نيويورك ـ نزار عبود
بان كي مون ليس الأمم المتحدة ولا هو أعلى سلطة فيها. مواقفه كأمين عام تعبّر عن التوازن السياسي داخل المنظمة الدولية وتُستخدم معنوياً في تبرير وشرعنة مواقف منحازة للأقوياء ضد الضعفاء في غالب الأحيان


اعتمد الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، منذ انتخابه، سياسة تحاشي اتخاذ مواقف مستقلّة استناداً إلى معايير العدالة الدولية، لكونها مكلفة إذا تصادمت مع مصالح إسرائيل والولايات المتحدة. وهو ليس ندّاً لأيّ منهما ومدين لإحداهما أو لكلتيهما في منصبه الحالي. وعليه، فإن الأمم المتحدة كانت خلال السنة الأولى من عهده أشدّ التصاقاً بالولايات المتحدة وتناغماً مع سياستها. فهو قد أتى إلى رئاستها في ظرف تحتاج واشنطن فيه إلى مساندة المنظمة الدولية بعد مغامراتها العسكرية الفاشلة من أفغانستان إلى العراق.
بان، وهو وزير خارجيّة كوريا الجنوبيّة السابق، عمل إلى جانب الأميركيين طويلاً قبل اختيار واشنطن له كأمين عام؛ فالمندوب الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة، جون بولتون، كشف في كتابه الأخير «الاستسلام ليس خياراً»، كيفية اختيار بان الطيّع الضعيف، إذ ذكر في أحد فصوله: «قالت لي (وزيرة الخارجيّة الأميركيّة كوندوليزا) رايس في 20 نيسان (2006): لست متأكدة من أننا نريد أميناً عاماً قوياً».
وكان بولتون قد عمل مع بان مباشرة في كوريا على موضوعات حسّاسة بالنسبة إلى الحرب الباردة في شبه الجزيرة الكورية وألمانيا المقسّمة في وقت مبكر يعود إلى عام 1973. ثم عمل بان رئيساً لموظفي البعثة الكورية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان مكتبه يقع في مقابل البعثة الأميركية مباشرة، ووصفت علاقته بالأميركيين بأنّها «ممتازة».
خلال السنة الأخيرة، نمت العلاقة بين بان والمندوب الإسرائيلي لدى المنظمة الدوليّة، دان غيلرمان، إلى درجة الود الشخصي وتناول وجبات الطعام معاً. ويروي كثير من كبار شخصيّات المنظمة كيف أن غيلرمان يستطيع مقابلة بان خلال دقائق إذا أراد، فيما درجت العادة أن يحجز المندوبون مواعيد قبل أيام أو أسابيع. لا بل أن غيلرمان يستطيع أن يأتي بضيوف من إسرائيل لمقابلة الأمين العام، بعضهم لا يكون من الشخصيّات السياسية البارزة، ويؤدي دوراً كبيراً في صياغة التقارير التي يقدّمها بان عن الشرق الأوسط إلى حدّ أعرب فيه ناظر القرار 1559، تيري رود لارسن، مرة عن حرجه من التدخل. وقال عن آخر تقرير يخص القرار المذكور «هذا ليس تقريري بل تقرير الأمين العام».
أمّا استجابة بان لطلبات الولايات المتحدة في كل القضايا من فلسطين إلى العراق فحدّث ولا حرج. الأمم المتحدة، التي كانت مرجعيّة دوليّة لجميع القرارات التي تحفظ حق الشعب الفلسطيني، هزلت لتصبح مجرّد تابع لـ«اللجنة الرباعيّة» إلى جانب روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
وفي هذا السياق، لم يتوانَ الأمين العام عن الطلب من السفراء العرب في الأمم المتحدة أن يشكروا واشنطن على مجرّد عقد واستضافة مؤتمر أنابوليس. وعندما دعيَ إلى اجتماع اسطنبول لدول جوار العراق، الذي عقد الخريف الماضي، هرول مسرعاً إليه من دون حتى أن يأخذ معه المتحدّثة باسمه، ميشال مونتاس، أو أي متحدث آخر. وبرّر ذلك بأنّ الوقت لا يتسع لانتظارها لكي تستعد للسفر.
أمّا في الشأن اللبناني، فقد أظهر بان انحيازاً لا مثيل له إلى جانب الموالاة ضد المعارضة؛ فقد تجاهل رسائل الرئيس إميل لحّود وأخّر الاطّلاع عليها إلى ما بعد إصدار قرارات مصيريّة مثل إنشاء المحكمة الدولية. كما أصدر تصريحات ومواقف انتقد فيها المعارضة واعتبرها معطّلة للدستور.
وعندما شعرت الولايات المتحدة بأنها عاجزة بمفردها عن مواصلة السيطرة على العراق، هبّ بان لنجدتها. وطلب مضاعفة عدد الموظفين في بغداد للمساعدة على حلّ العقد السياسيّة وعيّن مبعوثاً جديداً هناك، ستيفان ديمستورا، باختيار أميركي مكشوف. وللصدفة العجيبة، اختار ديميستورا، سيدارث تشاترجي (زوج الابنة الصغرى لبان)، رئيساً لموظفي الأمم المتحدة في العراق ونقله من منصبه كممثل لمنظمة «يونيسيف» في الصومال.
الأمم المتحدة في عهد بان، الذي وضع دارفور وتغيّر المناخ ومحاربة الفساد في الإدارة في مقدمة أولوياته، لم تنجح في تحقيق أيّ من أهدافها حتى الآن؛ ففي الإقليم السوداني هناك تخبط وعرقلة وفساد في إرسال القوّة الهجينة، لأنّ الولايات المتحدة وحلفاءها لا يريدون تقديم المساعدات التقنية واللوجستية إلى قوة لا يكون لها فيها اليد الطولى.
الشغل الشاغل للمنظمة الدولية في السنة الماضية كان إيران وملفّها النووي، والسودان وملف دارفور، ولبنان ومحكمته الدولية، والعراق ومأزق الولايات المتحدة فيه، والإرهاب وتفاعلاته. وقد نجحت الأمم المتحدة في إصدار قرارات تحت الفصل السابع من ميثاقها في شأن كل هذه القضايا التي تعني الولايات المتحدة وإسرائيل. فهل هي مصادفة والحال هذه أن يصل عدد بعثات حفظ السلام في الشرق الأوسط إلى 7 من أصل 18 بعثة دوليّة؟
هذا غيث من فيض بالنسبة إلى ما جرى في الأمم المتحدة خلال عام. أمّا ما سيجري، فقد يكون أفظع. إذ هناك مساع أميركية حثيثة تُبذل من أجل مراجعة القرارات الدوليّة، ولا سيّما ما يتعلق بفلسطين والشرق الأوسط. وسيكون لذلك تداعيات خطيرة على مستقبل الحقوق الفلسطينيّة وغيرها من قضايا الشرق الأوسط المصيرية إذا لم تنل ما تستحق من يقظة ومتابعة.
وستشهد الأشهر المقبلة جولات في الجمعيّة العامة في شأن هذا الموضوع وسط غياب عربي شبه تام عن تلك الأمور المصيرية؛ فالسفراء العرب نادراً ما يعقدون اجتماعاً إلّا إذا كان يخدم مشروعاً أميركياً، كما جرى قبل مؤتمر أنابوليس. لا بل صوّتت الدول العربية أخيراً دعماً لمشروع تكنولوجي إسرائيلي، وكان يسعها الامتناع عن التصويت من باب تسجيل إيمان الحدّ الأدنى.