باريس ــ الأخبار
فرض الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي القطيعة في سياسته الداخلية، لكنه «لم يهمل الدبلوماسية»، إذ إن «فرنسا دائماً تشعّ بسياستها الخارجية». وبما أنه «يبحث عن الضوء» في كل ما يفعل، فكان من الطبيعي أن يبحث عنه خارج الحدود

كانت الدبلوماسية الفرنسية، كما يقول أحد الدبلوماسيين المخضرمين، مرتكزة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على «معاكسة الدبلوماسية الأميركية». ويتساءل، مع غيره من الخبراء، «عما يمكن أن يكون مكان فرنسا على خريطة السياسة الدولية لولا مشاكساتها مع العملاق الأميركي؟».
لقد فهم شارل ديغول هذا الأمر فطالب باستقلالية الردع النووي الفرنسي وباستقلالية الصناعة العسكرية والصناعات الدائرة حولها رغم «امتعاض أميركي وصل في بعض الأحيان» إلى حد حرب سرية لإدخال فرنسا في الطاعة «الأطلسية»، فكانت النتيجة أن خرجت فرنسا من الحلف. ورغم تعاقب الرؤساء، فإن فرنسا بقيت خارج «الأطلسي» طوال حقبة الحرب الباردة واستندت سياستها «إلى انحياز إيجابي للغرب وعدم انحياز إيجابي أيضاً ضد الكتلة الشيوعية». ورغم الخطوة الشيراكية (نسبة إلى الرئيس السابق جاك شيراك) بالعودة إلى «مجلس قيادة الحلف الأطلسي»، فإن الشروط التي وضعها لدمج قوات فرنسا بقوات الأطلسي كانت كافية لتجميد هذه الخطوة.
إلا أن أولى خطوات القطيعة في الدبلوماسية الفرنسية منذ وصول نيكولا ساركوزي إلى الإليزيه كانت في اتجاه «أطلسة المواقف الفرنسية»، إذ أعلن «نهاية التصدي للسياسة الأميركية» ووجّه بعض اللوم لموقف شيراك المعادي للحرب على العراق، وذهب ليلقي خطاباً أمام الكونغرس يقول فيه «إن عهداً جديداً قد بدأ بين البلدين».
وبالطبع، كان لهذا التوجه الجديد تأثير كبير على مجمل «الملفات الساخنة» من الملف الإيراني إلى ملف دارفور مروراً بالعراق وفلسطين، وبالطبع الملف اللبناني الذي جعله شيراك «نقطة التقاء مصالح باريس بخطط واشنطن حول الشرق الأوسط الجديد».
ويذكر الجميع «قنبلة شيراك الإعلامية قبل خروجه من الإليزيه» حين أعلن «أن القنبلة الإيرانية ليست خطراً»، فرأى البعض فيها «زلة لسان» فيما رآها آخرون «تأطيراً لتوجهات دبلوماسية خلفه» لإبعاده عن اللحاق بـ«مغامرة أميركية شبيهة بالحملة العسكرية على العراق». إلا أن العهد الساركوزي ذهب في «قطيعته مع هذا التأطير» أبعد مما تصوره شيراك، إذ لم تتردد الدبلوماسية الفرنسية في التحدّث عن «إمكان شن حرب على إيران» إذا تابعت طهران برنامجها النووي العسكري، لتصطف وراء الطرح الأميركي، الذي كان قائماً قبل أن تتغير معطيات واشنطن بخروج تقرير استخباري يقول بتوقف برنامج إيران النووي، وهو ما دفع المراقبين إلى القول: «مرة أخرى تركت واشنطن باريس وفي وسط الطريق».
المرة الأولى كانت في دارفور، إذ ما أن وصل «اختصاصي ملف دارفور» برنار كوشنير إلى وزارة الخارجية وطالب بفرض ممرات آمنة للمساعدات الإنسانية، حتى «نفرت واشنطن من العرض» ورأته «عرقلة لمساعيها» وفرضت على مجلس الأمن إقرار «القوة الهجينة»، بينما فرض ساركوزي على وزيره حظراً من التعامل بالملف السوداني.
وكذلك كان الأمر بالنسبة لملف الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، الذي كان يعدّ في فرنسا حتى قبل أسابيع من وصول ساركوزي «الملف المحوري لكل ملفات المنطقة»، فكفّ الرئيس الجديد يد وزير الخارجية بانتظار لقائه مع نظيره الأميركي جورج بوش في الخريف الماضي والذي تقرر في ضوئه «ترك الملف الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي» لمعالجة أميركية بحتة، وهو ما كان «يضايق شيراك وكل الرؤساء الذين سبقوه». ورغم «صداقة ساركوزي المعلنة لإسرائيل»، فقد ترددت الإدارة الأميركية كثيراً قبل دعوة فرنسا إلى مؤتمر أنابوليس، قبل أن تترك لها أمر «تدبير مؤتمر الدول المانحة» على شاكلة «مؤتمر باريس ٣» الخاص بلبنان، وهي أساساً فكرة مشتركة بينها وبين إيطاليا وإسبانيا.
ولم يكن ممكناً تجاوز باريس في الملف اللبناني لأسباب تاريخية و«منفعية»، وخصوصاً بعد المواقف المتورطة التي قادها شيراك منذ عامين قبل وصول ساركوزي إلى الحكم. إلا أن «الاستعمال المنفعي» لباريس من جانب واشنطن كان حاضراً بقوة في الأشهر التي تلت دخول ساركوزي إلى الإليزيه. فإن ما رآه بعض الأفرقاء «تلزيماً أميركياً لساركوزي كي يحلحل الأزمة اللبنانية عبر وزيره كوشنير» لم يكن في الواقع سوى «تقطيع للوقت بانتظار تحرك ملفات إقليمية أخرى» يرتبط بها الملف اللبناني وتنتظر تحرك واشنطن تجاهها.
حتى بعض «لمسات القطيعة»، التي بدرت من ساركوزي بتواصله وانفتاحه على سوريا، رأى فيها مراقبون «علامتين تنمّان عن ارتباط التكليف باستراتيجية واشنطن الشاملة في المنطقة»، الأولى هي «غياب التحفيزات التي رافقت الانفتاح على دمشق»، إذ إن باريس لا تملك سوى «عموميات تقدمها لسوريا» مثل الانفتاح الأوروبي والدعم الاقتصادي.
أما العلامة الثانية فهي فشل الخطوات الانفتاحية «بمجرد دعوة دمشق إلى أنابوليس»، وهو ما آل إلى «شرخ بين باريس والأكثرية اللبنانية»، التي كانت باريس حليفتها في العهد الشيراكي.
إلا أن العارفين بسير عمل الدبلوماسية الفرنسية يقولون إنه «إضافة إلى وزن الخبراء في الكي دورسيه» معطوفاً على «طبيعة ساركوزي التي ترفض الدور الثاني في المشهد»، سوف يقود إلى إعادة تموضع للدبلوماسية الفرنسية في شق تنعكس صورته في مرآة ما تفعله واشنطن، في وضعية قد لا تكون «معادية أو معاكسة» بل منتقدة لسياستها في بعض الملفات، وهو ما يفتح مجالاً لها للتنفس والبقاء. ويضيفون أنه في حال غياب هذه «الممانعة المخففة لدبلوماسية واشنطن» فإن الدبلوماسية الفرنسية تختفي في مستنقع دبلوماسية أوروبية تابعة للتوجهات الأطلسية لواشنطن.
ومن هنا، فإن الجميع ينتظرون ما سيكون عليه موقف ساركوزي من الإدارة الأميركية الجديدة. ويرون أنه يحضّر عبر الاتحاد المتوسطي، الذي يسعى لعقد قمة له في باريس في حزيران المقبل، منبراً لمخاطبة واشنطن ولترؤس اتحاد يجمع في إطاره مجمل الملفات الساخنة التي يمكنه أن يحاور واشنطن حولها لفرض وجود فرنسي على الساحة الدولية.