باريس ــ بسّام الطيارة
تطلّبت إعادة الهدوء إلى مدينة «فيليه لو بيل» ألف رجل من الشرطة وعدداً كبيراً من السيّارات المصفّحة إضافة إلى مروحيّتين تحلّقان باستمرار فوق وسط المدينة. وفي النهاية، حوصرت أعمال الشغب، وبحسب آخر المعلومات، يعود الهدوء تدريجاً إلى الضاحية المنكوبة. غير أنّ الثمن كان باهظاً على أكثر من صعيد.
فرغم «محدوديّة أعمال الشغب»، تغيّرت كثيراً «نوعيّة الثورة»؛ فقد تجاوز عدد رجال الشرطة المصابين ثمانين عنصراً، وظهرت للمرّة الأولى الأسلحة الناريّة في الاشتباكات، ولم تعد أعمال الشغب تقتصر على إحراق علبة قمامات من هنا وسيّارة من هناك، بل طاولت مرافق عامّة شعبية كانت الجمعيّات الإنسانيّة تعوّل عليها كثيراً للتخفيف من «وحدة الضواحي وانعزالها» عن تيّار التحديث والثقافة والانفتاح. فقد التهمت النيران مكتبة المدينة وجعلتها رماداً وأتت على مكتبة الموسيقى وإعارة الأشرطة السمعيّة والبصريّة.
وللتحديد أكثر، تميّزت «ثورة فيليه لو بيل» بتحوّل نمط الشغب ليتماثل مع أعمال العنف التي تعرفها المدن الأميركيّة، من حيث «تكتيكات حرب عصابات الشوارع». فلم يعد «الشباب» يكتفون برشق الشرطة بالزجاجات الفارغة والحجارة وفي بعض الأحيان بسوائل حارقة. بل اتّبعوا في هذه الجولة «تكتيكات هجومية»، وهو ما يفسّر العدد المرتفع للجرحى بين رجال الشرطة. وفي المقابل، ألقي القبض على ما يزيد على ٤٠ مشاغباً، تمّت محاكمة بعضهم على وجه السرعة، بأحكام بالسجن بين 4 أشهر و3 سنوات.
سيّد الإليزيه توجّه مباشرة لزيارة الجرحى من رجال الشرطة، ووعدهم بالقبض على مطلقي النار مهما كلّف الأمر لأنّ ما حدث «غير مقبول». إلّا أنّه وعد أيضاً عائلتي المراهقين اللذين قضيا في حادثة الاصطدام مع سيّارة الشرطة، تلك الحادثة التي أشعلت فتيل الضاحية، بـ«تحقيق العدالة». وبين الوعدين، جمع ساركوزي حوله «مجلس أمن داخلي» لتدارس الأمر ووعد بالتشدد في فرض الأمن.
ومجمل الأسئلة التي دفعتها نيران الضاحية أمس إلى واجهة الإعلام تدور حول «وعود الرئيس» الذي «أشعل الضاحية بخطاباته عام ٢٠٠٥»، وحتى اليوم لم يقم بأيّ خطوة لمعالجة جذور هذا المرض الذي ينخر عظام المجتمع الفرنسي، مكتفياً بتجميل فريقه الحاكم بوجهين «أتيا من عالم المهاجرين»: وزيرة العدل رشيدة داتي، وسكرتيرة الدولة لشؤون الإسكان والمدينة فاضلة عمارة. الأولى «وعدت» بالتشدّد في ملاحقة المشاغبين، أما الثانية، فقد غابت عن الصورة خلال الأحداث. وهذا ما دفع بعض الصحف للسؤال: «أين فاضلة عمارة؟».
رئيس الوزراء فرانسوا فييون يرفض أن يكون «الحلّ بواسطة رفع الموازنات المخصّصة للضواحي»، وخصوصاً أنّ الحكومة تعمل على تخفيف العجز القياسي في ميزان المدفوعات. أما وزيرة الداخلية، ميشال أليو ماري، التي يتردّد أن أيّام بقائها في الحكومة باتت معدودة، فترى في ما حصل «عمل عصابات متاجرة بالمخدرات».
وفي خضم التخبّط الحكومي في «تفسير» ما يحصل، يعود صوت اليمين المتطرّف ليرتفع مجدّداً رامياً اللوم على «الهجرة التي تغزو فرنسا». بينما لا يزال «الاشتراكي» في سبات عميق.
عاد ساركوزي وبدت الحركة الإعلامية التي رافقت تصريحاته وكأنّها تشير إلى أنّ «كل الآلة الحكوميّة» كانت تنتظر هذه العودة لإيجاد الحلّ السحري وللخروج من الأزمة. وقد اعتاد الفرنسيّون، منذ انتخاب الرئيس، هذا المشهد السياسي الذي يصفه بعض المراقبين بأنه مشهد «اللاعب الوحيد»؛ فساركوزي يريد أن تمرّ كلّ الحلول عبره. لا يريد استذكار ما قام به أيّام كان وزيراً للداخلية في خضم ثورة الضواحي منذ سنتين، وهي فترة «وقت ضائع»، حسب كل الشهادات، لأنّ معالجة «مرض الضواحي» لا يمكن أن تتم عبر «حملة إعلاميّة» ولا حركتين أمام شاشات التلفزيون وخطاب رنّان أمام وسائل الإعلام، بل تتطلّب عملاً في العمق يعالج الأسباب التي تجعل «أبناء الجمهوريّة» يحرقون جمهوريتهم.