القاهرة ــ وائل عبد الفتاح
لم يكلف المسؤولون العرب عناء البحث عن إجابة لسؤال «من المسؤول عن نكسة حزيران؟»، بل كان السعي دائماً إلى تبرير الهزيمة وتلطيفها، وتمجيد قادتها. وهذا ربما سر ترسيخ مفهوم «هزيمة حزيران» في الوجدان العربي


لا تعرف الأجيال الجديدة في مصر حكاية برج القاهرة. يمرون بجواره ولا يعرفون أنه رمز انتصار جمال عبد الناصر على الاستخبارات الأميركية، ولا أن كتاب «لعبة الأمم» يسميه: «خازوق روزفلت»، في إشارة إلى يوم ضحك فيه الزعيم المصري على الرئيس الأميركي وأوهمه بقبول رشوة الملايين الخمسة، لكنه بدلاً من تنفيذ تعليمات الـ«سي آي ايه» سار في الاتجاه المعاكس وشيّد في قلب الجزيرة الضخمة على النيل برج اتصالات للمخابرات المصرية، يرتفع 180 متراً، ويُعَدُّ علامة على أول عملية مخابرات معلنة.
حكاية منسية رغم أنها حدثت سنة 1956. لكن الشعور المستمر بالهزيمة حذف تلك الحكايات في مقابل حكايات أخرى عن الضعف والعجز في مواجهة القوى الجبارة. ولا يزال أثر ما حدث في الظهيرة الحارة يوم 5 حزيران 1967 طازجاً وأقوى تأثيراً بألف مرة من نسمة الانتصار العابرة في 6 تشرين الأول 1973.
رغم مرور 40 عاماً على حرب حزيران، لا يزال مذاقها مرّ. وفي سيرته التي صدرت منذ أيام، يصف الدكتور جلال أمين أثر الحرب بأنه «صدمة قوية ومفاجئة من سيارة مسرعة أثناء عبورنا الطريق». ويقول: «أصبنا بذهول تام استمر أياماً وأسابيع قبل أن نستطيع التفكير في الحادث بتأنٍّ ونستخلص منه أي مغزى أو عبرة».
هي لحظة فاصلة بين زمنين. الأول كان يسير متصاعداً مثل أغنية حماسية إلى المجد المنتظر على بعد خطوة. والثاني كان مثل شظايا لوح زجاج ضخم من الصعب إعادة تركيبه أو تجاوز صدمة تحطيمه. ويروي أمين: «كان أحد ردود الفعل لهذه الصدمة الاستغراق الهستيري في ترديد النكت الجديدة التي اخترعت فجأة للتعليق على ما حدث. ذلك أن مواجهة هذه الكارثة الكبيرة بانتقاد الحكومة سراً أو علناً لم يكن كافياً بالمرة للتعبير عما في صدورنا، ونحن على أي حال لم نكن قادرين على تحديد مدى مسؤولية الحكومة عما حدث بالمقارنة مع مسؤولية القوى الخارجية. والمعلومات التفصيلية عما حدث لم تكن متوافرة وما كنّا نسمعه منها كان متضارباً ويؤدي إلى تفسيرات متناقضة».
المعجزة فى دولة الخرافات
من المسؤول عن هزيمة 67؟ عبد الحكيم عامر؟ عبد الناصر؟ أم أنه النظام كله؟ لم تهتم جهة بإعلان المسؤولية. حامت التهمة على شلة الحكم وقتها. لكن لم يملك أحد الشجاعة لإعلان المسؤول ومحاسبته. حاول عبد الناصر تحمّل المسؤولية بشكل فردي، لكن الشعب تعامل بشكل عاطفي وخرج في تظاهرات التنحي تطالبه بالاستمرار.
كان المشهد عاطفياً: قائد مهزوم يعلن أنه مسؤول. وحشود شعبية تخرج لتمسح العار عن جبين زعيمها، يسيطر عليها إحساس اليتم والتعاطف مع أب في لحظة ضعف.
أين الدولة؟ وماذا تفعل مؤسساتها؟ ألم تكن هناك قيم أكثر تأثيراً من هذه المشاهد الأقرب إلى البدائية؟ الدولة كانت هي الرئيس. والشعب أبناء الرئيس وعائلته الممتدة من الإسكندرية إلى أسوان. الرئيس هو بطل هذه الحشود ومخلصها.
لهذا كان رد جهاز إعلام عبد الناصر على الهزيمة هو البحث عن معجزة. تقول رسالة واحدة «إن القوى العُلوية لا تزال تؤيّد الرئيس. وإن الهزيمة عابرة. وستتحول إلى انتصار بفضل البركات المقدسة».
وعثر جهاز الإعلام على المعجزة في الزيتون. وفي يوم من أيام 1968، خرجت صحف القاهرة بأعجب خبر صحافي: «اهتم السيد شعراوى جمعة (وزير الداخلية وقتها) بمعجزة ظهور العذراء في كنيسة الزيتون وعقد اجتماعاً حضره السيد محافظ القاهرة».
المعجزة قديمة. تثير اهتمام ومشاعر المؤمنين بها من مسيحين ومسلمين. لكن الدولة اهتمت بها بعد أشهر قليلة من هزيمة حزيران، كأنها برقية مساندة من السماء إلى النظام المكسور.
الباحث السوري الدكتور صادق جلال العظم اهتم بالظاهرة فى كتابه «نقد الفكر الديني»، ورأى فيه أن «الإيمان بظهور شخصيات مقدسة مثل السيدة العذراء أمر طبيعي وقديم بالنسبة إلى غالبية الناس، وهدفه هو التغلب على الآلام اليومية والشعور بالشقاء في مواجهة حياة صعبة». غير أن الأمر الخطير هنا هو استخدام هذا الإيمان وتوظيفه، حيث تبنت أجهزة الدولة بصحافتها ووسائل إعلامها ووزاراتها القصة واحتضنتها وروجت لها واستنتجت منها ما أرادت من المغازي السياسية. طبعاً القدس لم ترجع حتى الآن رغم ظهور العذراء بعد ذلك فى مواعيد سنوية.
لكن فكرة العجز هي التي استمرت، بل إن الرئيس أنور السادات، عندما انتصر في تشرين الأول، روجت أجهزة الإعلام أن الملائكة كانت تحارب مع الجيش المصري. كان السادات يريد التأكيد على أنه «الرئيس المؤمن» الذي أرسل الله ملائكته لكي تسانده في حربه مع إسرائيل. هكذا تولى الشيخ محمد متولي الشعراوي ترويج هذه المقولة عندما كان وزيراً للأوقاف من على منبر مجلس الشعب. وكان يريد توصيل رسالة أن الرئيس «لا يُسأل عما يفعل».
هكذا انتهت حرب تشرين بإنجاز وحيد تقريباً: شحن حيوية الدولة المهزومة. خرجت الدولة قوية. خليفة الزعيم المهزوم اكتسب شرعية وأصبح بطلاً وصاحب معجزات. وأنقذه الأصدقاء في أميركا الذين أوقفوا «الثغرة»، بحسب نصيحة هنري كيسنجر، «حتى لا يكسر النظام إلى النهاية».
الدولة القوية خرجت من الحرب باقتراب من العدو، وتكسير لروح الانتصار. أعلن السادات أن 99 في المئة من أوراق اللعبة في يد أميركا. وعُدَّت هذه الجملة حجر الأساس في واقعية سياسية جديدة تنهي زمن الشعارات الرنانة.
لكن الحقيقة أن واقعية السادات لم تتحرك خطوات أبعد من عاطفة عبد الناصر. دولة الاستبداد استمرت. الفارق الوحيد أنه بعدما كان المستبد عادلاً، تخلّى عن العدل. وترك المجتمع غابة الانتصار فيها للأقوى.
«هزمتنا جمهورية الخوف قبل أن تهزمنا إسرائيل»، قالها مثقف عاش لحظة 5 حزيران وصمت تماماً.
إعلان الهزيمة الدائم
قبل أيام من ذكرى حزيران، وقف محمد سيد صابر، المتهم بالتجسس على البرنامج النووي المصري، وقال في المحكمة: «أنا أحب إسرائيل». قالها بطريقته: «أنا معجب بإسرائيل لأنها دولة متقدمة ومجتمع متقدم». وأوضح: «إسرائيل استطاعت خلال ٥٠ عاماً أن تكون دولة متقدمة مثل اليابان وأميركا، بينما الدول التي لها حضارة ٧ آلاف سنة لا تزال تتراجع للخلف، والجامعات الإسرائيلية حققت مراكز متقدمة بين جامعات العالم، وإننا لن نظل أعداء إلى الأبد».
هذه نصوص نشرتها الصحف. ومرت كما لو لم تكن صدمة كبيرة. كما لو كانت حقيقة عادية لا تستفز أحداً. ولا تدفع إلى النظر في ما وصلت إليه أحوال دولة مثل مصر.
إنه مفتون بـ«المعجزة» الإسرائيلية. ليس هذا فقط، بل يعطيها سنداً دينياً ويتساءل: «لماذا لا نستفيد منهم، والقرآن الكريم حسم الأمر بأن اليهود سيعلون في الأرض».
هذه هي الحقيقة التي تؤكد استمرار ثقافة الهزيمة. وتكشف أن مصر التي بدأت نهضتها العلمية والفكرية مع اليابان من 200 سنة، أصبحت الآن فى عداد الدول المتخلفة علمياً، بينما عدوتها إسرائيل، الخارجة من رحم المؤامرات وصنيعة الاستعمار، التي تحيا على سطح صفيح ساخن، هي «جنة التقدم العلمي». هذه صدمة أكبر من سقوط شاب في فخ الجاسوسية.
في كتاب «التعليم العالي والتكنولوجي في إسرائيل» للباحثة صفاء عبد العال، تقول إحدى الإحصائيات إن عدد أجهزة الكمبيوتر الشخصي عام 1997 لكل ألف شخص في مصر بلغ 7.3 أجهزة، وفي إسرائيل 186.1 جهازاً، الولايات المتحدة 406.75 أجهزة. وإن المتعاملين مع شبكة الإنترنت عام 1999 لكل عشرة آلاف شخص: مصر 0.31، وإسرائيل 168.96، والولايات المتحدة 1131.52. وإن نسبة الصادرات من التكنولوجيا الدقيقة إلى مجمل الصادرات من السلع عام 1997: مصر 7 في المئة، وإسرائيل 33 في المئة، والولايات المتحدة 44 في المئة.
وفى دراسة أخرى، هناك رقم يقول إن مبيعات الصادرات الإلكترونية لإسرائيل وحدها قبل عشر سنوات تجاوزت تقريباً مبلغ 7,2 مليارات دولار.
والأهم أن تاريخ إسرائيل كان مرتبطاً بالعلم. أول رئيس لها، حاييم وايزمان، كان عالماً كيميائياً، وأشرف على إنشاء معهد إسرائيل للتقنية (يسمى بالعبرية: التخنيون) عام 1925، أي قبل إعلان الدولة بـ23 عاماً، وبعد أقل من شهرين من ذلك التاريخ أُقيمت الجامعة العبرية في القدس، وفي عام 1943 تأسس معهد «زيف» للأبحاث التي تركزت على الزراعة والطب وقد أعيدت تسميته بمعهد «وايزمان» للعلوم في ما بعد.
وايزمان قال بعد إنشاء أول معهد: «هكذا بدأ الحلم اليهودي يتحقق». ونكمل نحن بالقول: «وهكذا تستمر الهزيمة 40 عاماً... وربما أكثر بكثير».