موسكو ــــ حبيب فوعاني
قبيل لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي جورج بوش في كينيبانكبورت، قال مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبيغنيو بريجينسكي إن اللقاء سيكون مجرّد مسرحية، وإن «القضايا الثنائـيـة الجديّة لن تحلّ خلال حفلات العشاء العائلية». ويبدو ذلك صحيحاً إلى حد ما، ولكن فقط بالنسبة إلى جورج بوش، لأن اللقاء كان على الأرجح يحمل طابعاً جديّاً تماماً لسيد الكرملين


كان الرئيس الروسي يأمل عند توجّهه إلى شاطئ المحيط الأطلسي الأميركي التغلب على أكبر مشكلة في العلاقات الأميركية ـــــ الروسية، وهي نشر عناصر منظومة الدرع الصاروخية الأميركية في أوروبا الشرقية، إذ إن بوتين مقتنع تماماً بأن نصب محطة الرادار في تشيكيا قريباً، والصواريخ الاعتراضية على الأراضي البولونية في المستقبل، سيضعف المقدرة النووية الروسية.
وينذر ذلك باندلاع أزمة جديدة حادّة في العلاقات بين البلدين، شبيهة بالأزمة التي نشبت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي عام 1983، في عهد الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان والزعيم السوفياتي الراحل يوري أندروبوف، عندما قررت واشنطن نشر صواريخ «بيرشنغ ـــــ2» المتوسطة المدى في بريطانيا وألمانيا الغربية، بحجّة أن صواريخ «إس إس ــــ20» السوفياتية الجديدة المتوسطة المدى قادرة على إصابة أهداف في أوروبا الغربية.
ويخشى بوتين بالفعل من انطلاق حلقة جديدة من المجابهة الروسية ــــــ الأميركية ستلقي بالطرفين المتصارعين نهائياً إلى زاويتيْ «حلبة المصارعة الدولية» المتقابلتين. ويبدو أن بوتين بالفعل يسعى إلى الحؤول دون تطوّر الأحداث بهذه الطريقة لإنقاذ روسيا وأميركا من الانجرار إلى «سباق تسلّح» جديد.
وبالطبع لم تكن قمة كينيبانكبورت «مسرحاً»، على رغم المديح الذي كاله جورج لصديقه فلاديمير في ختام القمة، لأن بوش كان يقول ما يفكر فيه. وهذا يؤكد الاحترام الشخصي الذي يكنّه للرئيس الروسي منذ عام 2001.
لكن هدف القمّة كان، من وجهة النظر الأميركية، مغايراً تماماً، ويتمثّل بالاحتفاظ بروسيا في دائرة النفوذ الأميركي على الرغم مما تنوي واشنطن القيام به في أوروبا الشرقية. تلك هي المهمة التي سعى بوش إلى تنفيذها.
وبالعودة إلى مشاهد المؤتمر الصحافي الختامي المشترك للرئيسين، يلاحظ المراقبون كيف كان بوتين يقدّم اقتراحاته بجدية، فيما كان بوش يتأمّل البحر، ثم أجاب بأدب بأن الاقتراحات الروسية تحتاج إلى «دراسة دقيقة».
ومن الواضح أن ذلك لا يتعدّى المراوغات الدبلوماسية، وقد دُعي بوتين إلى مزرعة آل بوش فقط لتهدئته، لكي لا تتّسم ردة فعله على الخطوات الأميركية في السياسة الخارجية بالعصبية.
يجب القول إن ردّة فعل بوش على مقترح بوتين بالاستخدام المشترك لمحطة الرادار الروسية في منطقة «غابالا» الأذربيجانية، الذي قدمه خلال قمة «الثماني» الكبرى في هايليغيندام، كانت مشابهة. بوتين كان يقدّم مبادرة محدّدة بجدية، أما بوش فكان ينظر يمنة ويسرة ويقول إن المقترح مهم و«ينبغي علينا دراسته». غير أن روسيا، بعد خمسة أيام من ذلك، تلقّت رداً سلبياً على الاقتراح. وصرّح وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس باستحالة تنفيذه.
وتعامل الأميركيون بالطريقة نفسها مع المبادرة الجـــــــــديدة لبوتين في كينيبانكبـــــــــــورت باستخدام محطة الرادار الروسية الجديدة التي تُبنى في جنوب روسيا، وإنشـــــــــــاء مركز إقليمي في إطار «مجلس حلف الأطلسي ــــ روسيا» لتبادل المعلومات حول إطلاق الصواريخ، يكون مقره في موسكو وبروكسل، حيث ذكر الرئيس الأميركي أن المقترح «بنّاء جداً وشجاع». أما مســـــــــتشار الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي ستيفن هيدلي فقد رأى في هذه المقترحات «تحركاً مثيراً للاهتمام وتقدّماً حقيقياً في هذا الاتجاه».
ولأن بوش لا يستطيع، عندما تكون كاميرات تلفزيونات العالم مسلّطة عليه، الرد على روسيا بالامتناع، فقد قامت بهذه المهمة وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، وأيضاً بعد خمسة أيام من القمة، إذ أدلت إلى قناة «سي إن بي سي» التلفزيونية الأميركية بعدد من التصريحات المدوّية، أعلنت فيها صراحة، ومن دون مواربة، بأن واشنطن ترفض إنشاء منظومة دفاع مضادة للصواريخ مشتركة مع روسيا على قاعدة محطتيْ الرادار في «غابالا» الأذربيجانية وفي جنوب روسيا.
ويبدو أن الأميركيين قد اتخذوا قرارهم مسبقاً بالنسبة إلى خططهم الاستراتيجية، ولن يستطيع الروس التأثير فيهم. وقد توقّف الخبراء عند تقويم بوش للمقترح الروسي في المرة الأولى بأنه «مهم»، واعتبروه أمراً إيجابياً. إلا أن بوش اقترح بعد ذلك أن تكون تشيكيا وبولندا على أي حال جزءاً لا يتجزأ من منظومة الدفاع الصاروخية، ما يمكن اعتباره «تبالُهاً»، بحسب أحد المحللين. فمن ناحية، هو يقول إن «المقترح مهم»، ومن ناحية أخرى لا يمتنع عن الخطط السابقة التي كانت هي السبب في ظهور المبادرات الروسية.
بيد أن الرئيس الروسي صرّح في كينيبانكبورت بأن التعاون في قضايا الأمن الاستراتيجي يمكن أن يؤدي إلى تعزيز العلاقات في السياسة والاقتصاد أيضاً. وقال «أوراق اللعب وزعت، ويمكن بدء اللعبة. ولكني أود أن نلعب في اللعبة نفسها». ولكن يبدو أن الرئيسين يلعبان في ألعاب مختلفة. بمَ تتمثل لعبة بوتين؟ وهل هو بهذه السذاجة بحيث يفترض أن واشنطن ستوافق على مقترحاته؟ يبدو أن الزعيم الروسي اختار استراتيجيته معوّلاً على مستقبلها البعيد الأمد، آخذاً بالاعتبار وجود معارضين لدودين في أوروبا لخطط نصب عناصر الدرع الصاروخية، بل وفي أميركا نفسها، حيث قال الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون أخيراً إن نشر عناصر منظومة الدفاع الصاروخية في أوروبا الشرقية هو «هدر عديم الجدوى للوقت والمال، وهو ينفّر روسيا وحسب».
وهكذا، بوتين يستطيع التعويل على إعادة النظر في خطط البيت الأبيض عند تغير الإدارة الأميركية في العام المقبل. وبشكل عام، كل مقترحات موسكو ليست موجّهة في حقيقة الأمر إلى إدارة بوش، بل إلى النخبة السياسية وتلك القوى في المجتمع الأميركي، التي تنظر سلباً إلى السياسة الخارجية لبوش. ويتوجّه الرئيس الروسي إلى أركان السياسة العالمية الذين يتابعون بإمعان الحوار الروسي ــــ الأميركي، وهم متردّدون إلى أي جانب ينحازون، أي أن بوتين لا يتوجّه إلى واشنطن الحالية بقدر ما يتوجّه إلى من يستطيع التأثير في حل هذه القضية في المستقبل.
وبالطبع، بوتين، على ما يبدو، يودّ مخلصاً القضاء على العامل الأساسي المسبّب لتصاعد المواجهة في العلاقات الروسية ــــ الأميركية، بينما الأميركيون بعنادهم يسهمون بتفاقمها. ولكن بوتين يعي بوضوح أن نصب عناصر الدرع الصاروخية هو عملية طويلة الأمد لن تستطيع الولايات المتحدة الانتهاء منها قبل عاميْ 2012ـــ2013. وحتى ذلك الحين ستجري أمور كثيرة، وستتغير الإدارة الأميركية والأمزجة في أوروبا. ولذا الرئيس الروسي يحطّم كل نظام الذرائع الأميركية معوّلاً على ظهور حيثيات جديدة.