باريس ــ بسّام الطيارة
«مدينة وطنية» تفتح ملف تاريخ الهجرة الأجنبية


هل أنهت فاضلة عمارة، سكرتيرة الدولة لشؤون سياسة المدينة، الجزائرية الأصول، مشوارها في حكومة ساركوزي؟
سؤال تطرحه مواقفها من القانون الذي يجيز الفحص الجيني للمهاجرين، ووصفها القانون بأنه «يسخّر الهجرة» وهو ما عدّته «عملاً قذراً»، وجهرت برفضها له. ورأت أن مجرد سن مثل هذه القوانين «ليس جيداً» لفرنسا «بلدنا». كذلك انتقدت قانوناً آخر جديداً يسمح بإحصاء الفرنسيين حسب أصولهم الإثنية، معتبرة أنه يقود إلى «فرز سكاني خطر».
إلا أن تصريحات عمارة لاقت صدى سلبياً جداً في صفوف نواب «تجمع الأكثرية الشعبي» اليميني الحاكم، ورأوا فيها «هجوماً من وزير على حكومته». ووجد فيه سكرتير عام الحزب المقرب من ساركوزي، بارتريك ديفدجيان، «إهانة لنواب الأكثرية التي تدعم الحكومة»، والتي صوتت مع القانون.
ومعروف أن فاضلة عمارة هي ضمن مجموعة «وزراء الانفتاح»، وكانت مقرّبة من الحزب الاشراكي مثلها مثل أربعة وزراء آخرين. وقد خلق توزيرها بلبلة بين مؤيديها الذين «صدموا بقبولها حقيبة وزارية»، رغم تصريحها أكثر من مرة بأنها «سوف تظل امرأة حرة تقول ما تريد».
وكذلك سبّب تعيينها «صدمة وتململاً» في صفوف الأكثرية، إذ إنها «تأتي من أفق بعيد جداً» عن أحزاب اليمين. إلا أن ساركوزي يصرّ على اتباع هذا النهج السياسي، وخصوصاً أنه أسهم في إضعاف الحزب الاشتراكي.
وقد طالب أكثر من نائب اشتراكي سكرتيرة الدولة بأن تكون «منسجمة مع مواقفها»، وأن تقدم استقالتها من حكومة «تسن قوانين قذرة». وقد تماهى موقف الاشتراكيين مع موقف بعض نواب الأكثرية المقربين من رئيس الوزراء السابق دومينيك دو فيلبان، الذين وقفوا ضد القانون المذكور وطالبوا الوزيرة بالاستقالة أيضاً. وكانت عمارة قد علقت على الانتقادات التي واجهتها حين قبلت الدخول في الحكومة بقولها «أملك حرية قول ما أريد، وعندما يأتي اليوم الذي أصبح فيه غير قادرة على التحمل فإني أذهب في طريقي». فهل أتى هذا اليوم؟
ويرى العديد من المراقبين أن ساركوزي لن يحرك ساكناً في خضمّ الموجة التي أثارتها تصريحات «وزيرته الثانية من أصل مهاجر»، فيما تتعرض الأولى رشيدة داتي لانتقادات شديدة من القضاة، بل سوف يترك الأمور تهمد كي تمرّ العاصفة بهدوء، إذ إن خروج أحد «معالم» سياسة الانفتاح على الأقليات وأحزاب المعارضة قد يراه الرأي العام علامة على فشل هذه السياسة، وهو ما لا يحبذه الرئيس، في الوقت الذي تدل استطلاعات الرأي على تراجع شعبيته.
وسط الضجة الإعلامية والخربطة السياسية بسبب قوانين الهجرة، افتتحت أمس في باريس «المدينة الوطنية لتاريخ الهجرة» من دون أي ضجة أو حتى حضور سياسي بارز. فساركوزي في روسيا ووزير الهجرة والهوية الوطنية بريس هورتفو غاب عن احتفال التدشين، أما جاك شيراك الذي كان وراء فكرة «المتحف»، فقد فضل تأجيل زيارته يوماً إلى ما بعد الافتتاح.
وللهجرة دور كبير في اللاوعي الفرنسي يتجاوز موجات التخويف والترهيب من «الغريب». وتتفق كل الدراسات على أن اليد العاملة المهاجرة أدّت دوراً طليعياً في تحقيق تقدّم فرنسا الصناعي منذ مطلع القرن الماضي. موجة الهجرة الأولى مثّلها الإيطاليون، وتبعهم البولونيون الذين أسهموا في رفع أبنية باريس والمدن الكبرى. وخلال الحرب العالمية الأولى حلّت العمالة الآسيوية والأفريقية المستقدمة من المستعمرات الفرنسية، محل الفرنسيين في المصانع التي هجرها الرجال إلى حقول المعارك. وفي الثلاثينيات كان وسط أوروبا مصدر هجرة إلى فرنسا، تألفت أساساً من الأقليات المضطهَدة من النظام النازي، وكان معظمهم من اليهود. وبعد الحرب بدأ توافد البرتغاليين والأتراك للعمل في إعادة إعمار البلد بعد الحرب، ثم جاء المغرب العربي ليصبح المصدر الأول لليد العاملة في أيام عز النهضة الصناعية.
وتشير الأرقام إلى أن «واحداً من كل ثلاثة فرنسيين» له أصول مهاجرة. ومن بين هؤلاء مشاهير كبار دخلوا تاريخ فرنسا وأسهموا في بناء صورتها، مثل زين الدين زيدان وميشال بلاتيني ولاعب التنس يانيك نوها، أو العديد من الكتاب مثل ميلان كونديرا وصاموئيل بيكيت وأمين معلوف ومحمد ديب وطاهر بن جلون، والفنانين مثل بيكاسو أو موديغلياني الذين «اختاروا فرنسا وطناً لهم». فهل يذكر الفرنسيون أن ماري كوري أمّ العلوم النووية هي من أصل بولوني أم نسوا أن رئيسهم الجديد نيكولا ساركوزي هنغاري الأصل؟