باريس ــ بسّام الطيارة
بعد محاولات متعددة، في لبنان ودارفور وأفعانستان وبنسبة أقل في الأراضي الفلسطينية المحتلة والعراق، بدا لبعض المراقبين أن محاولة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي للتمايز عن السياسة الأميركية قد فشلت، وأن الأمور عادت لتتم تحت تنسيق الإدارة الأميركية، إلا أن الإدارة الفرنسية الجديدة لا تزال تخفي تبايناً مع نظيرتها في واشنطن


رغم كل مظاهر «تطابق وجهات النظر» وتصريحات المسؤولين من جانبي الأطلسي، عن «وجود أهداف مشتركة ورؤى متشابهة» لكل المسائل المطروحة، فإن بعض التباين لا يزال موجوداً بشكل كامن مع واشنطن، تفسرّه أسس المصالح الفرنسية وهيكليتها من جهة، وطريقة تفكير نيكولا ساركوزي من جهة أخرى.
«نابوليون الصغير»
يمكن إبراز هذه «الممانعة» في السبل التي دخل ساركوزي عبرها إلى الملفات، وهو ما ينم، كما يقول عارفون بطبيعة تفكيره، عن «وجود تخطيط مسبق، أو على الأقل أفكار عامة، حول ما يجب فعله» في هذه الملفات. كذلك يشهد أحد المقربين من الرئيس الجديد، أن ساركوزي لا يسعى للانحناء أمام واشنطن والمشي وراءها، بل هو يطمح إلى دور بارز على الساحة الدولية، فهو وصل إلى كل ما يبتغيه على الساحة الداخلية. ويضيف «ويجب ألا ننسى أن لقب نابليون الصغير أطلق على ساركوزي من واشنطن»، التي تعرف ما يصبو إليه الرئيس الجديد.
ونظرة عن قرب إلى مجمل الملفات تبيّن أن ساركوزي لم يذهب فيها «عن طيش»، وأن نعته بـ «السذاجة أو قلّة الخبرة بالشؤون الدولية» ينقصه الكثير من الدقة.
دارفور
في الملف الدارفوري، كان كافياً أن يختار برنار كوشنير وزيرَ خارجية ليكون ذلك «محاولة جس نبض» لمقدرته على التحرك إلى جانب واشنطن حاملاً مقاربة مختلفة، إذ ثمةَ تباين بين ما هو معروف عن كوشنير وحمله لواء «التدخل الإنساني»، وبين سياسة واشنطن التي تحمل لواء العقوبات الدولية تسهيلاً لتدخّل أممي أو تكريس الحلف الأطلسي «شريكاً محارباً» تكون القوات الأميركية عصبه الأقوى.
أما كوشنير، فيرى أن «الكوارث الإنسانية تحتم تدخّل القوى الكبرى»، لكن تحت شعارات إنسانية محضة تجلب التأييد العالمي لها بعيداً عن الإيديولوجية السياسية التي تحملها واشنطن. وكان لكوشنير مناسبات عديدة ليختلف مع الأميركيين في هذا الشأن عندما كان الممثل الأعلى للأمم المتحدة في إقليم كوسوفو خلال سنتين.
لم يكن ساركوزي يجهل فلسفة كوشنير في التدخل الإنساني عندما اختاره للخارجية، وخصوصاً أن ملف دارفور كان على نار حامية. أضف أنه يمكن تلمّس استعداد ساركوزي الذهني لهذا التباين مع واشنطن، إذ كان يريد تسليم وزارة الخارجية للاشتراكي أيضاً هوبرت فيدرين المعروف بمواقفة المناوئة لواشنطن ومخترع كلمة «القوى المفرطة بالعظمة».
لبنان
كذلك الأمر عندما دفع ساركوزي كوشنير نحو الملف اللبناني، فقد شاع في الأسابيع القليلة الماضية أن «المبادرة الفرنسية» هي مبادرة كوشنير، الذي «وقع تحت تأثير بعض أصدقائه اللبنانيين الذين عملوا معه في منظمة أطباء بلا حدود».
ويقول مقرب من الإليزيه إن الذي يعتقد هذا لا يعرف «طريقة تفكير ساركوزي». ويستطرد «كذلك لا يدرك التقاليد الدبلوماسية في فرنسا حيث دور الوزير هو حماية الرئيس». فالمبادرة ساركوزية مئة في المئة، وكوشنير كان المنفّذ لأفكار الرئيس، التي ظهرت ملامحها في مختلف خطبه في السياسة الخارجية، وخصوصاً عندما استقبل الجالية اللبنانية ودعا إلى الانفتاح على «القوى السياسية في لبنان»، وهو الذي اختار السفير جان كلود كوسران لهذه المهمة لمعرفته بقدرته التفاوضية ولوسع اطلاعه على قضايا المنطقة التي خبرها لسنوات.
والتراجع اليوم في المبادرة، وإن كان بسبب ضغوط أميركية، يعود أولاً إلى طريقة عمل ساركوزي، الذي يفضّل، بحسب أحد المقربين منه، «مراقبة ما لا يصلح في استراتيجية معينة يتبعها»، فيتراجع قليلاً قبل العودة إليها مع بعض التنقيحات والتوضيحات، وبعد أن يستمع إلى آراء المعترضين، من دون أن يعني هذا الابتعاد عن الأهداف الأولى.
إنها خطوة تراجع للقفز، سيتحقق منها الذين يقابلون هذا الاسبوع كوسران ويدركون أن باريس «تناور لعدم إحراج واشنطن»، فهي تصرّ على ضرورة الحوار بعيداً عن التشنج، مع عدم تنازلها عن دعم الحكومة التي وصفتها بالدستورية عوضاً عن الشرعية تحسباً للمستقبل. إذ يقول مراقب «إن صفة الشرعية تكتسب عبر الاعتراف الدولي بها، بينما صفة الدستورية لا تكتسب إلا بتطابقها مع النصوص الدستورية».
وترى بعض المصادر الدبلوماسية أن سياسة ساركوزي في ما يتعلق بالملف اللبناني ترتكز على «صعوبة قبول فرنسا باللحاق بالمنحدر الحالي للواقع اللبناني». وتشدّد على «رغبة فرنسية صادقة في الخروج من المأزق اللبناني من دون الوقوع في شرك الوقت الذي يدهم الجميع»، وتجنّب «أمر واقع نشوء ما يشبه نظام البانتوستان الذي يهدد الكيان اللبناني». ويقول المصدر إن الأمور باتت «متشابكة إقليمياً»، وإنه «رغم النفي لأوجه التشابه بين حالة الأراضي الفلسطينية والحالة اللبنانية»، فإن «تشابك الخيارات وتشابهها» يزيد من قلق فرنسا بشكل كبير جداً، وخصوصاً «واقع البانتوستانين» الذي تحقق في فلسطين المنقسمة تحت الاحتلال.
ويقول مراقب للملف اللبناني إن «جملة الأسف التي بدرت عن كوشنير»، خلال مؤتمره الصحافي مع وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس الاسبوع الماضي، والتي أشار فيها «إلى عدم التعامل المنصف مع حكومة حماس عندما انتخبت ديموقراطياً»، هي إحساس يشارك فيه العديد من المسؤولين الفرنسيين.
ويدرك العديد من المسؤولين أن «الدفع نحو تشابه الملفين اللبناني والفلسطيني» يتم بيد أميركية. ورغم امتناع الناطقة الرسمية الجديدة لوزارة الخارجية الفرنسية باسكال أندرياني عن التعليق على قرار منع سفر بعض النواب والشخصيات اللبنانية والسورية إلى الولايات المتحدة، قائلة «إنه قرار للسلطات الأميركية وليس من شأننا التعليق عليه»، فإن العديد من المراقبين يرون في هذا نفخاً أميركياً جديداً يذهب باتجاه تأجيج الملف اللبناني ودفع الذين يتناولونه إلى اتخاذ موقف واضح لا لبس فيه من سياستها، وهو ما دفع البعض للقول «إن واشنطن تدفع الأمور بتهور متزايد».
وقد يبدو هذا أيضاً من «ألسنيات كوشنير»، إلا أنه أيضاً «همّ يشارك فيه ساركوزي وفريق العمل الذي ألّفه» للاهتمام بالملف اللبناني. وهذا الفريق، كما يقول المصدر، «من خيرة من خبر الشرق الأوسط» ويدرك جيداً مصالح فرنسا التاريخية فيه.
وينطبق ما حصل في المبادرة الفرنسية على «فكرة الانفتاح على سوريا» إذ يقول أحد الدبلوماسيين «إن الفكرة المؤسسة تأتّت من أنه من غير الممكن التأثير على بلد لا علاقات معه»، وهي انتقادات سمعت كثيراً قبل الانتخابات في أوساط عديدة. وقد وضعت أسس عملية «إعادة بناء العلاقة مع سوريا بهدف التقدّم في مختلف الملفات»، خصوصاً أنه لا يمكن اتهام ساركوزي بأي تساهل طالما أنه حدد مسبقاً المطلوب من سوريا و«قرر الذهاب لإبلاغ دمشق المطلوب منها».
لكن، كما يقول مصدر مسؤول، «اغتيال النائب وليد عيدو جعل من الصعب تكملة المسار»، وهو ما لمّح إليه ساركوزي مرات عديدة. رغم أن بعض القوى اللبنانية تلقّفت هذا التغيير و«دمجت المبادرة بشكلها الأول مع عملية الانفتاح على سوريا» وبالتالي صبغت تراجع المبادرة الفرنسية بالابتعاد عن طريق إعادة ربط ما انقطع مع سوريا إبان العهد الشيراكي.
إلا أن ربط ما انقطع مع عاصمة الأمويين لا يزال على جدول أعمال فريق ساركوزي، ووه مرتبط بملفات تتجاوز الملف اللبناني لتصل إلى ملف إعادة إحياء المفاوضات بين دمشق وتل أبيب مستفيداً من «صداقته المعروفة لإسرائيل»، وهذا ما أشارت إليه بعض التسريبات عن رسائل لسوريا عبر فرنسا العهد الجديد.
كذلك فكرة «مرور كوسران في دمشق» لا تزال «على الطاولة». وحسب مصدر موثوق فإن ما عبّر عنه الناطق الرسمي للإليزيه دافيد مارتينو حين قال «ما زلنا ندرس الأمور» هو إعطاء مجال لـ «التحضير لزيارة السفير كوسران» إلى دمشق. ويجب قراءة ذلك بأنه محاولة تمكّن باريس من إعادة بعض الروح إلى المبادرة بحيث يغلق الباب أمام الضغوط الأميركية، إذا تمكنت من تحقيق اختراق ملموس، قد يكون على شكل موافقة سورية علنية على «ضبط الحدود» ونشر بعض الأفراد على طرفي الحدود، أو تليين في الموقف من تحديد ملكية شبعا كما تطالب الأمم المتحدة أو الاثنين معاً.
وفي هذا السياق، ذكر المصدر أنه من المستبعد أن يتم لقاء «سيل سان كلو» في التوقيت الذي تتداوله الوسائل الإعلامية، أي في منتصف شهر تموز، لأسباب عديدة منها وجود وزير الدفاع الفرنسي في لبنان في ١٤ تموز وجولة رايس في المنطقة، إضافة إلى البدء ببحث ملف الحدود اللبنانية ـــــ السورية في مجلس الأمن والإعلان عن نتيجة عمل بعثة ترسيم الحدود في شبعا، وهي عوامل مؤثّرة من المحتمل أن يحاول فريق ساركوزي وضعها في الميزان.
ويقول أحد الدبلوماسيين إن ساركوزي لن يذهب في اتجاه معاكس لما تذهب إليه الأمور، بل سيحاول «التأقلم مع الاتجاه العام الذي تخطه بشكل بارز واشنطن ومحاولة التأثير عليه من الداخل». وقد ظهر هذا واضحاً في قضية الحدود مع سوريا وفكرة نشر قوات عربية مشتركة مع خبراء غربيين، فقد شدّدت الأوساط الدبلوماسية على أنها «فكرة عربية ترحّب بها باريس».
فلسطين
ويتقاطع الملف اللبناني مع الملف الفلسطيني في هذه النقطة أيضاً، وخصوصاً بعدما بات التداول في مسألة إرسال قوات دولية إلى غزة «أمراً مطروحاً بشدة. وفي سياق إقرار موازنة القوات المختلطة لدارفور، يرى بعض المراقبين صعوبة تمرير «ثلاثة قرارات تتعلق بإرسال قوات أممية إلى ثلاثة بلدان عربية» خلال فترة متقاربة، وهو ما يمكن أن تفهمه الدبلوماسية الفرنسية ولا تجد واشنطن فيه أي غرابة دبلوماسية.
وتتحدث مصادر مقربة من وزير الخارجية عن إمكان طرح فكرة قوات دولية «لحماية غزة تحل على حدود القطاع»، وهو ما يسمح بفك الحصار عن سكان غزة المدنيين ودخول المساعدات «مباشرة إلى المنظمات الإنسانية» من دون التعامل مع «حكومة الأمر الواقع». ويمكن «بيع الفكرة» على أنها حماية لسكان غزة، الأمر الذي يمكن أن يكون مدخلاً لإقرار (بالتوازي) فكرة وضع قوات عربية بقرار أممي على الحدود اللبنانية تحت تسمية قوات مراقبة حدود إلى جانب بعض الخبراء من ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، من دون المساس بصلاحية القرار ١٧٠١ العتيد.
ويبدو أن الوزير كوشنير يعمل لنشر هذه الأفكار المترابطة إقليمياً لاقتناعه بترابط الملفات لارتباطها، على خصوصياتها، بطروحات واشنطن الشمولية، وهو يسعى بالتالي لدفعها نحو الأمم المتحدة بحيث يبعد «شبح واشنطن» عنها شكلياً ويسمح بمعالجتها تحت سقف إنساني في إطار أممي.
فإذا نجح الوزير كوشنير يكون ساركوزي قد دخل الملف الفلسطيني من باب جديد يفتح له مجالاً لأداء دور صديق اسرائيل والعرب من جهة، واستوعب ضربة الممانعة في الملف اللبناني من جهة أخرى ليدخل في تفاصيل الملف الداخلي في فترة «ما بعد مسألة الحدود» أي قبل الاستحقاق الرئاسي والمخاطر المحيطة به. وفي حال الفشل يكون الحق مرة أخرى على الدكتور كوشنير.

إضاءة


ما بعد نزع سلاح «حزب الله»
باريس ــ الأخبار

لا تزال الأوساط اللبنانية في باريس المقرّبة من الرئيس فؤاد السنيورة تتحدث عن تطابق وجهات النظر بينه وبين ساركوزي. إلا أنه إذا صح هذا «التطابق»، فإن ذلك يوضح مدى التباين بين الموقفين الفرنسي والأميركي تجاه ما بات يسمى «المسألة اللبنانية»، وهو ما يريد فريق الأكثرية أن يراه في سعيه لحشد أكبر قدر من التأييد الدولي حول طروحاته.
ويقول بعض المراقبين إن باريس وواشنطن تؤيّدان الحكومة الحالية وتدعمانها، لكن لكل من العاصمتين الغربيتين أهداف قد تكون متشابهة من حيث الخطوط العامة إنما مختلفة جداً من حيث التفاصيل والأهداف المرحلية.
ويعود التباين الفرنسي ـــــ الأميركي الأساسي إلى الأسباب التي تقف وراء الأزمة كما تراها مراكز القرار الفرنسية العاملة على الملف اللبناني، والأهداف التي تسعى إليها كل من العاصمتين، وتتقاطع هذه الأهداف في هذه المرحلة، وهو ما يوحي بتطابق وجهات النظر وبالتالي توافق المواقف المرحلية.
فالحكومة اللبنانية، بحسب الإدارة الفرنسية، تسعى إلى نزع سلاح حزب الله وكل الميليشيات المسلحة على الأرض اللبنانية، وبالتالي تلاقي دعماً فرنسياً لبسط سلطتها على كامل أراضيها. وترى باريس أن دعم واشنطن لسعي الحكومة اللبنانية لا يتوقف عند هذا الهدف، بل يتجاوزه إلى «المطلوب سياسياً بعد نزع سلاح المقاومة اللبنانية في ما يتعلق بالصراع مع إسرائيل»، وهو ما لا تريد باريس الدخول في تفاصيله اليوم، وهذا ما يفسر تمنع الإدارة الفرنسية حتى في عهد الرئيس السابق شيراك على وضع حزب الله على لائحة الإرهاب كما تطالب واشنطن.
في المقابل، «يوجد توافق بين السنيورة وساركوزي على أن الوصول إلى هدف نزع سلاح حزب الله هو بحد ذاته نجاح»، يجعل من حزب الله حزباً سياسياً داخل اللعبة السياسية اللبنانية.
وقد أعادت الناطقة الرسمية باسم وزارة الخارجية الفرنسية التذكير بذلك، وقالت عقب الاتهامات التي وجهتها الإدارة الأميركية لحزب الله بدعم الإرهاب في العراق، «إن هذا الكلام الذي صدر لن يؤثر على دعوة حزب الله إلى المشاركة في اللقاء غير الرسمي الذي تعدّ له باريس».
ويقول مصدر مطلع إن «الإدارة الأميركية تعدّ لإلباس حزب الله ثوب حماس» ليتم «حصاره سياسياً ومالياً» من جانب المجتمع الدولي ليفرض عليه، مثلما هي الحال مع «حماس»، «لزوميات مبدئية» مثل «الاعتراف بحق اسرائيل، ونبذ العنف» قبل السماح له بالمشاركة في الحكم.
وتنهي هذه المصادر تحليلاتها دائماً بأن التوافق بين ساركوزي والسنيورة هو في الأهداف المعلنة لحكومة السنيورة ومن ضمن ما تعلنه في ما يتعلق بالموقف من إسرائيل من دون أي محاولة ضغط لدفعها باتجاه التطبيع بالقوة مع الدولة
العبرية.