أرنست خوري
لا بدّ لكلّ من يتابع أحوال العراق منذ عام على الأقلّ، أن يلاحظ انخفاضاً ليس بهامشيّ لأعداد القتلى المدنيّين على وجه التحديد. ومن المؤكّد أنّ البحث عن أسباب هذا الانخفاض ليس بالأمر اليسير، وخصوصاً أنّ عوامل داخليّة وإقليميّة ودوليّة عديدة تتداخل في المشهد العراقي. لكن مهما تقول الأعداد، فإنّها لا تكوّن صورة جيّدة لوضع الاحتلال والطبقة السياسيّة التي تعترف بشرعيّة وجوده

لو كان الأمر بيد الأميركيّين، لكانوا طوّبوا شهر تشرين الأوّل الماضي، «الشهر الذهبي» لـ«إنجازاتهم» العسكريّة في العراق من حيث تقليص عدد القتلى في هذا البلد إلى 554 قتيلاً، وهو منسوب شهري يُعدّ الأدنى منذ اندلاع الأحداث الطائفيّة التي انطلقت بعد تفجير ضريح الإمامين العسكريين في سامرّاء في شباط الماضي.
غير أنّ التطوّر على صعيد التحسّن الأمني لم يقتصر على تشرين، بل كان هذا الشهر تتويجاً لمسار امتدّ على ثلاثة أشهر من انخفاض الوتيرة الدمويّة، وهو ما عبّر عنه قائد قوات الاحتلال دايفيد بيترايوس، خلال إدلائه بشهادته أمام الكونغرس يوم العاشر من أيلول الماضي، والتي قال فيها إنّ عدد القتلى قد انخفض بنسبة بلغت أكثر من 25 في المئة منذ كانون الأوّل 2006، علماً بأنّ أكثر الشهور دمويّة حتّى اليوم يبقى كانون الثاني 2007، إذ قُتل خلاله 1992 شخصاً. وفي وقت لاحق، رأى بيترايوس أنّ نسبة القتلى انخفضت «أكثر من 45 في المئة» من خلال سوق مقارنة بين كانون الأول 2006 وآب الماضيين.
يمكن تسجيل عدد من الملاحظات قد تكون منطلقاً لتحليل الأسباب السياسيّة والعسكريّة اللوجستيّة التقنيّة الكامنة وراء ظاهرة انخفاض العنف:
أوّلاً: خطّة «فرض القانون» التي أمر بموجبها الرئيس جورج بوش بإرسال نحو 30 ألف جندي إضافي إلى بغداد وضواحيها؛ فعقب التدهور الكبير الذي عرفته مختلف الأراضي العراقيّة أمنياً، تزايدت الضغوط على بوش، من جهة اعتبار أنّ أهمّ العيوب التي شابت خطّته في العراق، هو العدد القليل من الجنود الذين أرسلهم إلى أرض المعركة. وكان هذا العامل من أهمّ الاتهامات التي أطاحت وزير حربه دونالد رامسفيلد. وتسوّق الدعاية الأميركيّة حاليّاً بأنّ النجاح الأمني ليس سوى نتيجة عمليّة للعدد الكبير من جنود البحريّة الذين أغرق بهم بوش بغداد تحت شعار مركزي: حماية المواطنين العراقيّين للإفساح في المجال أمام القادة السياسيّين للولوج في المصالحة الوطنيّة. وتبرّر الإدارة الأميركيّة هذه الحجّة، بالإشارة إلى أنّ الانخفاض من حيث عدد القتلى العراقيّين، تمّ تسجيله في الفترة التي اكتمل فيها وصول الجنود الإضافيّين هؤلاء، أي منذ شهر حزيران الماضي.
ثانياً: اعتماد الجيش الأميركي في العراق أساليب «ذكيّة» من خلال فرز مجموعات من الخبراء العسكريّين والمدنيّين المتخصّصين في علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا لشبك علاقات ودّية مع السكّان وتنظيم برامج اجتماعيّة تنمويّة في المدن والقرى العراقيّة، يشارك فيها المواطنون بعد دراسة تقاليدهم وأنماط عيشهم، لكسر نمطيّة صورة الجيش المحتلّ كـ«مجرم مغتصب للأرض ولا يعرف في تعامله مع السكان المحلّيين سوى أسلوب القتل والتعذيب».
ثالثاً: تطوّر جهوزيّة الجيش والشرطة العراقيّين عموماً، رغم التقارير الفضائحيّة التي لا تزال تشير إلى أنّهما لا يزالان متخلّفين، مقارنة بالأموال التي صُرفَت عليهما على امتداد أكثر من 4 أعوام. وفي هذا الإطار، أكّد تقرير لجنة تابعة للكونغرس في أيلول الماضي أنّ هذين الجهازين يحتاجان إلى فترة تتراوح بين 12 و18 شهراً ليصبحا قادرين على تسلّم الأمن من الأميركيّين، وذلك يعود إلى درجة الاختراق الكبيرة المسجّلة في صفوفهما من قبل الميليشيات والعشائر. لكن في جميع الأحوال، مع بلوغ عدد أفراد الجهازين نحو نصف مليون عنصر، بات من الأسهل ضبط الوضع الأمني، وخصوصاً في العاصمة. غير أنّ كلّ ذلك يبقى قاصراً، إذ اعترف القائد الأميركي في بغداد الجنرال جوزف فيل في أيلول أنّ قواته لا تسيطر سوى على نحو 44 في المئة من أرجاء بغداد، مقارنة مع 42 في المئة في حزيران و28 في المئة في أيّار.
أمّا عن الوضع في مدينة الصدر ذات الغالبيّة الشيعيّة الموالية للسيد مقتدى الصدر، فاعترف فيل بأنّ قواته لا تسيطر «سوى على زاوية ضيّقة» منها.
لكن هذا الكلام كان قبل صدور القرار في الإدارة وقيادة الجيش الأميركيين في نقل وجهة الحملة العسكريّة المكثّفة من التنظيمات السنيّة الموالية لـ«القاعدة» باتجاه «الميليشيات الشيعيّة» وفي مقدّمها «جيش المهدي»، وهو ما كشفت عنه «واشنطن بوست» في مطلع الشهر الماضي وأكّدته تصريحات كبار جنرالات الحرب الأميركيّين، وهو ما يشهد اليوم ترجمة حرفيّة له في مدن الصدر والديوانيّة وكربلاء...
رابعاً: نجاح خطّة «إغراق العراق» في استمالة أعداد كبيرة من السنّة العرب العراقيّين، وتأليب عشائر البلاد (التي تملك نفوذاً كبيراً في الأوساط الشعبيّة) ضدّ تنظيم «القاعدة»، والنجاح في تعميم نموذج «مجالس الصحوة» العشائريّة على نسق ما حصل بنجاح حتّى اللحظة في محافظة الأنبار. ويشهد العراق ولادة أعداد كبيرة من هذه المجالس في محافظات ومدن سنيّة عديدة أبرزها، تكريت ونينوى وكركوك في مقابل مغريات ماديّة وتسليح ووعود سياسيّة.
خامساً: الاقتتال الداخلي الذي اشتعل أخيراً بين عدد من تنظيمات المقاومة العراقيّة السنيّة غير التكفيريّة ضدّ «القاعدة في بلاد ما بين النهرين»، وهو ما اعترف به ضمناً أسامة بن لادن في تسجيله الصوتي الأخير.
سادساً: الضغط على السعوديّة لإقفال حدودها الشاسعة أمام تدفّق الانتحاريّين والتكفيريّين إلى بلاد الرافدين، وخصوصاً أنّ التقارير الأميركيّة الرسميّة سبق أن أكّدت أكثر من مرّة، بأنّ السعوديّة تبقى المصدر الأوّل لعبور المقاتلين والذخيرة إلى العراق، بحيث إنّ الرياض ترى أنّ حكومة نوري المالكي تمارس نوعاً من السيطرة الشيعية على البلاد، مدعومة من إيران، لذلك لا تزال المملكة ترفض استقبال المالكي مثلاً. وقد فسّر عدد من التقارير الفتوى التي أصدرها مفتي السعوديّة عبد العزيز الشيخ في أيلول الماضي، القاضية بتحريم العمل الجهادي في العراق، كنتيجة للاستجابة السعوديّة للمطالب الأميركيّة.
سابعاً: الدور الإيراني، وهو مثار جدال لم يحسم بعد. ففي الوقت الذي تتّهم فيه الولايات المتّحدة طهران بتغذية «فرق الموت» الشيعيّة التي تنفّذ عمليات قتل طائفي ردّاً على تلك التي تمارسها الفرق السنيّة التكفيريّة، ترفض طهران بشدّة تلك الاتهامات. وحول هذا الموضوع، أعرب نائب قائد قوّات الاحتلال في العراق ريموند أوديرنو أوّل من أمس عن عدم تأكّده ما إذا كان انخفاض عدد القتلى المدنيّين يعود إلى التزام السلطات الإيرانيّة بعهد قطعه الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في آب الماضي بوقف تدفّق السلاح والانتحاريّين من حدود بلاده إلى داخل العراق، وهو ما أكّده وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس منذ أيّام.



فوضى في احتساب القتلى

يسود سجلّات إحصاء الوفيات في بلاد الرافدين تضارب كبير بين مختلف المصادر الرسميّة، العراقيّة منها والأميركية وغير الحكوميّة، يصل أحياناً إلى حدّ اللامنطق، إذ قُتِل 1654 مدنيّاً عراقياً في شهر أيلول وفقاً لتقرير صحيفة «تايمز» نقلاً عن مسؤول في وزارة الداخلية العراقيّة، بينما الإجمالي كان 1280 وفق المجموعة البريطانية Iraq Body Count، و884 بحسب وكالة «رويترز»، و827 بحسب «واشنطن بوست» نقلاً عن وزارة الصحّة العراقيّة.
ومن بين الأسباب التي تقف خلف هذا التضارب في المعلومات الإحصائيّة، هو أنّ عدداً كبيراً من الجثث التي يُعثر عليها تبقى مجهولة الهويّة فلا تُحتَسَب في سجلات الوفيات. ويُدفن عدد آخر من الجثث سريعاً من دون تسجيلها.
ولم يقتصر انخفاض نسب الوفيات في العراق على أهل البلد، بل امتدّ ليشمل أيضاً جنود الاحتلال الأميركي. فوصل عدد القتلى منهم في تشرين الأوّل الماضي إلى 39 فقط، وهو الرقم الأدنى الذي يُسَجَّل منذ آذار
2006.
(الأخبار)