ميونيخ ـــ غسان أبو حمد
«رياح حرب باردة» عصفت على مدى الأيام الثلاثة الماضية بمؤتمر ميونيخ، حيث حضر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزي «سوفياتي»، عبّر عنه بكلمة هاجم فيها «السيطرة على العالم» على أيدي الولايات المتحدة التي رأى أنها «تجاوزت حدودها السياسية»

عُقد مؤتمر الأمن الدولي في مدينة ميونيخ في ظل أجواء التوتر والنزاع في العالم، من فلسطين إلى العراق ولبنان وأفغانستان والبلقان والملفات الشائكة، وفي طليعتها، الملف النووي الإيراني، ووسط إعادة اصطفاف جدّي لعدد من القوى الدولية، في مقدمها روسيا، للمرة الأولى منذ انهيار «معسكر الاتحاد السوفياتي»، وأيضاً في خضم ولادة قوى جديدة، في مقدمها إيران.
وشارك في مؤتمر الأمن الدولي في ميونيخ أكثر من 300 شخصية سياسية وعسكرية، يتقدمهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وهي المرة الأولى التي يشارك فيها رئيس روسي في حدث كهذا، ووزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي ترأس بلادها الدورة الحالية للاتحاد الأوروبي، ووزيرة خارجية إسرائيل تسيبي ليفني، وبالطبع، «نجم» المؤتمر، الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني.
جاءت كلمة بوتين أمام المؤتمرين مفاجئة للعديد من المراقبين ومحللي السياسة الدولية، الذين رأوا فيها إعادة اصطفاف جديد للجبهات الدولية، كما رأوا فيها إشارة تحذير مباشرة إلى الولايات المتحدة، التي استفادت من غياب «منظومة الاتحاد السوفياتي»، لتفلت قواتها العسكرية في أنحاء العالم، سعياً إلى فرض سيطرتها، وهو ما رأى فيه بوتين بأنه «تجاوز الحدود في كل مكان».
ووصف المراقبون لهجة بوتين أثناء إلقائه كلمته بأنها «تحذيرية»، كما لفتهم تضمين كلمته لتعابير كانت منسية في القاموس السياسي الروسي طوال السنوات العشر الماضية، وأبرزها الحديث عن «سعي الولايات المتحدة إلى الهيمنة على مقدرات العالم».
ولا يقف إنذار بوتين عند حدود الولايات المتحدة، بل طال أيضاً ما يعرف بحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي وبقية الدول، لإخضاعها للمشيئة الأميركية، وجرّها إلى الحروب والقتال.
وفي هذا المجال، قصد بوتين بوضوح خضوع ألمانيا الاتحادية لمشيئة البنتاغون الأميركي، وتمدّد حلف شمال الأطلسي باتجاه الشرق، أي الحدود الروسية.
وفي هذا الصدد، قال الرئيس الروسي إن «استخدام القوة يُعدّ مشروعاً، إذا اُتخذ قرار بذلك على أساس الأمم المتحدة، وفي إطارها، ولا داعي إلى استبدال منظمة الأمم المتحدة بحلف شمال الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي».
وقد علّق المتحدث باسم مكتب الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف على هذا الموضوع بالقول إن كلمة بوتين «مجرد إنذار. هذا الإنذار لا يعني تهديداً بالمواجهة العسكرية، بل يعني إبداء مخاوف ومشاعر القلق».
غير أن محاولة تليين الموقف الروسي لم تقنع المراقبين، بعدما أعلن بوتين صراحة «أن روسيا تمتلك أسلحة متطورة، بإمكانها أن تحوّل المظلة الدفاعية الصاروخية الأميركية فوق شرق أوروبا إلى مظلة من دون جدوى وعديمة الفائدة»، لكنه تابع أن شلّ فعالية هذه المظلة الصاروخية «لا يمكن اعتباره موجّهاً ضد الولايات المتحدة، وضد رئيسها الصديق جورج بوش، لأنه شخصية بالإمكان التفاوض معها، رغم أن هذا الأمر صعب».
وقد تضمّنت كلمة بوتين ما هو أوضح: «إن ما نراه هو سيطرة نظام على العالم. هذا لا علاقة له بالديموقراطية، لأن الديموقراطية تعني سيطرة الأكثرية مع مراعاة حقوق ومصالح الأقلية»، قبل أن يُطلق اتهاماً مباشراً بقوله إن «كل مواطن غربي يسعى إلى تعليم روسيا الديموقراطية، بينما هو نفسه لا يسعى إلى تعلّمها»، مضيفاً «نحن اليوم شهود عيان على تمدد عسكري متجاوز للحدود والمعايير الدولية، لأن الولايات المتحدة تجاوزت حدودها السياسية في جميع الميادين». وختم بوتين بالسؤال «متى ينتهي هذا الأمر؟ ما من مواطن يشعر اليوم بالأمان».
وفي المسألة الإيرانية، رأى بوتين أنه «بالنسبة إلى وجود صواريخ لدى إيران تهدد بها أوروبا فأنتم مخطئون؛ لدى إيران اليوم صواريخ مداها 2000 كيلومتر، وبالتحديد 1700 كيلومتر، والإيرانيون لا يزالون في وارد التخطيط فقط لصنع صواريخ مداها 2400 كيلومتر. أما بالنسبة إلى نيتهم نصب رؤوس نووية عليها، فليس لدينا مثل هذه المعلومات»، مشيراً الى أن التعاون العسكري بين روسيا وايران «في حده الأدنى». لكنه أضاف إن بلاده قامت أخيراً بتصدير منظومات دفاع جوي الى طهران «كي لا تشعر إيران بأنها محشورة في الزاوية، وكي لا تشعر أنها موجودة في وسط عدائي، وكي تعرف أنه لديها قناة للتواصل، وأن لديها أصدقاء يمكن الركون إليهم».
وبينما كان الرئيس الروسي يهم باختتام كلمته، صاحت ممثلة الشؤون الأمنية في حزب الخضر الألماني النائب أنجيليكا بيير «نسيت قضية حقوق الإنسان، ومقتل الصحافيين سيدي الرئيس». فأجاب بوتين بسرعة «آه تذكرت. إنها قضية صعبة ومعقدة، لكن ليس عندنا فقط؛ إن العديد من الإعلاميين والصحافيين يقتلون في جميع أنحاء العالم، وتحديداً في العراق، لا في روسيا فقط».
ولفت نظر المراقبين خارج قاعة المؤتمر بعض «الدلالات الشكلية» ذات الأبعاد العميقة، بينها وصول موكب الرئيس الرئيسي الى مكان انعقاد المؤتمر، وهو يضم، إضافة إلى سيارة «المرسيدس» الألمانية الصنع والمصفحة، سيارة ليموزين قديمة سوفياتية الصنع، من طراز «سيل»، الذي اعتاده القادة السوفيات سابقاً.
تُرى هل هذا استعراض للسيارات القديمة أم تُراها تحمل دلالة سياسية ومغزى؟، المؤكد أن المشهد لن يكون بعيداً، على الإطلاق، عن فهم المحللين وراسمي الاستراتيجيات في وزارات خارجية الغرب الأميركي والأوروبي.
وإلى هذه الدلالة الرمزية، أشارت الصحافة الألمانية إلى نكات كان يوزّعها بوتين وهو يتحرك في قاعات الفندق، على مسمع من رجال الصحافة، من قبيل أن «البرد قارس هنا. هل تُراها رياح الحرب الباردة؟».
في أجواء كهذه، جاء انعقاد مؤتمر ميونيخ، حيث انتقلت ألمانيا الجديدة، وللمرة الأولى منذ تاريخها الحديث بعد وحدتها، من موقع «الوسيط الدولي والمحاور» الذي رسم إطاره المستشار السابق غيرهارد شرودر، إلى مظلة الولايات المتحدة. فقد أصدر البرلمان الألماني (البوندستاغ)، قبل أيام قليلة من انعقاد المؤتمر، قراراً بوضع سرب من ست طائرات استكشاف حربية متطورة من نوع «تورنادو» في خدمة القوات الأميركية في أفغانستان، بهدف مطاردة قوات «طالبان»، ودفع المزيد من الجنود (ثلاثة آلاف جندي إضافي)، ودفع المزيد من الأموال. ويعني ذلك انتقال ألمانيا الموحدة من خطوط المساعدة الإنسانية والطبية والتعليمية في إطار قرارات الأمم المتحدة، إلى خطوط القتال الأمامية والمساهمة في أعمال القتل والتدمير، إلى جانب قوات «المارينز» الأميركية، وعملاً بقرارات وزارة الدفاع الأميركية.
والتغيير الحاصل في السياسة الألمانية أتى بدوره في مرحلة حساسة تتزامن مع رئاسة ألمانيا لدورة الاتحاد الأوروبي، كما يتزامن أيضاً مع سقوط سواها من المحاورين الدوليين التقليديين، ومنهم الجارة فرنسا، التي تغيّبت وزيرة دفاعها ميشيل اليو ماري عن الحضور والمشاركة في أهمّ المؤتمرات التي تعني مصير ومصالح الأوروبيين.
وبحسب المؤشرات، فإن هذه التطورات تعني أن «الترويكا» الأوروبية التاريخية، المسندة إلى التحالف الألماني ـــ الفرنسي ـــ البريطاني، تصدّعت ركائزها، وباتت تبحث عن سند، أخطره العودة إلى زمن التحالفات مع القوى الكبرى، وبالتالي تصدّع آمال بمستقبل أوروبي مستقل وآمن.
وربما كان وصف رئيس كتلة اليسار في البرلمان الألماني النائب أوسكار لافونتين هو الأكثر تعبيراً عن الحال، عندما قال إن «أوروبا توجّه دعوة مفتوحة إلى الإرهاب الدولي لزيارتها».


النجم الإيراني
من أجواء المؤتمر، لا بد من الإشارة إلى أن إيران كانت من دون منازع «الموضوع الرئيسي» بإمتياز.
أما نجم المؤتمر فكان علي لاريجاني، بما يمتلكه من كفاءة في توجيه وإدارة اللعبة بحسب القوانين الغربية، سواء من حيث الشكل «بلباسه الغربي»، غير المتوقع بالنسبة إلى العديد من الزملاء الإعلاميين الغربيين، الذين تهامسوا في ما بينهم في قاعات الصحافة عند إطلالته بالقول «إنه يشبهنا». أو من حيث «المضمون» عبر إتقانه الزائد لقوانين لعبة الإثارة والتشويق وقواعدها، إذ باغتهم لساعات، قبل افتتاح المؤتمر، بإمكان عدم مشاركته، كما باغتهم بمجيئه، وذلك على خلفية مشاركة وزيرة خارجية إسرائيل تسيبي ليفني التي ألقت كلمة في الجلسة الافتتاحية.
غير أن المسؤول الإيراني تنازل عند أهمية مشاركة إيران، لتبديد ما يشاع من أخطار تُلصق ببرنامجها النووي، الذي أعلنته مصدراً سلمياً للطاقة والتقدم، لا سلاحاً عسكرياً للقتل والدمار.



غيتس: حرب باردة واحدة تكفي
رفض وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس أمس اتهامات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للولايات المتحدة بأنها تسعى إلى فرض سطوتها على العالم، واصفاً إياها بأنها “كلام فظ من جاسوس قديم”، لكنه أوضح أن من الضروري مواصلة التعاون مع موسكو.
وقال غيتس، المدير السابق للمخابرات المركزية الأميركية، أمام مؤتمر ميونيخ، إن «الكثير منكم لديه خلفية في الدبلوماسية أو السياسة... أما أنا فلدي ــ مثل متحدثكم الثاني أمس (بوتين) ــ خلفية مختلفة تماماً.. تاريخ طويل في أنشطة التجسس. وأعتقد أن الجواسيس القدامى لديهم عادة التحدث بفظاظة».
وقال وزير الدفاع الأميركي إن «حرباً باردة واحدة تكفي». وأضاف أن العالم اليوم أصبح مختلفاً وأكثر تعقيداً مقارنة بأيام الحرب الباردة، حيث أصبحت الشراكات مع دول أخرى، من بينها روسيا، ضرورية لمواجهة المشاكل العامة وتحدي التطرف الإسلامي الجديد.
وقال غيتس إن روسيا «شريك في المبادرات... لكننا نتساءل كذلك بشأن بعض السياسات الروسية التي تبدو أنها تزعزع الاستقرار الدولي مثل نقل الأسلحة وميلها إلى استخدام مواردها للطاقة في عمليات الإكراه السياسي».
وقال متحدث باسم البيت الأبيض إن تصريحات بوتين “أدهشته وخيبت أمله”.
وعبر وزير الخارجية التشيكي، كارل شفارتزنبرج، بوضوح عن مخاوف بلاده، قائلاً إن تصريحات بوتين تظهر أهمية توسيع حلف الأطلسي كحلف عسكري عبر المحيط الأطلسي. وأضاف، في مؤتمر ميونيخ: “علينا أن نتوجه بالشكر للرئيس بوتين الذي لم يبذل فقط عناية كبيرة للترويج لهذا المؤتمر أكبر مما كنا نتوقع، بل أيضا لأنه أشار بجلاء، وعلى نحو مقنع، لماذا يجب توسيع حلف الأطلسي”.
ورأى الأمين العام للأطلسي، ياب دي هوب شيفر، أن انتقادات الرئيس الروسي لتوسع الحلف الاطلسي إلى الحدود الروسية “غير بناءة”. وقال إن “الحلف الأطلسي لا يتمدد على حساب أحد. والبلدان التي تريد أن تكون أعضاء في نادي الديموقراطيات تنضم اليه بملء ارادتها”.
إلى ذلك، أكد وزير الدفاع الروسي سيرغي إيفانوف أن انتقادات الرئيس الروسي تجاه الولايات المتحدة لا تهدف إلى إثارة مواجهة مع واشنطن. وقال أمام مؤتمر ميونيخ: “إن خطاب رئيسنا كان حقاً صريحاً وصادقاً ودقيقاً”. وأضاف: “لا أعتقد أنه كان هناك (في خطاب بوتين) أي روح عدوانية أو رغبة في المواجهة”.
(أ ف ب، رويترز، د ب أ)