حاوره: أرنست خوري
تصوير: هيثم الموسوي

أن يكون رئيس تحرير سابق لمجلّة «لوموند دبلوماتيك» ومسؤول عن طبعتها العربيّة سببان موجبان لاستطلاع موقفه من معظم ملفات منطقة الشرق الأوسط التي وُلد في قلبها وكرّس لها معظم نشاطه الفكري والبحثي والصحافي منذ عقـود. موقف تميز بالتشـاؤم من أوضـاعها، وخصوصـاً حيـال إيـران ولبـنان وفلسطين والعـراق، حتّى أنه لا يخفي تردّده في زيارة مدن فلسطين نتيجة «قرفه» من الحالة السائدة بين أبنائها


• لقد كتبتم في العدد الأخير من مجلّة «لوموند دبلوماتيك» أنّ لبنان يعيش «حرباً أهليّة صامتة» فهل تظنّون أنها ستظلّ صامتة في ظلّ الكلام على تسلُّح بعض الأحزاب؟
- هناك قراءتان للأزمة اللبنانيّة: تلك التي تقول إنّ الأزمة أساساً داخليّة ـــــ داخليّة مرتبطة بالنظام الطائفي والتوازن بين الطوائف، وإنّ بلداً كلبنان لا يمكنه أن يمارس ديموقراطيّة بغالبيّات عاديّة... بالتالي، فالبلد ينقسم اليوم إلى قسمين شبه متعادلين من حيث النسب الشعبيّة. ولا يهمّ هنا أن نعرف من يملك الـ51 في المئة من الشعبيّة... إذاً تقول هذه القراءة إنه يجب إيجاد صيغة توازن وتسوية بين الأطراف.
والقراءة الثانية للأزمة، هي تلك التي تروّج لها الإدارة الأميركيّة وتصوّر لبنان على أنّه رأس حربة في الحرب العالميّة الثالثة على الإرهاب. وهذه القراءة تعتبر أنّ هناك جبهات لهذه الحرب بدأت من أفغانستان وانتقلت إلى العراق، ثمّ إلى لبنان عام 2006 لتصل إلى الصومال ولتعود إلى لبنان. وفي ظلّ هذه «النظريّة»، لا يعود هناك من مكان للكلام عن تسويات أو توافق لأنّ أساس الفكرة تقوم على أنّ الصراع هو بين الخير والشرّ، وبالتالي الحلّ لا يكون إلا بالقضاء على العدو وليس التفاوض معه. وأتت تصريحات وزيرة الخارجيّة الأميركيّة كوندوليزا رايس منذ أيام لتترجم هذه النظريّة عندما أكّدت أنه لا يجب السعي وراء تسوية في لبنان، بل يجب أن ينتصر فريق 14 آذار بشكل حاسم. وبهذه التصريحات، تكون رايس قد خطت خطوة سريعة نحو الحرب الأهليّة التي أرجّح أن تندلع في حال انتخاب رئيس بالنصف الزائد واحداً. الحلّ المؤقّت والقابل للتنفيذ هو التوافق وتمرير تاريخ الـ24 من الشهر الجاري، موعد الانتخابات الرئاسيّة، من خلال التوافق على رئيس تسوية لأنّ الذهاب بتفرّد في الانتخابات من قبل الغالبيّة النيابيّة سيؤدّي بشكل ميكانيكي إلى خطوات مقابلة من نوع حكومة ثانية وانقسام في المؤسّسات وهو ما يُرَجَّح أن ينتهي بحرب أهليّة حقيقيّة. وقد سجّلت الأيّام الأخيرة مؤشّرات إيجابية، منها لقاءات عون ـــــ الحريري، لكن عادت رايس وأحبطت الآمال عندما أعلنت رفضها لأي تسوية وفاقيّة. والمزعج في كلام رايس هذا، أنه رسالة موجّهة إلى حلفائها في 14 آذار ليلتزموا بها في تحرّكاتهم، وهذا مؤسف للغاية.

• لقد سبق أن اتهمت مباشرة في مقالتك الأخيرة في عدد الشهر الجاري من «لوموند دبلوماتيك» بأنّ الإدارتين الأميركيّة والفرنسيّة لا تريدان توافقاً في لبنان...
- الموقف الأميركي من لبنان واضح، وهو لا يريد علناً التوافق بين طرفي الموالاة والمعارضة، لكنّ الموقف الفرنسي تطوّر بعد رحيل الرئيس جاك شيراك، الذي جيّر موقف بلاده لمصلحة علاقاته الشخصيّة التي جمعته بعائلة الحريري. ثمّ إنّ وجود عدد كبير من الجنود الفرنسيّين في قوّات الأمم المتّحدة (يونيفيل) في جنوب لبنان فرض على باريس اتخاذ موقف أقل تطرّفاً من ذلك الذي اتخذه فريق شيراك؛ فخلال عهد شيراك، كان الموقف الفرنسي من لبنان هو الأكثر تطرّفاً وهو كان يجرّ خلفه الموقف الأميركي. أمّا اليوم، فالموقف الفرنسي ملتحق بالأميركي، ولكن لا يقوده كما في السابق.

• هل ترى أنّ هناك أطرافاً لبنانيّة ترغب بالذهاب في هذا الخيار أي الحرب الأهليّة؟
- أعتقد أنّ «الشعب اللبناني بأجمعه لا يريد الحرب... وهناك طرف واحد حتّى الآن يريد فعلاً هذه الحرب الأهليّة هي الإدارة الأميركيّة، واندلاع هذه الحرب لن يؤدّي سوى إلى توسّع رقعة الفوضى الأميركيّة في «الشرق الأوسط الكبير».

• وماذا عن تسلُّح الأحزاب من الجهتين والتدريبات العسكريّة؟
- هذا طبيعي، وعبارة عن ردّات فعل على أجواء الحرب في المنطقة ونابع من خوف الأطراف من بعضها البعض وليس رغبة منها في تفجير الحرب الأهليّة؛ فالأطراف جميعها تعيش وهم «نظريّة المؤامرة» وتتصرّف على هذا الأساس. وتمّت ترجمة هذا الخوف المتبادل في 25 كانون الماضي في الشوارع والجامعات. والخوف أنّ آثار هذه الشرارات انطفأت، لكن ليس بشكل كامل إذ إنّ العامل الأساسي لتهدئة الأوضاع كان حينها الانضباط الكبير الذي يُعرَف عن حزب الله وإلا لكان الوضع تفاقم.

• كيف تقيّمون المناورات الضخمة التي أجراها حزب الله في جنوب الليطاني؟ هل ترى فيها رسالة إلى إسرائيل فقط، أم كما فسّرها بعض شخصيات الغالبية النيابية بأنها تهدف إلى عرقلة الاستحقاق قبل أيّام من موعده؟
- أعتقد أنّ حزب الله لن يوجّه سلاحه إلى الداخل، وهو ما لم يفعله حتّى اليوم. الرسالة محصورة بإسرائيل. والمشكلة أنّ الأزمة اللبنانيّة مرتبطة عضويّاً بالوضع الإقليمي حيث إنّ حزب الله هو أيضاً لاعب إقليمي كبير. فكلّما وضعنا الأزمة اللبنانيّة في قالب دولي تنحسر إمكانات الحلّ ويجنح حينها حزب الله وإيران وسوريا إلى إيجاد أنفسهم معنيّين بأي شيء يحصل في المنطقة كلّها؛ فعندما يشعر حزب الله بأنّ المنطقة تتّجه إلى ضربة عسكريّة ضدّ إيران، وأعتقد أنّ قيادة الحزب تميل إلى هذا الاحتمال، يكون الموضوع اللبناني قد خرج من إطاره الوطني.

• وماذا عن التوقيت والبعد الداخلي للمناورات؟
- لا أبعاد داخليّة لها، فجميع الأطراف تدرك أنّه لا أحد يستطيع منافسة ومقارعة حزب الله عسكرياً، ومن جهة ثانية لا يمكن لها أن تعطّل أو تسهّل الانتخابات الرئاسيّة. وإذا كان الحزب يريد تعطيل الانتخابات فهو ليس بحاجة لتنفيذ مناورات، فلديه وسائل أخرى. البلاد مقسومة إلى جزءين، وميزان القوى واضح بحيث تتفوّق المعارضة من دون منافسة على الموالاة، في حين تحظى الأخيرة بدعم أميركي وغربي كبير.

• هل تعتقد أنّ عدواناً أميركيّاً سيُشَنّ على إيران بغضّ النظر عن شكله (هجوماً جويّاً خاطفاً أو غزواً...)؟
- أنا من المتشائمين ومن المرجّحين بأنّ هجوماً جوياً عنيفاً سيُنَفَّذ ضدّ إيران، لكن لا مكان للحديث عن غزو لأنه بالأساس ليس هناك عدد كاف من الجنود الأميركيّين لاجتياح مماثل. السيناريو الذي أرجّحه هو المتداول في التقارير الأميركيّة من ناحية غارات جوية قوية لا تقتصر على المنشآت النووية، بل تطال مؤسّسات النظام والحرس الثوري... لتمهيد الطريق أمام المجموعات المعارضة الداخليّة (الأقليات) بالانقضاض على النظام وذلك قبل انتهاء ولاية بوش نهاية العام المقبل. والعوامل الثلاثة المشجّعة للحرب هي أوّلاً، أنّ الشعب الأميركي معادٍ بشكل غير مسبوق للنظام الإسلامي في إيران، وثانياً، الأزمة العراقيّة بحيث إنّ الإدارة تعتبر أن الخروج من المأزق العراقي لن يتمّ سوى من خلال ضرب إيران. والعامل الثالث يرتبط بالأيديولوجيا بحيث يصوّر بوش نفسه كقائد للحرب العالميّة الثالثة، ويُظهر نجاد كهتلر جديد. لكنّ الضربة على إيران ستقوّي النظام وتثير القوميّة الإيرانية ولن تقضي عليه.

• وماذا عن ردّة الفعل الإيرانيّة المنتظرة على الضربة: انتقام من الدول العربيّة أو حتّى أبعد...
- بما أنّني أرجّح أنّ تكون الضربة أميركيّة فقط، فلا أعتقد أنّ الردّ سيطاول أوروبا بغضّ النظر عن قدرة إيران على أن تطال هذه القارّة أم لا. ففي النهاية، ستكون ردّة الفعل الإيرانيّة محسوبة لأنّ النظام عقلاني بامتياز ويحسب خطواته بدقّة، وهذا ما يدفعني إلى التشكيك بإمكانيّة قيامه بضرب الدول العربيّة حتّى تلك التي تستضيف القواعد الأميركيّة (قطر، البحرين، السعوديّة...). في ما يختصّ بخيار إقفال مضيق هرمز، أعتقد أنّ هذه الخطوة ستؤذي الإيرانيّين أكثر ممّا تفيدهم لأنها ستزيد من العزلة عليها. لكن قد نشهد عمليّات انتحارية في الدول الخليجيّة التي فيها غالبيّة ديموغرافيّة شيعيّة. الأثر الأكبر الذي أتوقّع أن يظهر نتيجة الضربة هو انفجار العلاقات الشيعية ـــــ السنيّة في المنطقة. أمّا الردّ الإيراني الأوضح فسيكون في العراق، حيث لم تؤدي إيران بعد الدور الكبير في زعزعة الوضع في العراق. هم موجودون ويدعمون أطرافاً، لكنّ هذه الأطراف هي الحاكمة اليوم في بغداد و«جيش المهدي» ليس محسوباً على إيران مثلاً. والردّ الإيراني في العراق سيجعل الحياة جحيماً على الأميركيّين بشكل دراماتيكي وهي تبقى ورقتهم الأقوى.

• في الحديث عن العراق، كيف تفسّر انخفاض عدد القتلى من المدنيّين والأميركيّين؟ هل بدأ المشروع الأميركي ينجح في بلاد الرافدين؟
- هذا يعود أوّلاً إلى إغراق بغداد بهذا العدد المذهل من الجنود، لكن هذا لا يمكنه أن يستمر لأنّ الإبقاء على هذا العدد مستحيل. السبب الأساسي لانخفاض قتلى الأحداث الطائفيّة يعود إلى الفرز الطائفي الذي أدّت إليه السياسات الأميركيّة، فالاختلاط بين السنّة والشيعة بات شبه منعدم في العراق، وهذا لا يؤشّر أبداً إلى مستقبل إيجابي للعراق.

• هل يجب الانتظار حتّى انتخاب رئيس جديد في البيت الأبيض لكي تتغيّر السياسة الأميركيّة في العراق ويحصل الانسحاب؟
- أخشى أن يكون ليس هذا ما هي الحال عليه، لأنّ جميع المرشّحين الديموقراطيّين يرغبون بإبقاء قوّات أميركية في المنطقة، ولن تتغيّر السياسة فعليّاً. وحقيقة الحملة الديموقراطيّة الحالية الداعية للانسحاب ليس سوى حملة انتخابيّة تحاكي المزاج الشعبي الرافض لاستمرار الحرب.

• هل تعتقد بأنّ «مؤتمر السلام» المقرَّر قريباً في أنابوليس سينعقد؟
- الأطراف الثلاثة الرئيسية فيه تحتاج فعلاً إلى عقده. فمحمود عبّاس بحاجة للدعم والغطاء الدوليّين بعدما فقد الشعبيّة الفلسطينيّة وبات محاصَراً في الضفّة الغربيّة، والولايات المتّحدة بحاجة إليه لتقدّم شيئاً لحلفائها من العرب السنّة المعتدلين قبل انتهاء ولاية بوش، والحكومة الإسرائيليّة وأولمرت تحديداً بحاجة ليقول للغرب إنه جاد في البحث عن السلام. ليس من المستحيل أن ينعقد المؤتمر، لكنّه لن يأتي بأي جديد على صعيد حلّ القضيّة الفلسطينية.

• هل تعتقد بأنه سيكون نوع من اتفاق «أوسلو» جديد من ناحية التنازلات الفلسطينية حول قضايا الحل النهائي (حقّ العودة والحدود والقدس)؟
- لا يستطيع أي مسؤول فلسطيني أن يواجه شعبه في المساومة على هذه القضايا. ما أرجّح أن يحصل هو أن تجتمع هذه الأطراف الثلاثة، من دون سوريا طبعاً في انتظار الردّ السعودي النهائي الذي سيكون انتصاراً كبيراً لواشنطن فيما لو شاركت الرياض، ويصدر عن اللقاء مجرّد «إعلان نوايا» من دون أن يقترف أبو مازن خطيئة التوقيع على أي اتفاق مكتوب لأنّ ذلك إذا حصل لن يعني سوى النهاية السياسية له وهو يدرك ذلك.

• كيف ترى مصير العلاقة بين «فتح» و«حماس»؟ هل تعتبر أنّ المصالحة معقولة بينهما، وخصوصاً أنه يُقال إنهما باتا يختلفان حول كلّ شيء؟
- لا أعتقد أبداً أنّ الخلاف عميق إلى هذ الدرجة، فظاهر الخلاف سياسي، لكنّ الجوهر يعود أساساً إلى حقد طبقي يكنّه جزء كبير من بورجوازيّة جمهور «فتح» إلى «حماس» الذين يُنظَر إليهم على أنهم فقراء البلاد، وغير المثقّفين الذين استولوا على القطاع. لا أقول إنه ليست هناك مشاكل سياسية وعقائديّة بين الطرفين، لكن هناك جزءاً كبيراً من خلفيّة العداء تعود إلى عداء طبقي تاريخي بين عامّة الفلسطينيّين الذين تمثّلهم «حماس» اليوم، والأثرياء القياديّين في «فتح». في النهاية ليس أمام الحركتين خيار سوى العودة والمصالحة لأنّهما خسرتا شعبيّاً ودولياً وسياسياًَ في مقابل استفادة إسرائيل من هذا الوضع المخزي.


وُلِد في مصر من والدة روسيّة وأب هو هنري كورييل، أحد أبرز أسماء المناضلين الشيوعيّين في القرن الماضي ومن مؤسّسي الحزب الشيوعي المصري. له 7 كتب معظمها عن المنطقة العربيّة. علماني يساري لا يساوم على مسائل العدالة الاجتماعيّة والقضيّة الفلسطينيّة والمساواة ومعاداة العنصريّة