باريس ــ بسّام الطيارة
لا يمكن إخراج المبادرة الفرنسية لإعادة الحوار بين الفرقاء اللبنانيين من سياق وصول نيكولا ساركوزي إلى الإليزيه واختياره برنار كوشنير، الشخصية الأكثر شعبية في فرنسا منذ عشر سنوات، لاستلام مهمات وزارة الخارجية، ما أبرز نوعاً من الدبلوماسية الفرنسية «الجديدة ـــ القديمة»


تناقض السياسة الفرنسية بين القديم والجديد يحمل الكثير من التفسيرات التي تتطرق إلى هيكلية الإدارة الجديدة التي تدير السياسة الجديدة، وإلى المصالح الفرنسية العليا التي لا تتغير بتغيّر الحكم في الإليزيه.
ويقول بعض المراقبين إن نقطة ضعف الرئيس الجديد ساركوزي كانت حتى لحظة انتخابه «تكمن في السياسة الدولية». وإذا استثنينا بعض الملفات التي لها مفعول مباشر على الناخب الفرنسي مثل انتماء تركيا إلى الاتحاد الأوروبي ودعم حق إسرائيل بالوجود وإظهار «حب فرنسي تاريخي للبنان» والتنديد الإعلامي بالانتشار النووي وخطر الإرهاب الدولي على الديموقراطيات، فإن المرشح ساركوزي تجنّب الدخول في عمق الملفات الدولية المطروحة دائماً على طاولة السياسة الفرنسية الدولية.
وعندما حاول التقرّب من واشنطن، ارتكب هفوات تطلّب إصلاحها أسابيع مع كمّ من البهلوانيات الكلامية، وتصريحات فضفاضة تقول الشيء ونقيضه عن «الصداقة والحلفاء وضرورة المصارحة بين الشركاء».
وعندما اختار ساركوزي كوشنير لتسلم مهمات الدبلوماسية الفرنسية فهو لم يختر «خبيراً في الشؤون الدولية»، بقدر ما اختار «سياسياً اشتراكياً يطمح لدور في السياسة الدولية»؛ فمن المعروف أن من أسباب خلاف كوشنير ورئيس الوزراء السابق ليونيل جوسبان هو عدم إعطاء كوشنير حقيبة الخارجية خلال حكم الاشتراكيين، من دون أن يمنع هذا الجميع من الاعتراف بأن «لكوشنير هالة براقة دولياً ومعارف في مختلف القارات والبلدان». ولكن من المعروف أيضاً أن الاختيار الأول لساركوزي لتسلّم الكي دورسيه كان قد انصبّ على هوبير فدرين، وزير خارجية جوسبان، بالتحديد لخبرته الدبلوماسية اللامعة.
وساهم عدم وجود «خبراء في السياسة الدولية» في الحلقة المقربة من ساركوزي، ورغبته في إبعاد الشيراكية عن حقل السياسة الخارجية والدفاع، في «عودة الملفات الدبلوماسية إلى وزارة الخارجية وخبرائها»، ما أعطى شعوراً بأن براغماتية المصالح تصدرت الواجهة الإعلامية، التي يشدّد الخبراء على أنها لم تغب البتة من تفكير الدبلوماسية الفرنسية «حتى في عز الشيراكية».
وتبرز هذه العودة في الملف اللبناني، الذي كان «الملف الأول الذي يخرق فيه كوشنير» التغليف الإعلامي للسياسة الخارجية الفرنسية، والذي كان يخفي مصالح فرنسا تحت رداء من الشخصنة والحملات التواصلية التي كانت تسوِّق لها، ويبرز هذا التغيير الظاهري خصوصاً في الضلع الإيراني من الملف اللبناني.
وإذ يتفق الجميع على الدور الإيجابي الذي أدته إيران لدفع المبادرة الفرنسية إلى تحقيق الخطوة الأولى منها، وتسهيل لقاء سيل سان كلو، فهم يجمعون أيضاً على أن «لفرنسا سياسة تجاه إيران ترتبط بمصالحها الخاصة، بعيداً عن الملف اللبناني»، وأن «التعاون في الملف اللبناني هو نتيجة لهذه المصالح وليس هدفاً بحد ذاته».
ولا يرتبط هذا بوصول ساركوزي إلى الإليزيه، فحتى خلال عهد الرئيس السابق جاك شيراك، ورغم التغطية الإعلامية التي أرادت «حشر السياسة الفرنسية تجاه إيران بين الملف اللبناني والملف النووي»، فإن باريس «أبقت عيناً مفتوحة على مصالحها الخاصة في إيران».
ويذكر الجميع كيف كانت باريس تحاول دائماً التخفيف من حدة تصريحات «حلفائها» في الملف الإيراني.
ويشدّد الخبراء على أن لفرنسا مصالح اقتصادية كبيرة في إيران، وأن «التجربة العراقية وخسارتها سوق العراق وخروجها منها» لا تشجعها على المراهنة على خسارة استثماراتها الكبرى في إيران.
ويضيف هؤلاء الخبراء إن «الشركات الأميركية لا وجود لها في إيران» منذ الثمانينات، وإن الشركات الأوروبية حلت محلها، وفي مقدمتها الشركات الفرنسية التي بلغت استثماراتها ما يزيد على ٢٥ مليار يورو من هذه الحقبة؛ ففي الحقل النفطي استثمرت «شركة توتال» النفطية 1.65 مليار يورو في أربعة مشاريع تنقيب عن النفط، بينما تحتل صناعة السيارات حيزاً مهماً في التبادل التجاري بين باريس وطهران (تبيع شركة «بيجو» المصنّعة للسيارات قطع غيار من شركة «إيران خودرو»، فيما تصدّر شركة «سيتروان» إلى «سايبا» سياراتها ليتم تجميعها في إيران، وتقوم شركة «رينو» بتصنيع موديل «لوغان» محلياً تحت اسم «توندار») ما يجعل السوق الإيرانية للسيارات «سوقاً فرنسية بشكل أساسي».
وفي مجال الاتصالات، وقّعت شركة «ألكاتيل» الفرنسية للمحوّلات التلفونية عقداً لتجهيز١٠٠ ألف محوّل هاتفي للخطوط السريعة لاستعمالات الإنترنيت، بينما يبلغ حجم القروض التي قدمتها المصارف الفرنسية إلى إيران «ربع حجم مجمل القروض الإيرانية من الخارج».
كما أنه لا يغيب عن فرنسا «الطاقات الكبرى وإمكانات التعاون في مجال الطاقة النووية المدنية وغيرها» في حال «طي ملف الأزمة المتعلقة بأنشطة إيران النووية»، إذ يذكر أحد الخبراء أن مجمل العروض المغرية التي تقدمها الدول الست الكبرى «تنص على تقديم مساعدات في مجال النمو الاقتصادي والبرامج النووية المدنية».
وبالطبع لا تريد باريس «الخروج من لعبة التنافس المربحة» إذا تم التوصل إلى اتفاق في هذا الملف. وتشير بعض مراكز المتابعة للملفات النووية المدنية في العالم إلى أنه في مطلع السنة الماضية، حين كان الملف النووي الإيراني على طاولة المداولات الدولية، وقّعت شركة «روزن إينرجي غواتوم» الروسية اتفاقاً مع طهران في المجال النووي السلمي، وذلك بعد أيام من توقيعها اتفاق مع شركة «أريفا» الفرنسية لتخصيب اليورانيوم لأهداف مدنية.
ويذكر الجميع أن إيران لا تزال مساهماً في شركة «تجمع أوروديف» لتخصيب اليورونيوم، الذي يعطيها الحق «برفع ١٠ في المئة» من منتج اليورانيوم المخصب. ورغم تجميد هذا البند بموجب القرارات الدولية، فإن الدبلوماسية الفرنسية تنظر بعيداً «إلى ما بعد حل عقد الملف النووي الإيراني» ولا تريد أن تكون المصالح الفرنسية بعيدة عن إطار الاستفادة من مردود استثماراتها في إيران.
وتفسّر المصالح الفرنسية ـــــ الإيرانية المتشابكة «السهولة التي رافقت» دعم طهران لمبادرة كوشنير، وأن اتفاق العاصمتين في الملف اللبناني وضرورة دفعه بعيداً عن شفير الهاوية «ليس مرتبطاً فقط بضرورات لبنانية وإقليمية ضيقة»، كما يقول أحد المتابعين للعلاقات بين البلدين، التي يصفها بأنها «متشابكة ومعقدة وتاريخية تعود إلى عهد جيسكار ديستان واستقبال باريس للإمام الخميني».