كربلاء ــ الأخبار
«التهجيــر القســري» مــن بغــداد غيّــر عاداتهــا... ورفــع الأسعــار فيهــا

الفتنة المتنقّلة بين المحافظات العراقية، التي تهدّد بالفصل في ما بينها، لا تلغي علاقات النسب التي تربط العراقيين بعضهم ببعض، وإن كانت هي أيضاً مهددة بالانقطاع، وهو ما عايشته عائلة عراقية خلال زيارة لكربلاء رأت فيها ملامح تغيير عن المدينة التي ألفتها قبل أشهر

غادرت عدوية الهلالي منزل زوجها في الأنبار لزيارة أهلها في كربلاء. كانت ترى أن الزيارة جزء من تقليد تؤديه بين فترة وأخرى، إلا أن ابنة خالتها، التي تعيش ظروف الزواج نفسها، فاجأتها بجملة خلال الطريق: «بعد سنوات، سيحرم أولادنا زيارة أخوالهم، كما حرم أباؤهم زيارة أنسبائهم، خوفاً على حياتهم من السيطرات الوهمية».
صدمتها الملاحظة، فلم تكن قد فكرت في ذلك. كان لديها خزين من التفاؤل لم ينفد بعد، لذا ردّت عليها بالقول «ستتغير الأمور حتماً. لن يطول هذا الاحتقان الطائفي. وربما سيتغير كل شيء بتغير هذه الحكومة».
وفي منزل والدها، الذي لم يغادر كربلاء منذ بدأت ملامح الطائفية دمويتها في منطقة اللطيفية الواقعة ما بين هذه المدينة وبغداد، اعتادت أن تسمع آراءً عن الوضع العام في العراق؛ فالطوق الذي ضربه سكان كربلاء حول أنفسهم منع غالبيتهم من الاختلاط بأطياف أخرى، والاستماع الى حقائق تنتشلهم من التفكير في وجود «مؤامرة ضد الشيعة» فقط.
لكنّ الأمر مختلف هذه المرة كما يبدو، فالأشهر الثمانية التي فرقت بينها وبين أهلها، والتي مثّلت أصعب فترة مرّ بها العراق بسطوع نجم الطائفية إلى أبعد حد، غيّرت الكثير من أفكار أهلها، كما أن اختلاطهم بالعائلات المهجّرة من العاصمة بسبب الاحتقان الطائفي، أوضح لهم صورة ما يجري هناك.
سألها والدها: «لماذا لم يصحبك زوجك؟ لدينا أكثر من 1500 عائلة سنية هنا، ولا أحد يضايقهم أدنى مضايقة. ليس في كربلاء من يكره السنة أو يعاديهم. أناسها مسالمون كما تعلمين».
فردّت «لا يُلدغ المؤمن من جحر الأفعى مرتين. وقد لدغنا مرات. الخشية ليست من أهالي كربلاء، بل من السيطرات الموجودة على الطريق. إنهم يدققون في الهويات، واسم الأنبار والفلوجة يستفزهم».
«السائرون في الليل»
خلد الجميع الى النوم ظهراً، مستفيدين من وجود تيار كهربائي يقاوم حرارة الصيف الحارقة. فكربلاء ليست أحسن حظاً من العاصمة بحصولها على حصة أكبر من التيار الكهربائي، الذي يتوزّع بين ساعتين في النهار ومثلهما في الليل. لكن المولّدات الخاصة موجودة في كل مكان، وتمتاز عن مولدات بغداد بوجود جهات حكومية تموّن أصحابها وتحاسبهم على التلاعب بالساعات المخصصة لإيصال الكهرباء الى المنازل. والكهرباء تباع في الشوارع حسب «الأمبير»، الذي لا يتجاوز سعره في كربلاء خمسة آلاف أو ستة آلاف دينار، بينما يبلغ خمسة عشر ألفاً في بغداد.
عند حلول المساء، دعا الخال شقيقته وأولادها إلى تناول العشاء خارج المنزل، فنظر إليه الأولاد باندهاش. وكتم صغارهم ضحكة أفلتت منهم، لأنهم تصوّروا جميعاً أن خالهم يمزح. لكن ملامح وجهه لم تدلّ على المزاح. وأمام جدية دعوته، هرع الأولاد، حتى والدتهم، لتغيير ملابسهم بفرح يماثل فرح الأطفال الصغار بحلول العيد؛ فهم لم يتناولوا عشاءهم خارجاً منذ أن تزامن موعد إقفال الأبواب الخارجية لمنازل بغداد مع هجوع الدجاج في أقنانها.
في شوارع كربلاء الآمنة، وجدت الأسرة ضالتها بإشباع حاجة أفرادها الى الأمان والمرح. كانت الأسواق مكتظة بالناس، والشوارع مضاءة بشكل فني، وقد تناثرت محالّ الشاورما والمرطّبات والمثلّجات على جانبيها، حتى إن مدينة الألعاب ظلت مفتوحة للزائرين بعد الثانية عشرة ليلاً.
وحده أصغر أولاد الأسرة كان مذهولاً من كل شيء. ربما لأنه لا يتذكّر شوارع بغداد المضاءة والحياة الليلية فيها، لذا أمسك بيد والدته وهو يقول «ماما... إنهم يسيرون في الليل، ألا يخافون من ...». لكنه لم يكمل عبارته، إذ لم يجد شيئاً يمكن أن يشعرهم بالخوف، فالأضواء الباهرة تحيط بهم، وغابت أصوات الانفجارات والطلقات النارية عن أجواء المحافظة.
عودة إلى المألوف
في اليوم التالي، جالت مع شقيقاتها في الأسواق والمجمّعات التجارية الضخمة بطوابقها المتنوعة البضائع، وهالها إقبال الناس على التسوّق. لكن أهمّ ما استوقفها هو تلك الأزياء التي ترتديها نساء كربلاء؛ فمع وجود نماذج تلتزم زيّ الحجاب الأسود الكامل، شاهدت نماذج لفتيات تبرز حوافّ بناطيلهن من تحت العباءات الإسلامية، وعلائلات تجلس باسترخاء في المقاهي.
أمام دهشتها، همست لها شقيقتها «دخول العائلات المهجرة من العاصمة الى كربلاء أخرجها من بوتقة الضغط الإيراني قليلاً، فسادها جو اجتماعي جيد، وصار بإمكانك مثلاً أن تشاهدي فتيات كربلاء في مكاتب الإنترنت ونوادي الجامعات، وخصوصاً بعد اختلاطهن بالجامعيات القادمات من العاصمة». وتابعت «إضافةً إلى انتشار مشاريع استثمارية، كالفنادق الكبرى التي تعود ملكيتها إلى أعضاء في الحكومة، فإن غالبية العائلات الشيعية الثرية الموجودة في بغداد شعرت باقتراب خطر التهجير، فقامت بتصفية تجارتها هناك ونقلتها الى كربلاء، باعتبارها أكثر أمناً من محافظات الوسط والجنوب عموماً».
نقلات بغدادية
كان أهالي بغداد معتادين الخروج إلى الأسواق وأماكن الترفيه والمطاعم، وقد نقلوا هذه العادة الى كربلاء، إذ لم يعد أحد ينتقد فتاة تخرج يومياً لتناول المثلجات مع عائلتها كما كان يحدث قبل أشهر مثلاً.
«التهجير القسري» جاء بفائدة من هذه الناحية على كربلاء، إلا أنه من جهة ثانية أضرّ بالمدينة وأهلها. فقد ارتفعت أسعار كل شيء في المحافظة، وتضاءلت فرص عمل أبنائها، وقلّت الأرباح لتزايد العرض وعدم ملاءمته مع الطلب رغم حمّى التسوق «الظاهرية»، فليست جميع العائلات المهجرة ثرية، ولا جميع أهالي كربلاء أثرياء.
كذلك أثّر التهجير القسري على أسعار العقارات، فبعض المهجرين من العاصمة تمكنّوا من شراء منازل، لكن غالبيتهم لجأوا إلى دفع إيجارات لسنة أو لستة أشهر مقدّماً، بانتظار انفراج الوضع في بغداد. ومع مرور الوقت، وعدم وجود بادرة لذلك الانفراج المنتظر، تزايد الإقبال على البيع والتأجير، ما أدى الى ارتفاع أسعار العقارات بشكل كبير.
الإيرانيون العائدون
مثّلت عودة الإيرانيين، الذين طردهم النظام السابق من كربلاء في ثمانينات القرن الماضي، أزمة جديدة، ولا سيما أنهم طالبوا باستعادة أملاكهم، التي عادت إلى الدولة السابقة، وجرى توزيعها على الموظفين من مختلف الشرائح. واليوم، تعاني غالبية أصحاب تلك القطع ضياعها منهم بعدما عاد الإيرانيون ليطالبوا بها.
«أصحاب الدرّاجات النارية»
تنتشر الدراجات النارية بكثرة في كربلاء، كما في العاصمة، لتجنّب الازدحام والتوفير في الوقود، لكنها هنا تثير الفزع في نفوس من تقترب منهم؛ فقد أسهمت في قتل عدد كبير من الكربلائيين، ليس بسبب حوادثها الكثيرة فقط، بل لأن عصابات وميليشيات تستغلها لتصفية أسماء معينة من البعثيين والموظفين وضباط الجيش والمخابرات والأمن السابقين.
ويثير اسم «أصحاب الدراجات النارية» الفزع في نفوس السكان، ولا سيما بعدما استيقظت المحافظة الهادئة الآمنة صباحاً على أصوات طلقات نارية متواصلة، وانتقلت الأنباء مباشرة عبر الهواتف المحمولة، بأن أصحاب الدراجات النارية ومسلحي الميليشيات هجموا على مجلس المحافظة.
«هل هم الصدريّون التابعون لجيش المهدي؟»، هكذا سألت عدويّة الهلالي والدها، الذي أجاب بأن «أهالي كربلاء عموماً يؤكدون وجود انشقاق بين أتباع الصدر، وهؤلاء المنشقون هم عصابات تمتهن القتل والتخريب والخطف والسرقة». وتابع «إننا نعرف غالبيتهم، وهم عصابات منذ زمن بعيد، فهل يعقل مثلا أن يصبحوا متديّنين كباراً، ومن أتباع الصدر المخلصين. ومن يصدق شرعية تلك العمامة التي تعلو رأس واحد من أشهر المعروفين بالفساد والسرقة بين أهالي المحافظة سابقاً».
كان والدها يخبرها بكل تلك الأمور ليبعدها عن الشك في رجال الدين من الشيعة، حفاظاً على هيبتهم أمام أهل السنة من أنسبائه على الأقل، لكنها سمعت حواراته مع جيرانه وأقاربه، وكانوا يُجمعون على انتقاد كل من يضع على رأسه غطاءً ذا رمز ديني من السنة والشيعة عموماً.
«ترى هل سينتخب أهالي كربلاء قائمة الائتلاف من جديد، كما فعلت غالبيتهم في الانتخابات الأخيرة؟». سؤال طرحته على معظم أقاربها وجيرانها، فكان الجواب واحداً: «لن ننتخب أي حزب
ديني».

«الستوتة»

شيء غريب آخر طرأ على ملامح كربلاء، هو ظهور واسطة نقل تدعى «الستوتة» بشكل واسع، وهي تشبه العربة الهندية التي تنقل الركاب، لكنها هنا تحمل البضائع والركاب من زائري العتبات المقدسة، لبعد مواقف السيارات عن مراقد الأئمة. لذا لجأ العديد من أبناء كربلاء الى تصنيع «ستوتات»، وهي عبارة عن هيكل سيارة ونصف عربة لحمل الزوّار الى مراقد الأئمة، وحمل البضائع الى الأحياء السكنية.