موسكو ــ حبيب فوعاني
تاريخ العلاقات بين الامبراطورية الروسية وبلاد فارس ملبّد بغيوم النزاعات على النفوذ في بحر قزوين وشمال القوقاز وما وراءه وآسيا الوسطى، وليس نادراً ما كانت تنتهي بالحروب بين الجانبين، كما جرى في فترتي 1804ــ 1813 و1826ــ 1828

يتذكر العالم احتلال الإيرانيين للسفارة الأميركية في طهران عام 1979 واعتقال موظفيها، بينما يكاد القليلون يتذكرون هجوم الجماهير على البعثة الدبلوماسية الروسية في طهران عام 1829 وقتلهم وتمثيلهم بالدبلوماسي والكاتب الروسي الشهير ألكسندر غريبويدوف لاتهامه بالتهتك الأخلاقي. وقد اضطر هذاالحادث الشاه الفارسي أن يرسل مع ابنه إلى القيصر الروسي نيقولاي الأول فديةً عن قتل السفير الروسي حجراً كريماً خرافياً من الألماس حجمه 90 قيراطاً ووزنه 18 غراماً وطوله 3 سنتمترات، ولا يزال محفوظاً حتى الآن في الكرملين.
وبالرغم من أن العلاقات بين البلدين شهدت تحسناً بعد انتصار ثورة البلشفيين في عام 1917، والذين وقفوا ضد سياسة «القياصرة الطغاة» الاستعمارية، وأعادوا لإيران الأراضي التي اقتطعتها منها الإمبراطورية الروسية، إلا أن إيران بقيت بعد ذلك ميداناً للتنافس بين السوفيات والأتراك والبريطانيين، والأميركيين فيما بعد.
وقد تميّزت العلاقات ببعض الدفء بعد انتصار الثورة الإيرانية في 11 شباط 1979، واستقبل الإمام الخميني السفير السوفياتي في طهران فلاديمير فينوغرادوف أكثر من مرة. لكن العلاقات السوفياتية ــ الإيرانية ساءت بشكل ملحوظ، بسبب الاجتياح السوفياتي لأفغانستان، وبعد تقديم المساعدات العسكرية والتقنية والاستخبارية السوفياتية لنظام صدام حسين خلال الحرب العراقية ــ الإيرانية. وبدأ عندئذ الحديث في طهران عن «الشيطان الأكبر» أميركا و«الشيطان الأصغر» الاتحاد السوفياتي.
وبعد زوال الحاجز الإيديولوجي بين البلدين بانهيار النظام الشيوعي في عام 1991، ولمواجهة الضغوط الأميركية المتنامية على طهران، بدأ الجانب الإيراني بجس نبض الجانب الروسي حول تطوير التعاون بين البلدين.
وشهد عام 1992 بداية التعاون الروسي ــ الإيراني في مجال الطاقة النووية، عندما وقّع البلدان اتفاقية بشأن التعاون في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية. وفي عام 1994، وقعت طهران مع موسكو عقداً بقيمة 800 مليون دولار في البداية، بينما يبلغ الآن مليار دولار، لبناء مفاعل بوشهر النووي لتوليد الطاقة الكهربائية بعدما تنصّلت شركة «سيمينس» الألمانية من إكماله بضغط من الولايات المتحدة.
وفي شهر آذار من عام 2000، زار الرئيس الإيراني محمد خاتمي موسكو وأجرى مباحثات مع الرئيس الروسي الجديد آنذاك فلاديمير بوتين وكبار المسؤولين العسكريين الروس، وتم أثناءها توقيع مذكرة تفاهم بشأن التعاون بين البلدين.
وفي شهر كانون الأول من عام 2000، أجرى وزير الدفاع الروسي إيغور سيرغييف زيارة رسمية إلى طهران، وكانت مباحثات مع كبار المسؤولين الحكوميين الإيرانيين حول تنمية التعاون العسكري بين موسكو وطهران، وناقش مع الرئيس خاتمي قضايا الأمن والتعاون الاقتصادي في منطقة الخليج العربي وآسيا الوسطى والقوقاز. واعتُبر ذلك تأكيداً لإعلان موسكو عن انسحابها من الاتفاق الذي جرى في عهد الرئيس الروسي بوريس يلتسين بين نائب الرئيس الأميركي آل غور ورئيس الحكومة الروسية فيكتور تشيرنوميردين في عام 1995، حول حظر التعاون العسكري والتقني مع إيران.
وقد حاولت الولايات المتحدة، وبتحريض إسرائيلي مباشر، التخريب على الطموحات الإيرانية بامتلاك التكنولوجيا النووية السلمية، وحاولت الضغط بشتى الوسائل على موسكو لإيقاف تعاونها مع طهران. وقال نائب وزير الخارجية الأميركية السابق جون بولتون إن مفاعل بوشهر سيكون قادراً على إنتاج مواد انشطارية تكفي لصنع ثلاثين قنبلة نووية سنوياً.
لكن عهد يلتسين الخانع كان قد ولّى، وشدد بوتين خلال زيارته لواشنطن في 24 أيار 2002 على «أن روسيا تقدم الدعم التقني لإيران في المجالات السلمية فقط». وألمح بسخرية إلى تعاون الولايات المتحدة العسكري مع تايوان، وقال «إن روسيا قلقة أيضاً من تطوير تايوان لصواريخها البعيدة المدى».
التحوّل الحاسم في العلاقات الروسية ــ الإيرانية حل في بداية ولاية فلاديمير بوتين الرئاسية الثانية عام 2005، عندما اتخذت السياسة الروسية الخارجية نحو الشرق الأوسط معالم استقلالية واضحة وزار بوتين إسرائيل وفلسطين؛ وفي تشرين الثاني من عام 2005 وقعت إيران وروسيا، وللمرة الأولى، عقد تسليح ضخماً، بقيمة مليار و400 مليون دولار، تلقت طهران بموجبه 29 منظومة صواريخ فعالة للدفاع الجوي من طراز «تور إم ــ1»، وتقوم موسكو بموجبه أيضاً بتحديث الطائرات الإيرانية العسكرية من طراز «سوخوي ــ24» و«ميغ ــ29». وقامت روسيا بصنع وإطلاق أول قمر اصطناعي إيراني إلى الفضاء.
وبالرغم من تأكيدات روسيا أنها لم تخالف نظام منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، فإن ذلك لم يمنع الكونغرس الأميركي من فرض عقوبات على مؤسسات إنتاج وبيع الأسلحة والتقنية العسكرية الروسية من حين لآخر.
وتعدّ إيران، جارة روسيا على بحر قزوين، مجالاً حيوياً لمصالح موسكو من الناحية الجيوبولوتيكية، حيث إنها تقع في وسط «قوس الأزمات» الشهير، وتضمن العلاقات المتينة مع طهران لروسيا الحماية من «المصائب» المعاصرة، وتساعدها إلى درجة ما في التحصن ضد وصول «الإرهاب» إليها والمخدرات وغيرها من الأخطار الآتية من الجنوب.
وإيران هي أقصر طريق لروسيا للوصول إلى البحار الدافئة، التي سعى إليها الروس منذ غابر الأزمان. وتريد موسكو في المستقبل استخدام هذا الاتجاه لمد أنابيب نقل النفط والغاز عبر إيران إلى الخليج العربي ومن هناك إلى المستهلكين في أوروبا وآسيا.
ويحتل التعاون في حقل الغاز والنفط حيّزاً مهماً من العلاقات الروسية ــ الإيرانية. فقد قامت شركة «غاز بروم» الروسية في العام الماضي في إطار كونسوسيوم دولي بتطوير المرحلتين الثانية والثالثة في حقل «بارس» الجنوبي الإيراني. وبلغ حجم استثمارات «غاز بروم» في هذا الحقل نحو 750 مليون دولار.
وعلى أي حال، يبقى الجانب السياسي الأهم في العلاقات بين البلدين. فروسيا تؤكد، بإمساكها ورقة المساومة الإيرانية، على استقلالية قرارها أمام المجتمع الدولي وعودة دورها في الشرق الأوسط كدولة عظمى. وطهران تستخدم موسكو غطاء دبلوماسياً في تحركاتها على الصعيد الدولي.