strong>أرنست خوري
ارتبطت محاولات السلام بين الحكومة الإسبانية و«إيتا» بالهوية السياسية للحكومات في مدريد من جهة، وبمدى القوة التي تمتّعت بها المنظّمة الانفصالية في «حديقتها الخلفية»، أي في كل من الجزء الفرنسي من إقليم الباسك، ومقاطعة بروتاني الانفصالية غرب فرنسا من جهة ثانية

بقي التعاون الوثيق بين الشعب الباسكي في كل من فرنسا وإسبانيا يعبر عن نفسه بإيواء الفارّين الإسبان من مجنّدي «إيتا»، وتقديم الدعم المادي والمعنوي لهم، والتنسيق العسكري والسياسي بين الطرفين.
وشكّلت الأراضي الباسكية الفرنسية عمقاً استراتيجيّاً مهماً بالنسبة إلى الأعضاء العاملين في إسبانيا، معتمدين في ذلك على السمعة البالغة السوء التي كان يتمتع بها نظام فرانكو الديكتاتوري في الأوساط الأوروبية، وخصوصاً في ظل المدّ اليساري في فرنسا في الستينات من القرن الماضي.
«الظهر الآمن»
لم تقتصر المساعدة التي أمّنتها المجموعات الفرنسية الانفصالية الباسكية على الجزء الفرنسي من الإقليم، بل امتدّت لتطال إقليم بروتاني الفرنسي الاستقلالي أيضاً غرب البلاد، حيث أمّن انفصاليو ذلك الإقليم، بحكم «الرابطة الانفصالية»، الملجأ لمئات الباسكيين الهاربين من السلطات الإسبانية والفرنسية لاحقاً، حتى سُمِّيت فرنسا «خزّان السلاح والمقاتلين» بالنسبة لـ«إيتا».
لكن الباسكيين تحوّلوا، في وقت لاحق، إلى عبء ثقيل، عرّض العشرات من البروتانيين الفرنسيين إلى المحاكمات والاعتقالات بتهم «إيواء وتسليح مطلوبين للعدالة». وحتى اليوم، تعتقد السلطات الإسبانية بأنّ جزءاً كبيراً من قادة ومسؤولي «ايتا» يختبئون في بروتاني الفرنسيةوكانت فرنسا قد حالت، من خلال سكوتها عن إقامة منظمة «إيتا» في جنوبها، دون انتقال أعمال الإرهاب إلى أراضيها التي لم تنجُ من بعض التفجيرات والاغتيالات بين الحين والآخر، كلّما انكشف شيء من الشدة في الموقف الفرنسي، وخصوصاً أنّ لـ«إيتا» «فرعاً» فرنسياً تأسّس عام 1974، يُدعى «ETA-Iparretarak» (أي الشماليون). إلا أن باريس اتّبعت دائماً أسلوب التعتيم الإعلامي على أعمال المنظمة في أراضيها. وهذه القضية كانت إحدى أهم الفضائح السياسية التي كُشفت تفاصيلها بعد موت الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران.
وبدأت الأمور تتغيّر من ناحية التعاطي الفرنسي الرسمي مع الحالة بصورة جذرية منذ عام 1997 تقريباً، حين وقّعت الحكومة الاشتراكية الثالثة على معاهدات «الأمن والدفاع المشترك» مع الدول الأوروبية. فمع تزايد حجم ونفوذ الانفصاليين على الأراضي الشمالية، ومع رفض الفكر الجمهوري الفرنسي المطلق لفكرة إعطاء كيانات إدارية شبه مستقلّة للقوميات، شعرت باريس بالخطر المحدق بمستقبلها إذا لم تتحرّك بحزم وسرعة، فظهر الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك بمظهر المتشدّد و«الأصولي» في عدائه لـ«إيتا»، وفتح سجون بلاده أمام جميع الانفصاليين اللاجئين إلى جانب المواطنين الذين يؤوونهم، حتّى وصل الرئيس الحالي نيكولا ساركوزي إلى الإليزيه، ليعلن أول مواقفه الرئاسية في الشأن الأوروبي حول ضرورة تشديد الحرب على الإرهاب الباسكي، وكان ذلك في الخامس من حزيران الجاري، التاريخ الذي أعلنت فيه «إيتا» إلغاء وقف إطلاق النار الذي كانت أعلنته عام 2006.
«إيتا» الناخب الأكبر للاشتراكي الإسباني
تُعتبر سنة 2004 مفصلية في تاريخ إسبانيا و«إيتا»، فإذا كانت اعتداءات 11 أيلول 2001 الشهيرة، قد غيّرت نمط علاقات الدولة الأميركية ومكوّنات المجتمع الأميركي، فإنّ تفجيرات القطارات في مدريد في 11 آذار 2004، كانت النقطة التي حاولت حكومة حزب الشعب اليميني بزعامة خوسيه ماريا أثنار استثمارها للقضاء نهائياً على «إيتا». غير أنّ السحر انقلب على الساحر، وسمحت التفجيرات بوصول الاشتراكيين إلى السلطة وفتح مسار السلام مع «إيتا»، من دون أن تصل حتّى اليوم إلى نتيجة حاسمة.
خسرت الحكومة الإسبانية المحافظة برئاسة أثنار، الانتخابات التشريعية بعد تفجيرات القطارات بثلاثة أيام، بعدما اتّهمت الانفصاليين في إقليم الباسك بتنفيذ أسوأ تفجيرات تشهدها البلاد في زمن السلم. وفور وقوع التفجيرات، افتتحت وسائل الإعلام الإسبانية، المسيطَر عليها من قبل حكومة أثنار، حملة دعائية كبيرة لتثبيت اتهام «إيتا»، وذلك لحسابات انتخابية أساسها تعبئة الشعب الإسباني ضدّ المنظّمة، حتّى تستطيع الحكومة المقبلة تبرير رفضها الدائم للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الانفصاليين، وبالتالي لكي تضرب عملية السلام معهم نهائيّاً. أما الحقيقة التي أثبتتها الساعات اللاحقة، فكانت أنّ «القاعدة» هي المسؤولة عن العملية.
والحرب الإعلامية، التي يمارسها الحزب الشعبي اليميني، تقليد قديم، فهو لا يوفّر وسيلة إعلامية حكومية إلا يستغلّها لحساباته أيام حكمه، فضلاً عن الوسائل الإعلامية ذات التوجهات اليمينية. وليس مستغرَباً سلوك حزب الشعب المحافظ هذا، فهو يُعرَف بالرفض التاريخي لفكرة التفاوض مع «إيتا»، حتّى في الحقبات التي أجمع فيها معظم أطياف النسيج السياسي الإسباني على ضرورة حلّ الأزمة المعقّدة بالطرق السياسية الدبلوماسية، بما أنّ الطرق العسكرية أثبتت فشلها.
مسلسل السلام الفاشل
شهدت محاولات السلام أو المفاوضات الممهّدة له بين الحكومات الإسبانية الاشتراكية و«إيتا»، خمسة إعلانات لوقف إطلاق النار، انتهت جميعها إلى الفشل. فبعد أعوام 1989 و1996 و1998 و1999، أعلنت في 22 آذار 2006، في بيان، «وقفاً دائماً لإطلاق النار»، أتاح لحكومة الاشتراكي خوسيه لويس ثاباتيرو البدء في «عملية سلام» لإنهاء النزاع الباسكي عبر التفاوض. وأكّدت «إيتا» هذه المرة، في بيانها، أنّ قرارها «يهدف إلى دفع العملية الديموقراطية في إقليم الباسك، وضمان احترام جميع الخيارات السياسية في المستقبل».
وأبدت الحكومتان الإسبانية والفرنسية ردود فعل إيجابية وحذرة في آن إثر الإعلان، حيث قال ثاباتيرو، في كلمة ألقاها أمام البرلمان، إن الحكومة الإسبانية ستتعامل مع هذا القرار بحذر، معبراً عن أمله في تضامن جميع القوى السياسية لتحقيق السلام. أما الرئيس الفرنسي (حينها) جاك شيراك فقد أعلن من جهته عن تفاؤله إزاء الإعلان، واصفاً ذلك بأنه نجاح لإسبانيا والعالم في مكافحة «الإرهاب».
وخلال تسعة أشهر، لم تشهد هذه العملية أي اختراق يُذكر من قبل «إيتا»، حتى ارتكبت في الثلاثين من كانون الأول 2006 اعتداءً أسفر عن سقوط قتيلين، للمرة الأولى منذ أيار 2003، في مطار مدريد. وعلى الفور، أوقفت الحكومة مفاوضاتها مع «إيتا»، واعتبرت مسار السلام منتهياً من جانب واحد، مع أن الحركة المسلّحة أكّدت، في بيان نشرته في التاسع من شباط 2007، أنها تعتبر وقف إطلاق النار قائماً.
من جهة ثانية، ومنذ إعلان المنظّمة في آذار 2006، لم يخفِ المحلّلون مخاوفهم من احتمالات تراجُعها عن قرار وقف إطلاق نار دائم، لأنها كانت قد أعلنت مرات عديدة في الماضي قراراً مشابهاً، من دون أن تصمد الهدنة وقتاً طويلاً. وبحسب هؤلاء، فإنّ التجربة التاريخية أثبتت أن أعمال العنف التي تنفذها «إيتا»، تتكثّف كلما أعلنت وقف إطلاق نار. وفي الإطار نفسه، وبحسب استطلاع للرأي أجري منذ نحو شهر، تعتقد غالبية سكان إقليم الباسك (68 في المئة) أنه يتعيّن على الحكومة الإسبانية البدء في إجراء اتصالات جديدة مع حركة «إيتا»، في حين أكّد 61 في المئة أنهم كانوا يتوقّعون نقض الحركة للهدنة. وعبّرت الغالبية العظمى من المستطلعين (94 في المئة) عن رأيها بضرورة الحوار بين جميع الأحزاب السياسية لإقرار عملية سلام جديدة.
وأعلنت «إيتا» وقف الهدنة في 5 حزيران الماضي، لتقطع الآمال العريضة التي عُلِّقت على هدنة الـ 14 شهراً. وعزت المنظّمة قرارها إلى عدم استجابة الحكومة لمطالبها خلال فترة مباحثات السلام (وفي مقدمها نقل سجناء المنظمة إلى سجون الباسك قريباً من ذويهم)، محمّلة حكومة ثاباتيرو مسؤولية تدهور الأوضاع التي من الممكن أن تنتج عن قرارها «الدفاع عن نفسها وحماية أراضي الباسك بكلّ الوسائل». وعلى الفور، اعتقلت السلطات الإسبانية زعيم حزب هيري باتاسونا، أرنالدو أوتيغي، بعدما انضمّ إلى موقف «إيتا» في تحميل الحكومة مسؤولية الفشل، وعدم احترام الشروط المتَّفق عليها خلال المفاوضات.

مكافحة الإرهاب... بالإرهابوتولّى غيدوني بنفسه المفاوضات بين الدولتين لإنشاء الجهاز الإرهابي والتنسيق بين الشرطة والمخابرات بين البلدين، وهدفه التصفية الجسدية لأعضاء «إيتا» من دون محاكمات. وبدأت هذه المنظمة القيام بأعمال إرهابية مضادة لإرهاب «إيتا»، ونفذت خلال أكثر من 25 عاماً، أعمال الخطف والقتل والتعذيب والاعتقال غير القانوني بحق بعض من اشتبه بانتمائهم إلى المنظمة.
وكشفت التحقيقات الرسمية، التي بدأت عام 1992 (ولا تزال مستمرّة)، عن تورّط العديد من كبار رجال الدولة في مختلف الحكومات المتعاقبة، ما أدّى إلى استقالة حكومة فيليبي غونزاليس ومحاكمة وزراء منها.
وكانت قضية «الغال» واحدة من أهم قضايا الفساد التي أدت إلى سقوط حكم الاشتراكيين الإسبان بعد 13 عاماً قضوها في السلطة. كما تبين الآن أن قضية «الحرب القذرة» التي شنّتها ضد «إيتا» تعود إلى وقت أبعد مما كان يُعتقَد، وأن جميع الحكومات الإسبانية المتعاقبة كانت متورطة في تأسيس المنظّمة الإرهابية، أو دعمها وتمويلها بما في ذلك حكومة أدولفو سوارس، التي قادت إسبانيا في عملية الانتقال السلمي نحو الديموقراطية. وكذلك أبرز الوزارات الاشتراكية الأربع التي حكمت إسبانيا بين عامي 1982 و1996.
وفي عام 1996، طالبت كتلة الحزب الشيوعي الفرنسي في الجمعية الوطنية، بتأليف لجنة للتحقيق في هذه الفضيحة التي تورّطت فيها الدولتان. وبعد أشهر من التحقيقات، اعترف القاضي الفرنسي كريستوف سيس بالضغوط التي مارستها عليه السلطات السياسية الفرنسية بهدف إخفاء الحقائق والأدلّة التي تثبت ضلوع أعلى المسؤولين في الجرائم المُرتَكبة.