strong>ربى أبو عمو
«سويسرا الشرق»، هكذا عرّف اللبنانيون عن بلدهم قبل الحرب الأهلية في سبعينات القرن الماضي، مرتكزين على جمال الطبيعة التي يمتاز بها البلد وقدرة الجذب السياحي والمالي. إلا أن بعضهم اهتم، ولا يزال، بالتجربة الفدرالية السويسرية التاريخية، ومحاولة إسقاطها على الحياة السياسية اللبنانية

«الخضـــر» يزاحـــم «الأربعـــة الكبـــار» في الانتخابـــات البرلمانيّـــة غـــداً

في أيلول الماضي، جمع حفل عشاء في منزل السفير اللبناني في برن، حسين رمّال، مدير المكتبة العسكرية الفدرالية السويسرية يورغ ستوسي لوتربرغ وعدداً من المغتربين اللبنانيين، شرح خلاله المسؤول السويسري عملية دمج الميليشيات التابعة لكانتونات بلاده في جيش فدرالي. وهي عبارة عن آلية طويلة وتاريخية بدأت نهاية القرن الثامن عشر لتتحقّق فعلياً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
سأل أحد اللبنانيين المدعوين «ماذا لو رفضت ميليشيا كانتون معيّن الاندماج في الجيش الفدرالي؟». فلم ينفِ لوتربرغ حصول ذلك، موضحاً «مارسنا الإقناع والاستناد إلى القانون، وتولّى المسؤولون شرح فوائد الاندماج. وفي النهاية، كانت السلطة الفدرالية تلجأ إلى وضعهم في السجن».
وجاء السؤال الثاني ليعكس إحدى الأزمات اللبنانية الحالية: «ماذا لو أرادت ميليشيا معينة مواصلة القتال ضدّ محتل للبلاد، ورفضت فئة أخرى من الشعب محاربتهم؟». وبجدية، قال لوتربرغ «إما أن نحارب جميعاً وإما لن ننجح».

بداية التكوين

عمدت سويسرا منذ القرن التاسع عشر إلى خلق «معادلة سحرية» للفدرالية لمراعاة التنوع الاجتماعي والديني واللغوي واحترام خصوصيات كل أقلية. ورغم مشارع التقسيم التي عاشتها وتعيشها المنطقة العربية، سواء على أساس استقلالي أو فدرالي، يبقى للتجربة السويسرية سحرها الخاص.
رسَّخ الدستـور الفدرالي الأول لعام 1848 الهياكل السياسية لسويسرا. إلاّ أن الأساطير الشعبية المُتداولة تفيد أن تلك الهياكل تعود إلى زمن أقدم بكثير، إذ تعهّد القرويون في سويسرا الوسطى عام 1291 إنشاء تحالف دائم جمع الكانتونات الثلاثة الأولى: يوري، وشفيتس، وأونترفالدن.
في الأساس، هدَفَ ميثاق التحالف إلى التحرّر من هيمنة الأسر الإقطاعية. وبحلول عام 1513، اتسعت رقعة التحالف لتشمل 13 كانتوناً، فتميزت هذه المرحلة بالنشاطات التوسعية السويسرية التي استمرت إلى أن اصطدمت بجدار القادة الأوروبيين الذين وضعوا حداً لها. ويَرى المؤرِّخون أن الهزيمةَ السويسرية في معركة «مارينيون» في شمال إيطاليا عام 1515، هي ذروة التطلعات التوسعية السويسرية، إن لم تكن آخرها. كما تُعدّ تلك المرحلة البداية الفعلية للحياد السويسري، الذي صادقت عليه لاحقاً القوى العظمى في مؤتمر فيينا عام 1815.
في هذا الوقت، اكتسحت حركة الإصلاح الديني البروتستانتي والحركة المعارضة مختلف أرجاء البلاد إلى أن اندلعت حرب أهلية قصيرة عام 1847، مهّدت في العام التالي إلى إنشاء الدولة الفدرالية بدستور جديد وبرلمان فدرالي، من دون أن يغفل مؤسّسو الدولة الجديدة العبر من الحرب الأهليةتتكوّن سويسرا اليوم من 26 ولاية، 20 كانتوناً و6 أنصاف كانتونات، ولكل واحدة منها دستورها الخاص الذي يصادق عليه البرلمان الفدرالي. ويعطي النظام الفدرالي السويسري للولايات الحق في التصرف في كامل السلطات، باستثناء إعلان الحرب والسلم وعقد المعاهدات الدولية والتحالفات في ما يخص القوات المسلحة وتنظيم التجارة الخارجية وشؤون الطرق والسكك الحديدية والاتصالات والطاقة الكهرومائية والتعليم العالي والعمالة.
تقع السلطة الحقيقية في يد الشعب من خلال قيامه بانتخاب ممثليه ومشاركته المباشرة في سن القوانين عن طريق الاستفتاءات، إذ يمكن إجراء استفتاء على تغيير مادة دستورية من خلال عريضة تحمل تواقيع مئة ألف ناخب. أمّا القوانين، فتتطلّب تواقيع خمسين ألف ناخب أو موافقة ثماني ولايات.
ومن خلال هذه الاستفتاءات، أُنشئت ولاية جورا عام 1979، وحظر التميز والدعاية العنصرية وإنكار الهولوكوست عام 1994، وأُبطل اقتراح حل الجيش عام 2001، إضافة إلى انضمام سويسرا إلى هيئة الأمم المتحدة عام 2002.
وبالانتقال إلى السلطات الثلاث، تتمثل السلطة التنفيذية في المجلس الفدرالي الذي يتكون من سبعة أعضاء ينتخبهم البرلمان من بين أعضائه لمدة أربع سنوات، على ألا يتمثّل أي حزب في هذا المجلس بأكثر من عضو واحد. ويعمل المجلس على تنفيذ القوانين وإعداد مشاريع قوانين جديدة وإدارة الشؤون الخارجية والمصادقة على تحركات الجيش. ويقوم البرلمان بانتخاب رئيس للمجلس الفدرالي ونائب له من بين أعضاء المجلس لسنة واحدة. وهذا المنصب فخري لا يحمل لصاحبه إلا مهمة رئاسة الجلسات، إذ يبقى الأعضاء السبعة على رأس عملهم كوزراء للاقتصاد، والخارجية، والنقل والطاقة، والداخلية، والمالية، والدفاع، والعدل والشرطة.
أمّا السلطة التشريعية، فيمثّلها البرلمان السويسري أو الجمعية الفدرالية وتتألّف من مجلسين، النواب والشيوخ. وفي الشق القضائي، تعدّ المحكمة الفدرالية في لوزان المحكمة العليا في سويسرا، وتتكوّن من 30 قاضياً تعينهم الجمعية الفدرالية لمدة ست سنوات.

الأحزاب والانتخاب

نظرياً، يستطيع أي سويسري راشد أن يصبح عضواً في الحكومة. لكن على المستوى التطبيقي، تبدو العضوية محصورة في أحد الأحزاب الأربعة الكبار المُمثلة في الحكومة منذ الحرب العالمية الثانية.
في عام 1959، اعتمد تعديل حكومي عُرِف بـ«الصيغة السحرية»، على صيغة 2-2-2-1، أي مقعدين في الحكومة للحزب الراديكالي، ومقعدين للحزب الاشتراكي، ومقعدين للحزب الديموقراطي المسيحي، ومقعد واحد لحزب الشعب السويسري (اتحاد الوسط الديموقراطي)، الذي كان يُدعى آنذاك «حزب المزارعين والحرفيين». وعكس توزيع المقاعد ما يسمّى «القوة التناسبية» لأبرز الأحزاب في البرلمان. كما أدّى النمو المتزايد لحزب الشعب السويسري (يمين متشدّد) خلال الدورتين التشريعيتين الأخيرتين إلى تخلّي الحزب الديموقراطي المسيحي عن مقعد في الحكومة لمصلحة الأوّل بعد الانتخابات التشريعية لعام 2003.
وتجدّد سويسرا برلمانها المكوّن من مجلس النواب (200 عضو) ومجلس الشيوخ (46 عضواً) كل أربعة أعوام. ومن المقرر أن ينتخب الشعب غداً البرلمان تمهيداً لتأليف حكومة فدرالية جديدة.
وأظهر آخر استطلاع للرأي أعدّه معهد «جي بي أس» في برن أنّ المعركة الانتخابية ستدور في «مربّع الوسط» على الخريطة السياسية. إذ يتوقّع أن يؤكّد حزب «الشعب» السويسري موقعه كالحزب السياسي الأول في البلاد.
وأكد استطلاع الرأي ما كان معروفاً منذ أكثر من عام، عن انتعاش سياسة حماية البيئة مجدداً. وأصبح بإمكان أنصار تيار الخضر (أنشئ منذ نحو عام) الحصول على نسبة 10 في المئة من أصوات الناخبين. ولا يمثّل تقدّم حزبي «الشعب» و«الخضر» مفاجأة نظراً لاستحواذ قضية الأجانب وموضوع حماية البيئة على اهتمام المواطنين في سويسرا. لذا يُنظر لـ «الشعب» و«الخضر» على أنهما الأكثر كفاءة لإدارة الملفين.
فهل سيكون لتقدم «الخضر» تأثير ما في الساحة السياسية الفدرالية؟ ليس هناك شك في حدوث ذلك ليدخل طرفاً خامساً في المجلس الفدرالي. ومن المرجح أن يكون تقدّم «الخضر» على حساب الاشتراكيين، الذين كانوا يحلمون باحتلال المرتبة الأولى كأكبر حزب في البلاد، لكن عليهم اليوم الاكتفاء بالمرتبة الثانية، وتأجيل خطّة تبديل موازين القوى داخل البرلمان لحساب اليسار.
ومن المرجح أيضاً أن تنحصر المعركة الانتخابية في ميدان «الوسط» نظراً لتدارك الراديكاليين (يمين) التأخر عن مستوى «الديموقراطيين المسيحيين» (وسط اليمين). ومن هذا المنطلق، يصعب التكهن بهويّة من ستتولى القوة السياسية الثالثة في البلاد. لكن مقارنة بـ«نتائج انتخابات 2003» يمكن القول إن الديمقراطيين المسيحيين في صعود والراديكاليين في هبوط.
ورغم كون الدين لا يعكس توجهات المجتمع السويسري مع تبني غالبيتهم مفهوم العلمانية، إلاّ أن الدين أصبح أحد المواضيع الرئيسية لحملة الانتخابات الفدرالية. ويرى محلّلون أن قرار بعض السياسيين (حزب الشعب) تركيز اهتمامهم على الإسلام يرتبط بالاستراتيجية أكثر منه بالعقيدة؛ فسعي هذه الحزب إلى طرح استفتاء شعبي يدعو إلى حظر بناء المآذن، بحجة أنها تهدّد السلام الديني، يعيد المسائل العقائدية إلى بؤرة الضوء.
وإذا عدنا إلى التاريخ، فسنجد أن الدين أدى دوراً مهماً في الحياة السياسية السويسرية، وغالباً ما تمحورت الحروب المحلية حول الدين والمُواجهة بين الكاثوليك والبروتستانت. كما أن سويسرا الحديثة تأسست عام 1848 على أثر آخر صراع مماثل.


شعب الأقلياتويمثّل السويسريون المتحدثون بالألمانية اكثر من 60 في المئة من إجمالي سكان البلاد، أي الغالبية. إلاّ أن لغتهم الأم هي «السويسرية الألمانية»، وهي عبارة عن مجموعة من اللهجات الدارجة التي لا يفهمها كل السويسريين. فإذا التقى شخص من الجزء المتحدث بالألمانية في كانتون «الفالي» مواطناً يتحدّث اللغة الدارجة في سانت غالن، فقد يجد بعضهما صعوبة في فهم بعض.
واختار بعض الكانتونات أن يكون ثنائي اللغة بشكل رسمي مثل برن وفريبورغ والفالي. أمّا سكان بعض الأودية في كانتون غراوبوندن، فيتحدثون ثلاث لغات، هي الألمانية والرومانش والإيطالية.
وتتميز المنطقتان السويسريتان المتحدثتان بالإيطالية والرومانش ـــــ وهما أقليتان ـــــ بقدرة مثيرة وربما منطقية على فهم معظم اللغات السويسرية والحديث بها أيضاً. ويعود ذلك إلى تنقّل سكانهما التدريجي إلى الأودية المرتفعة في كانتون غراوبوندن (جنوب شرق البلاد) منذ حقبة ما بعد الرومان.
تجدر الإشارة إلى أن انتشار اللغة الإنكليزية باعتبارها لغة الأعمال، وموسيقى «البوب» والكمبيوتر، أضعف مقدرة السويسريين على التحدث باللغات الرئيسية الثلاث لبلادهم. ومن بين عدد سكان سويسرا الـ7.4 مليون نسمة، هناك أكثر من مليون «أجنبي»، ولهذا يعدّ الشعب السويسري شعب الأقليات.


الحياد

الحياد
اختارت سويسرا، عكس جيرانها الأوروبيين، الحياد. إذ لا يمكن هذا البلد الانضمام إلى تحالفات عسكرية إلا في حال تعرضه للهجوم. ويمتنع عن اللجوء إلى قواته باستثناء حال الدفاع عن النفس والحفاظ على الأمن الداخلي. كما لا يمكنه اتخاذ موقف من النزاعات الدولية، أو إعطاء قوات أجنبية حق عبور أراضيه.
وبعد نهاية الحرب الباردة وتنامي العولمة، أصبح من الصعب الحفاظ على حياد حقيقي وتقليدي. فانضمت سويسرا إلى الأمم المتحدة في 10 أيلول 2002، رغم مشاركتها على مدى عقود طويلة في نشاطات وكالات متخصصة مثل منظمة الثقافة والتربية والعلوم التابعة للأمم المتحدة «يونسكو»، ومنظمة الصحة العالمية، وغيرها.
واستدعى انضمام سويسرا إلى الأمم المتحدة تنظيم استفتاء شعبي صوّت فيه 55 في المئة من الناخبين لمصلحة العضوية. سويسرا عضو أيضاً في «الشراكة من أجل السلام»، التي أطلقها حلف شمال الأطلسي، من دون أن تكون لديها رغبة في الانضمام للتحالف العسكري للمنظمة بما أن ذلك قد يمس بمبدأ الحياد.