حسن شقراني
«الحرب على الإرهاب» وما استتبعته من إسقاطات دينيّة استخدمها الرئيس الأميركي جورج بوش في خطاباته (المهمّة الإلهيّة، تحديد الموقف في صراع الخير والشرّ على الساحة الدوليّة...) كانت حتميّة، بحدودها الاجتماعيّة، لجعل سكّان الولايات المتّحدة (والعالم) راغبين في «المضي قدماً» ودعم إدارة تريد معالجة «أميركا مجروحة» وتسعى للانتقام، ليس كردّ فعل على «حدث جهادي» أدّى إلى مقتل أكثر من 2500 بريء في برجي مبنى التجارة العالمي، بل كإنشاء لمنظومة مواجهة تحدّدت أولوياتها مباشرة بعد انتهاء الحرب الباردة.
الحروب ضروريّة لأميركا (بالمعنيين الاقتصادي والسياسي ـــــ التوسّعي)، وأدواتها لا بحث فيها، إنّما لمحفّزاتها قواعد تكتسب عبر التاريخ صبغة من وحي العصر. ولهذا العصر الجديد لغته التي تحوي المصطلحات (المفاهيم) المقنعة للحسّاس والمؤمن. وليست تلك اللغة محصورة في خطاب إلى الأمّة (حال الاتحاد) يبشّر بالإنجازات السياسيّة والعسكريّة في الشرق الأوسط المتشرذم بين الاعتدال والتطرّف. كما أنّ الحروب التي تخوضها أميركا ليست مع الخارج فقط.
فالصراع بين الديموقراطيّين والجمهوريّين على المكتب البيضاوي، يسبقه تحديد من يمثّل الطرفين في ذلك الصراع (من هو المطروح لتولّي قيادة أميركا): وهنا معركة لها لغتها التي لا تختلف كثيراً عن تلك المستخدمة بين بوش وأسامة بن لادن، إلّا أنّ خطورتها تتمثّل في تحوّل تمدّد القناعات الإنجيليّة إلى مذاهب سياسيّة تطرح الإيمان والدين أوراقاً رابحة في المؤتمرات الأوّليّة (التي تنطلق في ولاية أيوا الشهر المقبل) وترسم معالم أميركا ما بعد ولايتي بوش.
الدين كان دائماً عاملاً (ينتج القوّة أو الضعف، ويختلف الموضوع بحسب التركيبات الاجتماعيّة الاقتصاديّة) مهمّاً في الخطاب السياسي لأيّ طامح للقيادة في العالم الثالث أو في ذلك المتقدّم. وما يتمّ إصباغه على خطاب الطموحين لقيادة أميركا الغد (وتحديداً في الجانب الجمهوري) يعتمد في الفترة الآنيّة على تعبئة دينيّة.
عندما كان الديموقراطي موريس يودال، منافساً خطيراً لنيل ترشيح حزبه إلى الرئاسة عام 1976 (لم ينل البطاقة لأنّ «طبعه الظريف لا يخوّله أن يكون رئيساً!» بحسب الصحافي جايمس كيلباتريك) لم يعر أحد في أميركا أيّ أهميّة لديانته، الـ«مورمونيّة» (تعتبر أنّ الكتاب المقدّس المسيحي موجود منذ وجود آدم وحوّاء على الأرض ويُرمز إليها بـ«حركة قدّيس اليوم الأخير» التي أسّس كنيستها جوزيف سميث عام 1830)، التي كانت حتى فترة متأخّرة من سبعينيّات القرن الماضي «عنصريّة» بنظر الكثيرين في أميركا.
غير أنّ المرشّح لنيل بطاقة الجمهوري في وقتنا الراهن، ميت رومني، يعاني الكثير لأنّه «مورموني»!. فقد اضطرّ إلى إلقاء «عظة» (بأسلوب الخطاب السياسي) عنوانها «الإيمان في أميركا»، في أيوا في السادس من الشهر الجاري، أعفى فيها الأميركيّين غير المتديّنين (العلمانيّين) من الحريّة («الحريّة تتطلّب ديناً مثلما يتطلّب الدين حريّة») وحذّر من «المتآمرين الظلاميّين» الذين ينوون تأسيس دين جديد في أميركا: العلمانيّة.
خطاب رومني الاضطراري للدفاع عن معتقداته التي يجب أن تكون «أساسيّة» للعائلة الأميركيّة (وهو عليه أن يدافع عن أكثر من ذلك حيث نشرت العديد من الصحف بينها «كريستيان ساينس مونيتور» المسيحيّة، أنّه يرفض ضمّ أيّ مسلم إلى حكومته)، يتماهى نوعياً مع «المرشّح المعجزة» (ظهر فجأة وأخذ يحطّم الأرقام في الاستطلاعات) في الحزب الجمهوري، مايكل هاكابي. فالأخير استغلّ نقاط ضعف الأوّل (المورمونيّة بالطبع في مقدمتها) لينصّب نفسه «قائداً مسيحياً» في أيوا (حيث 40 في المئة من المشاركين في المؤتمر التحضيري لـ«الجمهوري» عام 2000 وصفوا أنفسهم بأنّهم «مسيحيّون محافظون») من خلال شريط إعلاني يقول: «الإيمان لا يؤثّر فيّ فقط، إنّه يحدّدني».
وتحوّل الصراع بين الجمهوريّين، ليرتكز إلى الاختلافات الدينيّة والمزايدات الإيمانيّة، هو نتيجة حتميّة لصعود الخطاب الديني في الولايات المتّحدة في المواجهة مع التشدّد الإسلامي. ورغم «الإرهاب الإسلامي»، الذي كان حاضراً بقوّة في خطابات المرشّحين الجمهوريّين خلال الأسبوع الماضي، لم يكن موجوداً لدى نظرائهم الديموقراطيّين، فإنّ ورقة الدين ليست غائبة كلياً عند الأخيرين.
فالسيناتور الديموقراطي عن إيلينوي باراك أوباما (أسود البشرة)، الذي يبدو أنّه سيخوض معركة قاسية في أيوا مع منافسته الأولى السيناتور عن نيويورك هيلاري كلينتون، يولّف بين طرحه اللاعنصري وبين الحملة التي تكفّلت بها الإعلاميّة الأميركيّة الشهير أوبراه وينفري في الولاية المذكورة. وتتضمّن خطاباته إشارات إلى الإيمان على الطريقة التي تقدّمها فيها الإعلاميّة السوداء خلال برنامجها الاجتماعي.
التشدّد الديني لدى المجمع الجمهوري هو حتماً عند مستوى لا يقارب فيه طرح المرشّحين الديموقراطيين لدى استخدام «عامل الإيمان». والأكيد أنّ أميركا اليوم ليست تلك التي وصفها الرئيس الراحل جون كينيدي قبل نحو نصف قرن: «أؤمن بأميركا حيث الفصل بين الدين والدولة هو معطى مطلق»... وإن كان دين البلاد حينها هو «معاداة الشيوعيّة».