غزة ــ رائد لافي
محايداً في نقله للاعتداءات اليومية على أراضيه المحتلة، سواء في غزة أو الضفة الغربية. وكثيراً ما يتحول الصحافي إلى جزء من خبر يضطر إلى نقله «بتجرّد»، وهنا قد تكمن المعضلة

  • «لم أكن أعلم أن ذوي الشهداء يعانون كل هذا الألم لفراق أبنائهم وأحبائهم»


  • «الطيران الحربي الإسرائيلي قصف سيارة مدنية في غزة»، خبر اعتاده الفلسطينيون، لكنه ليس لمراسل قناة «الجزيرة» الفضائية في غزة وائل الدحدوح، الذي تنكأ مثل هذه الأخبار ذكريات أليمة في داخله، بعد فقدانه سبعة من أقاربه، بينهم شقيقه، في عمليات اغتيال وقصف نفذتها قوات الاحتلال خلال انتفاضة الأقصى.
    قبل بضعة أشهر، بث الدحدوح بنفسه خبراً عاجلاً، مفاده أن قوات الاحتلال قصفت سيارة مدنية يستقلها مقاومون فلسطينيون في حي الزيتون في غزة، وهو الخبر الذي زُرع في ذاكرته الأليمة، ويقفز إلى ذهنه مع كل جريمة اغتيال إسرائيلية؛ فالشهداء هذه المرة كانوا شقيقه وابن عمه وزوج شقيقته في آن معاً، وهم مقاومون في «سرايا القدس»، الذراع العسكرية لحركة «الجهاد الإسلامي».
    وبكثير من المرارة يستذكر وائل تلك اللحظات. يقول «إنه بث عشرات الأخبار المماثلة في أوقات سابقة، لكن تجربته مع هذا الخبر كانت فريدة؛ فمنذ اللحظات الأولى، وقبل معرفة هوية المستهدفين، بدأ قلبي يخفق بسرعة، ربما كان بفعل حساسية الدم وصلة القرابة».
    تسابقت خطوات وائل نحو مستشفى الشفاء في مدينة غزة، ولسانه يلهث بالدعاء. وهناك يقول: «توجهت مسرعاً إلى ثلاجة الموتى، وكشفت عن الجثة الأولى. وكانت الصدمة التي لم أحتملها، إنه شقيقي الذي لم تخفَ عليّ ملامح وجهه رغم التشويه الذي أصابه بفعل صواريخ الاحتلال. وسقطت على الأرض مغشياً عليّ».
    ودمعت عينا وائل، الذي شاهد كثيراً من آلام ومعاناة الشعب الفلسطيني خلال عمله، لكنه هذه المرة في قلب المعاناة وجزء منها. وقال: «كانت الصدمة أكبر مما يتصوره العقل عندما أدركت أنه أخي، رغم أن ملامح وجهه لم تكن واضحة من أثر القصف، عندئذ فقدت السيطرة على مشاعري التي جاشت حزناً وسقطت مغشياً عليّ. والمفارقة العجيبة أنني تحولت شخصياً إلى خبر بعدما كان من المفترض أن أنقل الحدث».
    وفقد وائل سبعة من عائلته في عمليات اغتيال إسرائيلية استهدفتهم على خلفية نشاطهم في مقاومة الاحتلال. ورغم الحزن على فراقهم، غير أنه لم يستسلم لإرادة المحتل، ودفعه الحزن وألم الفراق إلى بذل المزيد من الجهد والعمل بمهنية للكشف عن الوجه القبيح للاحتلال. ووفقاً لوائل، فإن «الصحافي جزء لا يتجزأ من المجتمع ويشعر بشعور الناس وهمومهم، وخصوصاً اذا كان في منطقة ساخنة بأحداثها مثل قطاع غزة، وهو الأمر الذي يجعل مستوى الإحساس والشعور لدى العاملين في الحقل الإعلامي والصحافي عالياً، من خلال مقاومة الاستسلام لروتينية الأحداث والجرائم التي تكاد تتكرر يومياً، ما يفرض على الإعلامي والصحافي التعامل بإنسانية في نقل ما يدور من حوله، وعدم التحول إلى آلة، نظراً لقسوة مشاهد الدمار والقتل».
    ويرى وائل في مهنته صحافياً رسالة بالدرجة الأولى، تستوجب أعلى درجات الإخلاص من أجل إيصالها إلى الناس في أفضل صورة صادقة. هذه النظرة للمهنة تدفعه إلى المخاطرة بنفسه بشكل ملحوظ كي يكون على اطلاع بما يدور على الأرض، وخصوصاً في ما يتعلق بالعدوان الإسرائيلي خلال الاقتحامات واجتياح المدن، وهو أمر لافت في أدائه، دفع أصدقاءه والقناة التي يعمل لها إلى تحذيره وتوجيه النصح له بعدم المخاطرة بحياته، والبقاء في إطار آمن.
    ولا ينكر وائل مدى تأثره بالشهداء من عائلته، وتأثير ذلك على حياته المهنية. ويقول إنه «تأثّر كثيراً باستشهاد ابن عمه وشقيق زوجته خالد، لما تربطهما من علاقة مميزة عبر سنوات طويلة من الصداقة في سجون الاحتلال وخارجها». وقال بنبرة حزينة: «كلما أطلقت قوات الاحتلال صاروخاً سرعان ما يتبادر إلى ذهني سؤال واحد. من هو المستهدف الذي سيخلف بموته حزناً كبيراً تذكره أسرته مدى الحياة؟».
    ويحاول وائل، الذي يقطن في حي الزيتون، أحد أكثر الأحياء في غزة تعرضاً للعدوان، من خلال تغطيته الصحافية، أن يبرز عبر عدسة الكاميرا تفاصيل الحياة اليومية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، والناجمة عن ممارسات الاحتلال وسياسته التعسفية.
    ألم الفراق ذاته اكتوت بناره الصحافية الفلسطينية سمر الدريملي، التي آمنت بالشهداء وتخصصت في توثيق حياتهم وقصص استشهادهم، لكنها لم تكن تعلم أنها ستصبح واحدة من ذوي هؤلاء الشهداء، وتحيا تجربة فريدة من نوعها تجاوزت حدود المهنة.
    سمر، التي تعمل صحافية في مجلة «الغيداء» المحلية، دخلت عشرات منازل الشهداء ولاحقت ذويهم بالأسئلة في محاولة للكشف عن الجانب الإنساني في حياة هؤلاء الشهداء. ودحضت الاتهامات بالإرهاب وممارسة العنف التي لاحقتهم في قبورهم. وفجأة فقدت شقيقها شهيداً برصاص الاحتلال.
    كان محمد أقرب أشقاء «شقيقة الشهيد»، كما تحب أن توصف، إلى قلبها. حزنت كثيراً لاستشهاده. اعتكفت أياماً في غرفتها، وغابت عن محيطها وحلّقت بذهنها في الفضاء ولامست روح شقيقها المحبوب بعدما افتقدت عناق الجسد الذي ووري في التراب.
    وقالت سمر، التي تعيش في هذه الأيام الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد شقيقها: «بدأت أستعيد نشاطي من جديد، بعد أيام قليلة من فقداني شقيقي المحبوب في تموز من العام الماضي، وربما كان للجرائم الإسرائيلية اليومية واستمرار تساقط الشهداء دافع في عودتي السريعة لاستئناف حياتي». وأضافت: «لو أن مهنة المتاعب كانت تقتصر على متاعبها المألوفة فحسب، لكان الأمر سهلاً، لكن في فلسطين الأمر مختلف في كل شيء، حتى في طبيعة ممارسة المهمات الصعبة».
    ووجدت سمر نفسها فجأة تتحول من صحافية تبحث عن الحقيقة وتلهث وراء أحزان شعبها الذي يقاوم المحتل، إلى إنسانة انكسر قلبها، فرفعت قلمها مظلة تحميها من زخات الحزن وصقيع الفراق. وقالت: «لم أستوعب الأمر في البداية، فكيف لي أن أتجرّد من مشاعري تجاه شقيقي الذي تحول من شقيق إلى خبر أو قصة أتناولها كما عشرات القصص المشابهة».
    وتروي سمر كيف اعتصرها الحزن لخبر استشهاد محمد خلال مقاومته لقوات الاحتلال في إطار «كتائب شهداء الأقصى» التابعة لحركة «فتح». وقالت: «لم يكن مجرد شقيق، إنه صديقي وأعز من عرفت في حياتي. أنه توأم روحي وشبيهي في كل شيء».
    وقبل أن تكمل، صمتت برهة، وهي تنظر إلى صورة كبيرة لشقيقها تتوسط المنزل. أطلقت تنهيدة كبيرة وعادت للحديث من جديد: «لم أكن أعلم أن ذوي الشهداء يعانون كل هذا الألم لفراق أبنائهم وأحبائهم. إنها لحظات عصيبة تلك التي ندرك فيها أنها المرة الأخيرة التي ننظر فيها إلى وجوه أحبائنا الساكنة، رغم جلالة الموقف وعظمة الاستشهاد».
    وتابعت الدريملي: «ما أعظم أهالي الشهداء وهم ينظرون إلى ملابس أبنائهم وأحذيتهم وذكرياتهم وأكلاتهم المفضلة وأصحابهم وروائحهم وحاجياتهم الخاصة وطريقتهم في المشي وأسلوبهم في الأكل والشرب». وقالت، فيما الدموع تحتبس في مقلتيها: «كنت أعتقد أن دموعي عندما تخالط متابعاتي لقصص الشهداء وذويهم، أنني أشعر بشعورهم وأوفيهم حقهم، لكنني اليوم أدرك أنني لن أستطيع أن ألامس من ضحى بدمه كي يحيا من خلفه حياة هانئة لا وجود فيها للمحتل».
    وبشعور مجنون دافعه الفراق، تتمنى سمر أن تجري مقابلة مع ذوي الجندي الإسرائيلي الذي قتل شقيقها، وتقول إنها ستسأل أهله: «ماذا لو قلبنا الحدث وقتل أخي ابنكم، كيف سيكون شعوركم؟».

    جزء من انفجار

    في أيار من العام الماضي، سمع مراسل وكالة «رويترز» في غزة، نضال المغربي، أنَّ انفجاراً وقع في شارع صلاح الدين شمال مدينة غزة. توجه إلى مكان الانفجار، وكان عبر اتصال مباشر ودائمٍ يبلغ مكتب «رويترز» الرئيسي في القدس المحتلة أنباء الحدث. وتبين أن الانفجار كان ناجماً عن استهداف الاحتلال من خلال طائرة لسيارة فلسطينية من نوع «فولسفاغن».
    «اقتربت من مكان الانفجار» يقول المغربي، لـ«الأخبار»، مستعيداً ذلك الحدث، «وأثناء نقلي للخبر تبين أنه كان هناك عدد من الشهداء، بحيث وقع الصاروخ على مقربة من منزلٍ في الشارع. وقالوا إن هناك عدداً من الشهداء داخل المنزل. وهذا المنزل هو منزل عمي، واستشهد ثلاثة من أبناء عمي وجرح اثنان آخران من العائلة».
    هكذا، وتحول المغربي، من صحافي يغطي الحدث، إلى جزءٍ مركزي بمأساويته في هذا الحدث.