باريس ــ بسّام الطيارة
شغلت قضية إطلاق الممرّضات البلغاريات الإعلام الفرنسي والعالمي
قبل أن تعود مسألة الاتفاق النووي الذي وقّعه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والزعيم الليبي معمّر القذّافي أوّل من أمس، لتحلّ محلها في واجهة الإعلام. ربح كل من الزعيمين في الزاوية التي يحتلّها. كان الرأي العام العالمي قد اعتاد «مفاجآت» العقيد الليبي، وها هو يكتشف أن زعماء آخرين يجيدون «إثارة الضجيج» الإعلامي ويعرفون استثمار العواطف الإنسانية للتقدّم على رقعة المصالح


استطاع نيكولا ساركوزي «مرة أخرى» تسجيل ضربة في هدف مفاجأة الرأي العام الفرنسي الذي لا يمكنه إلّا التصفيق للإفراج عن «الممرضات الأوروبيات» رغم أنّهن دخلن السجن الليبي قبل أن تصبح بلغاريا عضواً في الاتحاد الأوروبي؛ فالشعب الفرنسي، مثل الشعوب الغربية عموماً، رأى دائماً أن «الممرضات رهائن أوروبيات لدى النظام الليبي» وكذلك الأمر في التعاطي الإعلامي الغربي مع هذه القضية.
وقد كسب ساركوزي، للوهلة الأولى، الرأي العام وأدخل ممارسة جديدة في التعامل الدبلوماسي تمثلت بإيفاد زوجته سيسيليا لـ«انتزاع موافقة الزعيم الليبي». وذكرت مصادر مطلعة أن السيدة الفرنسية الأولى استقلّت طائرتها الخاصّة الساعة الثانية من الثلاثاء الماضي وتأهبت للإقلاع عائدة من دون نتيجة إلى باريس، قبل أن تأخذ هاتفها وتتكلم لأكثر من ساعة بين باريس وقصر العقيد حتى انتزعت الموافقة على الترتيبات الأخيرة، ولم تقلع إلّا وهي في رفقة الممرّضات والطبيب الفلسطيني الأصل. وهذا النوع من الجرأة يعشقها الإعلام والرأي العام، وتنمّ عن استعمال مدروس «لوقع الخبر» في التعامل الدبلوماسي.
في اليوم التالي لهذا «الخبر المفاجأة» توجّه ساركوزي إلى ليبيا مثلما «جاء في الاتفاق» الذي كان «يجري التفاوض عليه منذ 3 أسابيع»، واستقبله القذافي في قصر العزيزية حيث أشرف الرئيسان على توقيع مجموعة اتفاقات توّجت الزيارة التي وصفها البعض بأنها «سياسية لمساعدة ليبيا على العودة إلى صفوف الأسرة الدولية»، وهو ما يشير إلى أن قضية الممرضات كانت تقف عقبة في طريق التطبيع بين ليبيا والغرب.
وذكر المتحدث باسم قصر الإليزيه دايفيد مارتينو، أنّ ساركوزي يستعدّ لإطلاق «تعاون على جميع الصعد وفي كل المجالات مع ليبيا» التي وصفها بأنها «لاعب استراتيجي في مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية» في حوض البحر الأبيض المتوسط، الأمر الذي يفيد بأنّ مشروع الاتحاد المتوسطي الذي أطلقه الرئيس الفرنسي كان في صميم المباحثات إضافة إلى كم من المشاريع التي أعلن عن توقيع عقود «مبدئيّة» في شأنها.
ويأتي التوقيع على مذكرة اتفاق بشأن التعاون في المجال النووي المدني، والتي تنصّ على توريد مفاعل نووي لتحلية مياة البحر، إضافة إلى الإعلان عن اتفاق «شراكة عسكرية صناعية»، في سياق تتويج الخطوات التواصلية التي يراها الكثير من المراقبين وراء التحرك الفرنسيّ إضافة إلى الآمال التي تعلّقها باريس في مجالات الغاز والنفط واستثمار المواد الخام وفي طليعتها اليورانيوم.
إلّا أن ما يراه المراقبون من «الإعلان عن سلّة الاتفاقات الموقعة» هو الإشارات السياسية التي تتضمّنها. ويقول بعضهم إن التشديد على الاتفاق النووي لأغراض سلمية هو إشارة إلى «ما بات يسمّى المسار الليبي» الذي يعني، بحسب ما صرح مستشار ساركوزي، كلود غويان، أنّ «الدولة التي تحترم القواعد الدولية يمكنها الحصول على التكنولوجيا النووية السلمية» وفي هذا إشارة مباشرة إلى الملف النووي الإيراني.
ومن هنا، يمكن الالتفات إلى الزاوية الليبية حيث يساعد الإخراج الذي أوجد لقضية الممرضات، القذّافي على تثبيت قواعد حكمه والظهور أمام شعبه بأنّه استطاع «انتزاع» اتفاقات مفيدة من الغرب إضافة إلى مبلغ مالي تعويضاً لأهالي ضحايا الـ ٤٣٨ طفلاً الذين أصيبوا بمرض الإيدز في مستشفى بنغازي.
والاتّفاق في قضيّة الممرّضات مثّل «تدشين القذافي المسار الليبي» واندفاعه بعد ملفّي تفجير الطائرات في لوكربي الاسكتلندية في عام ١٩٨٨، وتينيري في النيجر في العام التالي، إلى رفع تهميش المجتمع الدولي عن بلده بعد التخلّي كلياً عن برامجه النووية والجرثومية والكيميائية وتسليمه معدّاتها لواشنطن.
وملفّ الممرّضات، الذي يبدو أنّه وجد «طريقاً إلى حلّ يرضي الجميع»، حثّ المعارضة الفرنسية على طرح الموضوع للمناقشة في مجلس النوّاب الفرنسي لأنها، رغم ترحيبها بالإفراج عن الممرضات فيه، تريد استجواب وزير الخارجيّة برنار كوشنير حول «الشروط التي رافقت هذه العملية» بحسب رئيس المجموعة الاشتراكية جان مارك أكويه، الذي طالب بمعرفة «الظروف المالية والاقتصادية وربما أشياء أخرى» رافقت الوصول إلى هذا الاتفاق.
وعلى الرغم من استبعاد طرح أسئلة مماثلة على الزعيم الليبي، فإنّ بعض المنظمات الإنسانية بدأت ترمي في حلبة التساؤلات مجموعة من الأسئلة التي لا يُعطي الاتفاق جواباً عنها ومنها: هل تقع المسؤوليّة على الممرّضات البلغاريّات في مأساة الأطفال الليبيّين أم أنّ الشروط الصحية كانت غائبة في مسشفى بنغازي «في ظلّ أحاديث عن اتفاق لتحسين شروط العمل الصحي فيه؟». وفي حال كون المسؤولية تقع على المستشفى، تتساءل مجموعات أخرى وصحف غربية عن سبب «دفع فدية في عملية ابتزاز سياسية» والترويج لها إعلامياً كأنها نصر للدبلوماسية.
ويبقى أنّ أكثر ما يثير اللغط هو غياب قواعد التعامل بين الدول والخروج عن المواثيق الدولية وتغييب دور الأمم المتحدة وتغليب الاتفاقات الخاصة بعيداً عن الشفافية التي تنادي بها المنظمات الدولية.
وفي هذا السياق، تتخوّف المنظمات غير الحكومية من أن «يمثّل اتفاق بنغازي» مدخلاً لمسار جديد في حلّ أزمات الدول قائماً على التعويضات المالية المربوطة بعقود واتفاقات تنفّذ بعد غياب أضواء الإعلام عن ساحة الحدث.