باريس ــ بسّام الطيارة
تقف الدبلوماسية الفرنسية على مفترق طرق الخيارات المؤلمة، الذي وضعتها فيه «القطيعة الساركوزية» والانحياز للسياسة الأميركية. وتزيد من حدة صعوبة الخيارات عوامل عديدة، منها أن «التوجه البوشي للمحافظين الجدد» يواجه معارضة كبيرة في داخل الولايات المتحدة، إضافة إلى ابتعاد شركاء فرنسا الأوروبيين عن السياسة الأميركية وبروز قطب لاتيني ممثل بإيطاليا وإسبانيا يتقرب من المواقع التي كانت فرنسا تحتلها وتتميز بها.
ويفسّر المراقبون «الارتباك الدبلوماسي الفرنسي» انطلاقاً من التجاذب بين مواقع فرنسا ومواقفها السابقة والمواقف «التي يسعى الحكم الجديد لوضعها فيها». ويقول دبلوماسي مراقب للتغييرات التي فرضها وصول ساركوزي إلى الإليزيه إن «الكي دورسيه تمر في مخاض صعب جداً». ويضيف أن تسارع الأحداث وتشابكها، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، يضيف من صعوبة عمليات التغيير التي «تُطالب بها الدبلوماسية الفرنسية». ويصف هذه المطالب بأنها «شبه ثورة في طريقة العمل والتفكير والمقاربة».
ويضيف دبلوماسي آخر أن الفريق الذي يحيط بوزير الخارجية برنار كوشنر «يعمل بعمق على تغيير نمط تفكير الدبلوماسية الفرنسية وعملها بالاتفاق الكامل مع الإليزيه»، وأن نتيجة هذا العمل الهيكلي بدأت تظهر عبر طريقة مقاربة الملفات الساخنة، وهو ما نراه ينعكس على السياسة الخارجية الفرنسية، وخصوصاً في ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا.
ويتفق المراقبون على أن هذا التغيير لا يطال فقط الشكل والمقاربة المؤطرة بشكل وثيق من الإليزيه، بل تطال أيضاً «فلسفة التعامل مع الدول»، وأن مصلحة فرنسا العليا، بخلاف الإدارات الفرنسية السابقة، لم يعد يُنظر إليها في الإدارة الجديدة من خلال المصلحة الضيقة للشركات الكبرى الفرنسية، والمحصورة بالمنافسة مع شركات دول كبرى على الأسواق والمواد الأولية، بل من منظور «معولم أكثر شمولية» ينظر إلى مصالح «التكتلات الكبرى المعولمة»، التي فيها مصالح مالية متقاطعة على المدى الطويل.
ويشدّد هؤلاء على أن الطاقم الجديد يؤمن بقوة بضرورة الارتباط بحركة العولمة الاقتصادية وربط السياسات الفرنسية لتصب في ما يقوّي هذه التكتلات الكبرى العالمية ويحميها، ويرى في ذلك مكسباً لفرنسا مرتبطاً بشكل عام بنمو المجموعات الكبرى المنتسبة إلى مجموعة الثماني الكبرى، عن طريق إخراجها من «عزلتها الاقتصادية وتشبّثها بضرورة استقلاليتها الصناعية كمدخل لاستقلال وطني».
ومن هنا يمكن تفسير خطوات الدبلوماسية الفرنسية في بعض الملفات «التاريخية بالنسبة إلى الكي دورسيه»، مثل الملف اللبناني أو ملف «السياسة العربية» أو ملف إيران والمنحى الذي أخذه هذا الأخير. وقد تنبه بعض كبار المفكرين لهذا المنعطف في السياسة الفرنسية الخارجية، وبدأ بعضهم يهاجم بشكل مباشر توجهات الرئيس الفرنسي هذه.
وبرز، في هذا السياق، حديث المؤرخ والديموغرافي إيمانويل تود، في صحيفة «لوباريزيان»، عندما وصف نظام ساركوزي بأنه «مبني على مبدأ التحريض»، فهو «استفز الشباب في الضواحي ليكسب أصوات اليمين»، ويحاول اليوم التحريض على «المهاجرين واستفزازهم» عبر قوننة الفحص الجيني قبل أن يحرض على نظام الضمان الاجتماعي للتغطية على «الهدايا الضريبية للطبقة الثرية».
أما في الخارج فيرى تود أن «الثنائي ساركوزي ـــــ كوشنر يحرض فرنسا على إيران». وذكّر بأن «إيران ليست فقط (الرئيس محمود) أحمدي نجاد»، مشيراً إلى أنه إذا اتهم البعض الرئيس الإيراني بأنه هائج «فإننا في فرنسا لدينا رئيس هائج للغاية»، لم يتردد بتسميته «ساركوزي نجاد».
ويدافع الباحث تود، وهو كان عضواً في فريق الرئيس السابق جاك شيراك عام ١٩٩٥، عن «حق إيران بامتلاك قنبلة نووية»، متذرعاً بأنها دولة محاطة بقوى نووية، مثل باكستان والهند وإسرائيل إلى جانب «أميركا الموجودة في العراق وأفغانستان».
ومن المعروف عن إيمانويل تود أنه من الذين يستبعدون فكرة «صراع الحضارات»، ومن الداعين إلى تفهم «مخاض دخول العالم الإسلامي إلى الحداثة» عبر موجة العنف التي يشهدها اليوم، والتي يشبّهها بالعنف الذي اجتاح المجتمعات الغربية قبل قرن ونيف، أو الولايات المتحدة إبان حرب الانفصال.
ومثل تود، بدأ عدد من الباحثين الفرنسيين يظهر قلقاً من التوجهات الجديدة لدبلوماسية باريس ويطالب بعدم «رمي مكتسبات فرنسا» لدى شعوب المنطقة العربية والإسلامية جانباً، في الوقت الذي ينبغي فيه الانفتاح على هذه الشعوب وأخذ اهتماماتها بالاعتبار والابتعاد عن دعم أنظمة فاسدة والعمل على حل المسألة الفلسطينية بعدل، بما يحفظ «صدقية الغرب» ويبعد شبح الأصولية عن هذه المجتمعات.