يفضّلون قراءة الكتب والصحف قبل تأمين قوتهم اليومي حتّى. أمّا في عراق اليوم، فباتت مهنة الصحافة مشروعاً يكاد يقتصر هدفه على تجسيد البرنامج الأميركي لـ«دعم الديموقراطيّة»، لكن هل من يقرأ؟

ما يلفت النظر في العراق هو العدد الهائل من الصحف، التي صدرت، ولا تزال، رغم الظروف الأمنية الصعبة، ورغم انقطاع الطرق وعزل المدن والمناطق بعضها عن بعض، وصعوبة التوزيع... وربّما انعدامه في الكثير من الأحوال.
وليس هناك إحصائيّة رسمية للصحف: كم عددها؟ وكم عدد العاملين فيها؟ أو عدد النسخ التي يتمّ طبعها؟ لأن إصدار الصحف في البلد المنفلت لا يحتاج إلى إجازة رسمية، حتّى نقابة الصحافيّين العراقيّين تكتفي بالاحتفاظ باسم المطبوع، من دون أن يكون ذلك ملزماً.
وحسب نقيب الصحافيّين العراقيين، شهاب التميمي، فإنّ عدد الصحف التي تصدر في بغداد وحدها يزيد على مئة، إضافة إلى ما يقارب هذا العدد من الصحف التي تصدر في المحافظات، وصحف أو مجلّات تصدرها بعض الوزارات والمؤسّسات الرسمية.
وإضافة إلى نقابة الصحافيّين، هناك جهة رسمية، هي وزارة التخطيط، تسجّل لديها الصحف التي تقدّر مدى استحقاقها للمساعدة والدعم، كجزء من نشاطات المجتمع المدني. إلّا أنّ المعروف في الأوساط الصحافية هو عدم وجود أيّ صحيفة تعتمد على إيراداتها الخاصة من المبيع، وأنّ الدعم غالباً ما يكون سخياً في حال ارتباطه بما يسمّى «برنامج دعم الديموقراطية» الأميركي، الذي ينفق ملايين، وربما مليارات الدولارات لمجرد إثبات وجود تعدّدية صحافيّة في العراق.
وتشير إحصائيّة أجرتها صحيفة «النهضة» المتوقّفة عن الصدور حاليّاً، التي كان يصدرها الدكتور عدنان الباجه جي، رئيس تجمّع الديموقراطيّين المستقلّين، إلى أنّ خسائرها بلغت ما بين 50 و60 ألف دولار شهريّاً، ولم تكن تطبع سوى 3000 نسخة، توزّع 1500 منها مجّاناً، بينما شهدت أيّام كثيرة مرتجعاً في الأعداد بنسبة 100 في المئة.
ومن أبرز الصحف التي تُطبع وتُوزَّع في العراق، صحيفة «الشرق الأوسط» الدولية (بـ16 صفحة فقط)، وكانت تطبع 5000 نسخة، تقلّصت إلى ما دون الـ2000، ويبلغ سعر طباعة النسخة الواحدة 360 ديناراً، بينما تُباع الصحيفة في البورصة اليومية للصحف بـ100 إلى 125 ديناراً، على أنّ تكلفة الطباعة هذه هي حصّة المطبعة فقط، لأنّ أفلام الصفحات تُرسل عبر الانترنت من لندن. بمعنى أنّ تجارة الصحافة في العراق خاسرة جدّاً، من دون وجود جهة دعم ذات إمكانات مادّية كبيرة.
ومعروف أنّ الصحافة في كل العالم تعتمد في جزء كبير من إيراداتها على الإعلانات، بينما ليس هناك إعلانات تذكر في العراق، بسبب توقّف الحركة الاقتصادية، الصناعية والتجارية والإعماريّة والخدمية، وغيرها... حتى إن وجدت إعلانات، فإنّها تُمنَح للصحف الرسمية فقط. لذا يُعدّ نشر البيانات والبلاغات العسكرية والأمنية لقوّات الاحتلال مصدراً إعلانياً مهماً. وفي هذا الصدد، لوحظت كثرة هذه البيانات، التي تصل إلى العشرات يومياً، وذلك ضمن أسلوب التكرار الذي يثبّت مصطلحات ومفاهيم معيّنة في أذهان الناس.
ولعلّ أغرب ما يمكن أن يُذكر في هذا السياق، هو أنّ القوات الأميركية اعتادت أن تصدر بلاغات عديدة عن خسائرها في العراق، وقد لاحظت الوكالة الوطنية العراقية للأنباء «نينا»، المهتمّة بمتابعة الإحصائيات ونشرها، أنّ الصحف المحلية «متأمركة» أكثر من الأميركيّين أنفسهم، لأنّها لا تنشر حتى البيانات الصادرة عن الجيش الأميركي، المتعلّقة بخسائره، وتكتفي بنشر عمليّاته الأخرى.
وكشفت مصادر صحافيّة عراقية، لـ«الأخبار»، أنّ بعض الصحف تنشر مواضيع، تحت أسماء صحافيّين تتسلّم عنها مبالغ تعادل أضعاف مبالغ الإعلان، وقد اتضح أنّ هذه الأسماء الوهميّة تنتمي إلى جهة واحدة، مرتبطة ببرنامج «دعم الديموقراطية».
على أنّ المراقب لا يمكن أن يتصوّر أن تكون جميع الصحف والإذاعات والفضائيات ومئات مواقع الإنترنت، مدعومة بشكل مباشر من الاحتلال، أو من الحكومة، لكنه في الوقت نفسه لا يمكن أن يقتنع بأنّ «المليونير الفلاني»، يصدر صحيفة ما، أو ينشئ فضائية وإذاعة ومواقع إنترنت، من أجل «الخسارة فقط»!
وفي رأي الدكتور عدنان الباجه جي، المتموّل جدّاً، فإن الصحافة «لا تجلب أصوات ناخبين، لأنّ هناك من يقرّر ويرسم السياسة في البلاد، وأنّ إصدار الصحيفة هو بشكل أو بآخر، يقتصر هدفه على برنامج دعم الديموقراطية».
ومع كثرة العناوين الصحافية، يُطرَح سؤال: من هم الصحافيون الذين يبلون كل هذا البلاء في إصدار الكمّ الهائل من الصحف والإذاعات والفضائيات؟ ويمكن إعطاء إجابة جزئية عن هذا التساؤل من خلال معرفة أنّ كلّ الأحزاب التي جاءت من الخارج، أو تشكّلت بعد الاحتلال، ليس لديها كوادر صحافية أو إعلاميّة، طرها إلى الاعتماد على صحافيّي المؤسّسات الإعلامية في النظام السابق، وعلى صحافيّين محترفين يعتمدون في مصادرهم على محرّرين ثانويّين ممّن لهم صلات بالأحزاب. وحتى مراسلو الوكالات والصحف العربية والأجنبية، يعتمدون في عملهم على شراء المعلومة أو الخبر أو التقرير، من «مغامرين»، أو من أشخاص لهم ارتباطات بالأجهزة الأمنية وبمراكز القرار.
وفيما تسجّل الصحف أرقاماً عشوائيّة عن النسخ التي تطبعها أو توزّعها، لتنال حصّة أكبر من «دعم الديموقراطية»، أكّد رئيس تحرير صحيفة «الصباح الجديد» اسماعيل زاير أنّ مجموع ما يُباع من الصحف لا يزيد على سبعين ألف نسخة يوميّاً، وقد ينخفض العدد إلى الصفر في الحالات الطارئة، وهي كثيرة جداً.
وقد ولّدت حالات المبالغة في طبع نسخ الصحف، وكثرة الأيام التي تتكدّس فيها من دون توزيع، إلى نشوء تجارة مربحة جدّاً، وغير مكلفة، يستفيد منها المقرّبون من إدارات الصحف وشبكات التوزيع، وهي تجارة المرتجعات، التي يتمّ تصديرها إلى الخارج لإعادة تصنيعها من جانب معامل الصناعات الورقية، حيث عُرف تجّار جدد في هذا الاختصاص، سرعان ما صاروا من أصحاب الملايين.
ويساعد هؤلاء التجّار الوضع الأمني الرديء الذي أوجده الاحتلال، كما أوجد صناعة القتل على الهوية، وكذلك القتل بحسب الجريدة التي يشتريها الشخص.
والملاحظ في الوضع الصحافي ــــــ الأمني، أنّ الجهة التي تدعم صحف هذه الكتلة أو هذه الطائفة، غالباً ما تكون نفسها التي تدعم صحف ومطبوعات وأجهزة إعلام الجهة الأخرى، بينما الإنسان العادي قد يتعرّض للقتل لمجرّد شرائه صحيفة ذات انتماء إلى هذه الطائفة أو تلك. وكثيراً ما تعرّض أصحاب بعض المقاهي للقتل أو تفجير مقاهيهم، لأنهم، أو لأنّ بعض الجالسين عندهم، يقرأون صحفاً، أو يفتحون التلفزيون على قنوات لا تعجب البعض الآخر.