باريس ــ بسّام الطيارة
لا يمر يوم إلا تخرج إلى العلن بادرة من الإليزيه يذكر فيها سيد القصر جاك شيراك بأنه «لا يزال موجوداً، وعلى الجميع أخذ رأيي بالاعتبار». ومع ذلك، فهو لن يترشح مرة أخرى الى أي منصب فرنسي.
هذا الكلام ليس منسوباً لأي مصدر، بل يمكن استخلاصه من برنامج تستعد القناة الثانية لبثه يوم الأحد المقبل، يستقبل خلاله مقدم البرامج الشهير ميشال دروكر حرم شيراك السيدة برناديت.
وقد سربت مصادر مقربة من القناة بعض تفاصيل المقابلة، اذ يقول شيراك إنه «إذا لم يعد عندي مسؤوليات بعد الانتخابات الرئاسية، فسأحاول أن أخدم فرنسا بطريقة أخرى».
وبعدما شدد مقدم البرنامج على هذه النقطة بقوله إنه «توجد حياة أخرى بعد الحياة السياسية»، أجاب شيراك: «بالطبع، توجد حياة أخرى بعد السياسة، تستمر.. حتى الموت». ويقول من شاهد المقابلة إن عيني السيدة شيراك دمعتا قبل أن ترمي كلمة بصوت خافت: «تبدو النهاية محزنة قليلاً»، ثم تردف قائلة إنها «ستفتقد كثيراً هذا البيت» في إشارة الى الإليزيه.ورغم أن شيراك سبق أن أعلن أنه لن يتخذ قراره حول الترشح أو عدمه قبل التاسع عشر من شباط، إلا أن الجميع فهم من هذه المقابلة أن شيراك لن يترشح، حتى وإن هو حاول الإيحاء بالعكس عبر كلمات يدسّها بين الفينة والأخرى في أحاديثه.
إذاً بقي أمام شيراك أقل من سبعين يوماً في الحكم، وهو لا يزال يتصرف وكأنه يستطيع التحكم بالملفات الساخنة كما يحلو له، ويحاول أن يظهر وكأنه يعمل على مدى طويل، ويستطيع أن يلاحق ما يخطط له ويبني عليه.
في المقابل، يدرك الجميع بأن شيراك يستعد لدخول التاريخ والخروج من السياسة، وخاصة حقل السياسة الدولية، اذ إن البرامج المعلنة في السياسة الخارجية لأكثر المرشحين حظاً بالفوز مناقضة تماماً لما اتبعه شيراك في السنوات الخمس الأخيرة. من هنا نرى أن أياً كان الرئيس الجديد، فإن دبلوماسية فرنسا المتعلقة بمسألة الشرق الأوسط بكافة أبعادها الفلسطينية ــ الإسرائيلية واللبنانية والعراقية، بالإضافة إلى البعد الإيراني، ستشهد تغييراً جذرياً، وخاصة أن شيراك صبغها بطابع شخصي يبرز كثيراً في الملف اللبناني.
في هذا الإطار، طالب الرئيس الفرنسي بأن «يكون قانون المحكمة ذات الطابع الدولي (في اغتيال الرئيس رفيق الحريري) منصفاً»، الأمر الذي فسر على أنه قبول من شيراك بأن تُعاد دراسة صيغة قانون المحكمة، وهو ما تطالب به المعارضة اللبنانية. وفي هذ الصدد، يقول دبلوماسي سابق خبر شيراك لسنوات عديدة إن «الرئيس يخرج عن إطار الدبلوماسية المتفق عليها وأصولها، ويرمي كلاماً متفجراً في حالتين: الأولى، عندما يكون محشوراً، ولا يستطيع الإفلات إلا بقلب طاولة الاعتبارات القائمة، أو عندما يرى أن حلفاءه أو شركاءه يحاولون خداعه». وبحسب العديد من المراقبين، فإن شيراك اكتشف منذ مدة أن الأميركيين «يخدعونه في مجمل ملفات الشرق الأوسط».
ويؤكد مصدر مقرب هذه التحاليل، معتبراً أن شيراك «ذهب بعيداً جداً في الملف اللبناني، ولم يعد يستطيع التراجع، لهذا كتم شعوره، عندما اكتشف أن واشنطن لها حسابات تختلف كثيراً عن حساباته». ويتابع المصدر نفسه أن شيراك «يريد أن تربح الأكثرية وتفرض المحكمة ذات الطابع الدولي، لكنه يريد أيضاً أن تتم تسوية سياسية تعيد التوازنات التي ترتكز عليها الحياة السياسية اللبنانية، إلا أنه اكتشف أن واشنطن ترى في لبنان منطلقاً لسياسة نشر الديموقراطية بالقوة، حتى لو أدى ذلك إلى نشر الفوضى في المنطقة كلها».
الآن، وقد قلب شيراك طاولة الملف النووي الإيراني، و«باح بصوت عال بما يعرفه الجميع»، كما يقول دبلوماسي أوروبي، فإن البعض يرى أنه «لا مجال لوقف تراجع دور فرنسا في لبنان في الشهرين المقبلين، إلا إذا نجح شيراك في إقناع السعودية بالتوافق مع إيران، قبل أن يذهب هو إلى البيت».