أرنست خوري
يقول التاريخ، إنّ أشرس أعمال العنف والقتل في بلدان عالم ثالثيّة رزحت لفترة طويلة تحت احتلالات استعماريّة، تُرتَكَب بحقّ أبناء البلد الواحد، لا ضدّ المستعمر، وذلك حين يقرّر هذا المستعمر التخلّي عن وديعته ويشبع من الاحتلال، لا لأسباب إنسانيّة بل لحسابات مصلحيّة، منها ما هو ذاتي يتعلّق بالقوى الحاكمة داخل الدول المستعمِرة والمستعمَرة، ومنها ما هو موضوعي يتعلّق بالظروف الدولية والإقليمية وتغيُّر موازين القوى.
هكذا حصل في الدول التي سبق لبريطانيا أن استعمرتها في شرق آسيا وجنوبها، الهند وباكستان وبنغلادش نموذجاً.
وإذا كان هناك فروق كبيرة بين نهج الاستعمار الذي اعتمدته إمبراطوريتا الاستعمار الكلاسيكي، فرنسا وبريطانيا في القارّتين الآسيويّة والأفريقيّة، فإنّ عاملاً مشتركاً جمع التجربتين من ناحية أنّ كلتيهما تركتا خلفهما إرثاً استشراقيّاً عمّم وجذّر الطائفيّة والقبليّة والعشائريّة في بنى الدول التي استعمراها.
وفور خروج المستعمر، تحوّلت حركات التحرّر في الدول العربيّة خصوصاً، إلى أحزاب قمعيّة تحكم على أساس الطائفة أو العشيرة، ما ولّد حركات اعتراضيّة دينيّة ظلاميّة... الجزائر نموذجاً.
أمّا في عصر «الاستعمار الحديث»، أو ما يطيب للبعض تسميته احتلالاً استعماريّاً دوليّاً في العراق، فكان لسياسة واشنطن ولندن، الدولتان الأكبر اللتان احتلّتا بلاد الرافدين، ظروف مختلفة ناتجة من تقسيم الحصص المناطقية الذي اعتُمد بين قوّات البلدين. فالجنوب العراقي، الشيعي بغالبيّته الديموغرافيّة الساحقة، بقي منذ 2003، خاضعاً واقعيّاً تحت سيطرة الميليشيات، منها الموالي لإيران بحكم الجيرة والتاريخ والجغرافيا والمرجعية، ومنها الآخر من هو تابع لتجمّعات عشائريّة.
فشل الاحتلال البريطاني في تجنيد عشائر الجنوب على نحو ما نجحت فيه الولايات المتّحدة في مناطقها العراقيّة، عندما استعانت بما بات يُعرَف بـ«مجالس الصحوة» و«اللجان الشعبيّة»، بعدما كانت هذه العشائر ركيزة مهمّة في حكم صدّام حسين، إلى حدّ أنّ الشيخ ستّار أبو ريشة، «مؤسّس» تجربة «الصحوات» في محافظة الأنبار غرب البلاد، أبى إلا أن يسمّي نجله، صدّام، تيمّناًَ بالرئيس الراحل.
في السادس عشر من الشهر الجاري، تسلّمت القوّات العراقيّة أمن البصرة، تاسع محافظة عراقيّة من القوّات «المتعدّدة الجنسيات». لكن البصرة ليست أي محافظة، فهي مدينة تجمع معظم العناصر الخصبة من ناحية توليد المشاكل. فبعدما كانت عقر دار الحركة الشيوعيّة العراقية مطلع القرن الماضي، تحوّلت خلال الاحتلال البريطاني إلى مدينة تحكمها نحو 16 ميليشيا مسلّحة، يتراوح تزمّتها الديني من المقبول اجتماعيّاً، ليصل إلى حدّ التكفير و«طلبنة» المجتمع وجلد النساء غير المحجّبات ورجمهنّ.
أمّا وقد سلّمت الألوية البريطانية وضعاً وصفه قائد شرطة المدينة اللواء جليل خلف بأنه «قريب من الأذى المتعمّد»، من ناحية تركه يتعامل مع الميليشيات والعصابات، فيمكن توقّع سيناريو سوداوي مهما بلغت درجة التفاؤل عند القيادات المركزيّة في بغداد. تفاؤل وصل إلى حدّ أن رئيس الحكومة، نوري المالكي، أوفد مستشار الأمن القومي، موفّق الربيعي، نيابة عنه يوم التسليم والتسلّم، ربّما خوفاً من الأوضاع الأمنيّة التي قد تعترضه في الطريق الطويل الممتدّ على 550 كيلومتراً من بغداد إلى البصرة.