بغداد ــ زيد الزبيدي
كما دخل اليوم الأول لعام 2007 مع إعدام صدّام حسين في ظروف أثارت الكثير من الأسئلة من حيث التوقيت والتوظيف، تدخل بلاد الرافدين عامها السادس من الاحتلال وأزماتها السياسيّة تتراكم. وإذا كان النصف الأوّل من العام الماضي قد عُرف على أنه الأعنف والأكثر دمويّة، فإنّ النصف الثاني حمل شيئاً من العزاء للاحتلال أمنيّاً، في ظلّ بقاء المصالحة الوطنية فشلاً يراوح مكانه العراق:


ليست صدفة، عند تناول الوضع الأمني في العراق لعام 2007، أن تأتي نقطة الشروع في بدء تطبيق خطّة «فرض القانون»، في شهر شباط منه، متقاربة مع الذكرى السنوية الأولى للعنف الطائفي العارم، والانفلات الأمني الواسع الذي أعقب تفجيري سامرّاء، والذي أدى، ولا يزال، إلى وقوع عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمعتقلين والمشرّدين. وكأنّ هذا الحدث أريد له أن يكون أداة لتحويل الصراع الطائفي إلى حرب طائفية.
ولاحظ المتابعون للخطط الأمنيّة السابقة، أنّ من أهمّ عوامل فشلها، هو كون الحكومة طرفاً أساسياً في الاحتراب، لذا جاءت الخطّة الجديدة التي وضعتها قوّات الاحتلال، وكانت الطرف الأساس في تنفيذها، معتمدة على تفتيت الاستقطابات الطائفيّة، والقيام ـــــ تحت غطاء القوّات العراقية والعمل المشترك ـــــ بتوجيه ضربات إلى جزء مهم من مكوّنات الائتلاف «الشيعي» الحاكم، أي التيار الصدري، إضافة إلى تجزئة المقاومة «السنيّة»، وجعل بعضها يضرب الآخر.
وقد بدأت خطّة «فرض القانون»، التي ركّزت على العاصمة بغداد، متعثّرة، على الرغم من أنّ الجيش الأميركي زجّ فيها أكثر من 30 ألف جندي، بموجب استراتيجيّة الرئيس جورج بوش وجنرال حربه دايفيد بيترايوس تحت اسم «إغراق بغداد». وارتفع الرقم أكثر عندما شملت العمليات حزام العاصمة وضواحيها، بسبب عدم الثقة بالقوّات الحكومية، وخصوصاً قوّات وزارة الداخلية المخترَقة من الميليشيات، وذلك باعتراف الاحتلال نفسه.
وكان من بين أهمّ عوامل تعثّر الخطّة، التي تقضي بتقسيم بغداد إلى عشرة قطاعات، تسريب جهات حكومية تفاصيلها إلى جهات مستهدفة، في مقدّمتها «جيش المهدي»، لاتخاذ الحيطة، إضافة إلى مجهوليّة العنوان الذي رُسمت تحته هذه الخطّة، وهو «فرض القانون»، من دون أي تفسير حول أي قانون يُراد تطبيقه، وهو بلا شكّ ليس القانون العراقي النافذ، بل «قانون الاحتلال».
وهنا، لا بدّ من عود إلى بدء، إلى اشتعال الحرب الطائفية في أعقاب تفجيرات سامرّاء، التي لم يُكشف حتى الآن عن الجهة التي خطّطت لها ونفّذتها، بتقنيات وإمكانات عالية جدّاً، حيث أفرز الاحتراب الطائفي تحوّلاً معلناً وعمليّاً، عن الأهداف السابقة المعلَنة لجهات عديدة. فتحوّل جزء من الفرق، التي تكوِّن «جيش المهدي» (المعروف أنه ليس جسداً تنظيمياً موحّداً ومتماسكاً)، مثلاً من قوّة ترفع شعارات معاداة الاحتلال، إلى قوّة ضاربة طائفية تعمل تحت إمرته، مباشرة أو غير مباشرة. كما تغيّر الهدف الأساس المعلَن لتنظيم «القاعدة» من محاربة الأميركيّين إلى الصراع مع الميليشيات الشيعية، ما أدّى إلى أنّ عام الاحتراب الطائفي، هيمنت عليه قوّتان أساسيّتان هما «جيش المهدي» و«القاعدة».
ويشبّه العراقيّون الطرفين بـ«السمك»، فهو شهي عند الأكل، لكن رائحته تبقى عالقة في الأيدي بعده؛ فالتنظيمات المسلّحة السنية، والشارع السنّي عموماً، يرى في «القاعدة» «حاجز الصدّ أمام المدّ الشيعي الفارسي»، وهو ما تراه القوى السياسية والشعبية الشيعية في «جيش المهدي» في وجه «التسلّط السنّي المدعوم من السعودية» وعواصم القرار العربية عموماً.
وتجدر الإشارة إلى أنّ التيار الصدري، الذي أدرك مدى الاختراقات في «جيش المهدي» وخطورتها، أوصى بمساندة الخطّة الأمنيّة، وخروج القيادات المسلّحة من البلد، أو من بغداد على الاقلّ، وهذا ما انتهجته «القاعدة» وتنظيمات مسلّحة أخرى أنهت عام 2007 بالانتقال إلى الشمال، وخصوصاً محافظتي كركوك ونينوى.
ومع انتصاف شهر نيسان، كُشف عن المزيد من تفاصيل الخطّة الأمنيّة، بإنشاء الجدران العازلة حول الأعظمية والسيدية ومدينة الصدر، وتعزيز المناطق الأمنية العشر بهذه الجدران، إضافة إلى وضع «خريطة طريق»، تتقسّم بغداد العاصمة بموجبها إلى 507 محلّات، لغرض السيطرة عليها. أي إنّ بغداد أصبحت عبارة عن أحياء داخل كانتونات.
ولم تؤدِّ هذه الإجراءات إلى تحسّن يُذكر في الوضع الأمني، إلى أن تدخّلت السياسة الداخليّة والخارجيّة في ذلك، بمعزل عن الحكومة العراقيّة أو بعلمها. وكانت في مقدّمة هذه العوامل إنشاء «مجالس الصحوة» لعزل «القاعدة»، والمفاوضات الاميركية ـــــ الإيرانية، التي انعقدت في أشهر أيّار وتموز وآب، والتي أوقفت دعم الميليشيات، وربما بعض الدعم لـ«القاعدة» أيضاً.
ولمّا كان عام 2007 عاماً مفصليّاً في لجم المشروع الأميركي الاستعماري في المنطقة، اضطرّت واشنطن إلى مفاوضة طهران في العراق، ليقينها بأنّها إذا ابتغت حفظ ماء الوجه لمشروعها المتعثّر في هذا البلد، والذي كبّدها في عام 2007 وحده أكبر عدد من الجنود القتلى منذ حرب فيتنام، فعليها كسر القطيعة الدبلوماسية التي دامت 28 عاماً مع الجمهورية الإسلامية.
وتُعدّ أحداث كربلاء في أواخر شهر آب، وما أعقبها، علامة فارقة في التحسّن النسبي للوضع الأمني، حيث أعلن مقتدى الصدر تجميد نشاطات «جيش المهدي» مدّة ستة أشهر وإعادة تأهيله، وذلك في أعقاب اشتباكات دمويّة مع عناصر منظّمة «بدر» التابعة للمجلس الأعلى الإسلامي الذي يتزعّمه عبد العزيز الحكيم.
وفي مقابل هذا التحجيم لـ«جيش المهدي»، حمل عام 2007 «هديّة ثمينة» للمشروع الأميركي في العراق، وهو ما جهد لتصويره أنه الحلّ السحري لمشكلة مقاطعة أو مقاومة العرب السنّة في البلاد للعملية السياسية التي يديرها الاحتلال. وأُطلق اسم «مجالس الصحوة» للرمز إلى العشائر العربية التي بقيت عموداً فقرياً لحكم صدّام حسين، وقرّرت (نتيجة خلافات كبيرة ومصالح متناقضة مع «القاعدة»)، نقل بندقيّتها وشبكها مع الجيش الأميركي والقوّات الحكوميّة، في مقابل وعود مادّية وسلطات سياسية وأمنية فائقة، كلّ ذلك في وجه أحزاب سنية سياسية (مجتمعة ضمن جبهة التوافق) انسحبت من حكومة نوري المالكي لتتركها أكثر من 6 أشهر خالية من أي تمثيل سنّي عربي.
وقد يكون مفيداً الإشارة إلى أنّ تاريخاً مفصليّاً حدّد فترة النجاح الأميركي الأمني من إخفاقه. فبات الكلام يجري حول ما قبل تقرير كروكر ـــــ بيترايوس (منتصف أيلول) وما بعده. وبنتيجة أنّ خلاصة التقرير جاءت سلبيّة عن التطوّر العراقي، صُوِّر العمل الأميركي ناجحاً بعدما ألقيت المسؤولية على دور إيران وسوريا، وعلى عجز حكومة المالكي في إنجاح «المصالحة الوطنيّة»، وقرّر بوش سحب أكثر من 38 ألف جندي من العراق في منتصف عام 2008، لتُعلَن في ما بعد معاهدة سيُوَقَّع عليها خلال العام المقبل بين بغداد وواشنطن، عنوانها الرئيسي تشريع بقاء قواعد أميركية دائمة في بلاد الرافدين، «لحماية النظام من التدخلات الخارجية والانقلابات الداخلية»، بما يضمن السيطرة على المخزون النفطي الهائل الذي يملكه البلد.
وفي خضمّ هذه التطوّرات الأمنية ـــــ السياسية، لا دور يُذكر لهرم السلطة أو البرلمان في العراق، الذي اختار «التهميش»، والذي لم يستطع، رغم المحاولات العديدة، التوصّل إلى أيّ توافقات بشأن القضايا الحسّاسة، بما فيها التعديل الوزاري المعطّل منذ تشكيل حكومة المالكي قبل زهاء سنة ونصف، ثم انسحاب وزراء الكتلة الصدرية ووزراء «التوافق» وعدد من وزراء «القائمة العراقية» التي يرأسها إياد علاوي. وبدلاً من تقوية التحالفات القائمة، يبدو أنّ إرادة خطة «فرض القانون» انسحبت على الكتل البرلمانية، من جهة التفتيت، فبادرت كتلة الائتلاف العراقي الموحّد بالانشقاق على نفسها في حزيران، عندما أعلنت جهة ونصف منها (الكتلة الكردية وحزب الدعوة ـــــ جناح المالكي) الانضمام إلى تكتّل، بات يُعرَف بـ«التحالف الرباعي»، بينما انسحبت كتل أخرى، بينها «نصف» حزب الدعوة الحاكم (جناح الجعفري) وحزب الفضيلة والتيار الصدري. ومع هذا الانشقاق ضعف دور مرجعيّة النجف جدّياً بما أنها سبق ووضعت كل ثقلها الديني والمعنوي على نجاح «الائتلاف الموحد».
وفيما جاء «التحالف الرباعي» هشّاً، لأنّه لم يأتِ ببرنامج عمل جديد، سعى الرئيس جلال الطالباني إلى تعزيز موقعه في الرئاسة بتشكيل تكتّل «3+1» من هيئة مجلس الرئاسة ورئيس الوزراء، الذي لا عمل له في الواقع. ثمّ أُلِّف تكتل «4+1» بين التحالف الرباعي والحزب الإسلامي، وهو أيضاً في حكم المعفو من الخدمة. وفي الأيّام الأخيرة من العام، تمّ «تركيب» تحالف ثلاثي جديد جمع أكراد الطالباني ومسعود البرزاني ونائب الرئيس العراقي، رئيس الحزب الإسلامي طارق الهاشمي، فسّره عديدون بأنه قنبلة تهدّد وحدة حكومة المالكي التي فشلت في تلبية مطالب الأكراد في مسائل «وجوديّة» بالنسبة إليهم، في مقدّمتها تنفيذ استفتاء ضمّ كركوك إلى إقليم كردستان العراق في حدود نهاية 2007، بحسب ما نصّت عليه المادّة 140 من الدستور.
وكما تدخل بلاد الرافدين عموماً عام 2008 في ظلّ خطر يتهدّد مصير ما بقي منها، يبقى موضوع أكراد العراق في المهبّ بدوره، بعد ما حقّقوه خلال سنوات الاحتلال الأخيرة من «إنجازات» عوّضت عليهم الكثير من الظلم الذي لحق بهم خلال العهود السابقة. لكنّ الحملة العسكرية التي باشرت بها تركيا في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الجاري، بحقّ حزب العمّال الكردستاني على الحدود العراقيّة ـــــ التركية، وداخل الأراضي العراقية حتّى، تهدّد الإقليم الكردي العراقي برمّته، ما دام حكّام أنقرة لا يزالون «مرعوبين» حتّى من فكرة أن يكون على حدودهم «كيان» كردي شبه مستقل، وما داموا يرون أنّ محافظة الموصل ونفط كركوك انتُزعا منها يوماً، ولا بدّ من استرجاعها يوماً ما.

عراق الأفراح والانتصارات

رغم كلّ العواصف والأعاصير والمحن التي عصفت بالعراق، فإنّ هذا البلد لم يكن في 2007، فقط «عراق الحزن والأسى»، كما يريده البعض، بل بقي أيضاً عراق الحضارة والثقافة والفن والرياضة.
وإذا كانت الاغتيالات قد شملت مختلف قطاعات الثقافة، فإنّها شملت الرياضة والرياضيّين أيضاً، الذين تمّت تصفية العديد منهم لأنهم يمارسون التمرينات في الهواء الطلق، وهم يرتدون «الشورتات»، التي يُعدّ ارتداؤها في مكان مكشوف، وخصوصاً عند جسر الجادرية، من المحرمات التي تستوجب القتل.
لكنّ هؤلاء الذين يحاربون حتّى الرياضة، كم وجدوا أنفسهم ضئيلين، مع الفرحة العارمة التي شملت العراق كلّه، بفوز المنتخب الوطني العراقي في بطولة أمم آسيا لكرة القدم يوم 29 تمّوز، حين علت أصوات الطلقات النارية في سماء بغداد ابتهاجاً بالفوز، لا اشتباكاً بين متقاتلين.