strong>حسام كنفاني
«الحركـــة الشعبيّـــة» تستعجـــل الانفصـــال عـــن الشمـــال... محصّنـــة بدعـــم واشنطـــن

الجنوب السوداني، قضية قديمة جديدة، تبرز مرة أخرى على ساحة الملفات المضطربة لهذا البلد العربي، من دون أن تكون منفصلة تماماً عن مسار الملفات الأخرى، ولا سيما أزمة إقليم دارفور، بل قد تكون أساسية في تحديد توجهات هذا الملف، المؤثر حتماً في تفجّر أزمة الجنوب مجدداً.
تعليق وزراء الحركة الشعبية لتحرير السودان مشاركتهم في الحكومة المركزية لم يأت من فراغ، كما أنه ليس مرتبطاً كلياً بالنقاط التي أعلنت الحركة الشعبية أخيراً أنها لا تزال عالقة في اتفاق السلام الموقّع بين الشمال والجنوب، ولا سيما أن هذه النقاط مطروحة للبحث منذ اليوم الأول لتوقيع اتفاق السلام، وبالتالي ليست مستجدة على الساحة السودانية لتدفع الجنوبيين إلى الانسحاب من الحكم المركزي.
وفقاً للإعلان الأخير للجنوبيين، حمّلت «الحركة الشعبية» شريكها الشمالي مسؤولية الأزمة، عبر «تعدّيه» على السلطات الدستورية للنائب الأول للرئيس سلفا كير ميارديت، في إشارة خصوصاً إلى رفض الرئيس عمر البشير إقالة بعض الوزارء الجنوبيين، ولا سيما وزير الخارجية لام أكول، الذي تتّهمه «الحركة الشعبية» بتنفيذ سياسية الشمال، وتعيين منصور خالد، المعروف بتوجهاته الأميركية، بديلاً له.
النقطة الثانية التي أثارتها «الحركة الشعبية» هي مسألة انسحاب الجيش السوداني من المناطق الجنوبية، وخصوصاً من مناطق إنتاج النفط، الذي كان مقرراً وفق اتفاق نيفاشا عام 2005 في تموز عام 2007. وتردّ الحكومة المركزية عدم تنفيذ هذا المطلب إلى أن حكومة الجنوب لم تنفذ التزاماتها بسحب قواتها من أرض الشمال.
النقطة الثالثة والأهم، والتي تمثّل عقدة في علاقة الشمال والجنوب، هي في منطقة آبيي التي تقع على مسافة 650 كيلومتراً جنوبي غربي الخرطوم في ولاية غرب كردفان القريبة من دارفور، والتي تسكنها قبائل تقول الحركة الشعبية إنّ غالبيتها جنوبية، فيما تقول الخرطوم إنها شمالية.
لكن الانتماء العرقي أو الإثني لا يمثل الخلاف الحقيقي على المنطقة؛ فحقول النفط الغنية في آبيي تعكس أساس الخلاف، ولا سيما أن ما استُخرج من المنطقة عام 2005 وحده يشكل ربع الإنتاج النفطي السوداني. ومع أنه جرى توقيع بروتوكول خاص بهذه الولاية بين الطرفين بهدف التوصل إلى تسوية لوضعها النهائي، سواء جنوبية أو شمالية أو اقتسامها، لا تزال الحركة الشعبية تعتبرها جزءاً من حقوقها، وتتهم الشماليين بـ«سرقة» نفطها.
والأمر إذاً ليس متعلقاً فقط بتوزيع المناصب الحكومية، وإلا لكان من المفترض أن يكون التعديل الوزاري الأخير الذي أجراه البشير كافياً لإرضاء الجنوبيين، أو قسماً منهم، ولا سيما أن الحديث يكثر اليوم عن انقسامات جنوبية تظهر من خلال التمايز في المواقف بين سيلفا كير، الذي خلف الزعيم التاريخي للجنوبيين جون غارانغ، وبين الأمين العام للحركة الشعبية باقان أموم، الذي يتخذ موقفاً متشدّداً من مسألة التوحّد مع الشمال.
ويبدو أن أموم حسم الموقف الجنوبي لمصلحته، ومن الممكن اعتباره اليوم رأس الحربة في الأزمة الجدية، رغم أن سيلفا كير يقود مفاوضات التسوية مع البشير؛ فالأمين العام للحركة الشعبية مدّ جسور تواصل منفصلة مع واشنطن، وباتت للحركة مكاتب وممثليات في الولايات المتحدة، تتصرّف على أساسها ككيان مستقل عن حكومة الوحدة السودانية، التي من المفترض أن تمثّل الشمال والجنوب.
والإدارة الأميركية تتعامل مع الوضع القائم في السودان حالياً على أساس ثنائي، عبر إغداق السلاح والمال على الجنوب، كما حدث في آخر زيارة قام بها وفد جنوبي عسكري إلى واشنطن الشهر الماضي. والتغلغل الأميركي في جنوب السودان لا يقتصر على الدعم المادي والعسكري، فالنفوذ السياسي بات واضحاً، ولا سيما أن «مبعوث السلام» الأميركي روجر ونتر شارك الجنوبيين اجتماع جوبا، الذي انتهى إلى قرار التصعيد مع الشمال. حتى إن بعض المصادر السودانية تتهم ونتر بأنه يشجّع التيار المتشدد داخل «الحركة الشعبية».
ولا يمكن فصل قضية دارفور عن أزمة الجنوب الحالية، ولا سيما أن زعماء الحركة الشعبية سعوا منذ بداية الحديث عن عقوبات على السودان إلى تحييد الجنوب عن مسار العقوبات الأميركية، ما مثّل فصلاً سياسياً مبكراً بين الشمال والجنوب.
واليوم، مع اقتراب مفاوضات سرت الخاصة بأزمة دارفور، وبوادر فشلها المسبق، ولا سيما أنها لن تشمل كل فصائل التمرّد في الإقليم، يرى الجنوبيون أن العقوبات قد تكون أمراً لا مفرّ منه في المرحلة المقبلة على الشمال السوداني.
الأزمة الجديدة قد تكون جزءاً من مسار تحييد الجنوب عن الشمال، تمهيداً لانفصال مبكر يسبق الاستفتاء على تقرير المصير المقرّر عام 2011، كما نصّت عليه اتفاقية السلام الموقعة بين الطرفين.
وهناك حديث في الخرطوم عن «سيناريو» تعده «الحركة الشعبية» يقوم على التريث ريثما تكتمل سيطرتها على بعض المناطق، بحيث تعلن الحركة بعد ذلك انفصال الجنوب من داخل برلمانها، متجاوزة مرحلة تقرير المصير والاستفتاء، لتُكرّر سيناريو السودان عام 1955، حين تجاوز اتفاق الحكم الذاتي ومتطلبات تقرير المصير ليعلن استقلالاً مبكراً عن مصر وبريطانيا.
ولهذه الغاية، قامت الحركة الشعبية بفتح 18 مكتباً لها في عدد من الدول الأفريقية والأوروبية والعربية. وأنشأت مصرفاً مركزياً جديداً، وتتفاوض مع شركات اتصالات لنشر خدمة هاتف دولي برمز مختلف عن السودان الموحّد، إضافة إلى الترخيص للمركبات العامة والخاصة بلوحات تحمل رمز «NS»؛ وهي اختصار لـ«السودان الجديد» أو New Sudan.

قامت الحركة الشعبية بفتح 18 مكتباً لها في عدد من الدول الأفريقية والأوروبية والعربية. وأنشأت مصرفاً مركزياً جديداً، وتتفاوض مع شركات اتصالات لنشر خدمة هاتف دولي برمز مختلف عن السودان الموحّد، إضافة إلى الترخيص للمركبات العامة والخاصة بلوحات تحمل رمز «NS»؛ وهي اختصار لـ«السودان الجديد» أو New Sudan