برلين ــ غسان أبو حمد
هل تتحوّل ألمانيا إلى «دولة بوليسية»، وتتحوّل بالتالي دوائر الأمن العام من سلطة تحمي سلامة وأمن الوطن والمواطن إلى دوائر تجسّس وتنصّت واستخبار وإخبار، فتعمل على إذلال المواطن وتخويفه وترهيبه وتركيعه تحت شعار المحافظة على سلامته وعلى أمن البلاد؟


مفهوم «سلامة المواطن» في ألمانيا يقترب من التحوّل إلى مراقبة لتفاصيل حياته اليومية والعائلية وارتباطاته الإنسانية وميوله السياسية وقناعاته الروحية والدينية، أي «تخزينه» في فيشة مرقّمة وملوّنة، تحوي بصمات أصابعه وصوره الشخصية الخاصة، إضافة إلى أحاديثه الشخصية ونوعية الصحف والمجلات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية التي يتابعها، والأخطر من ذلك كله، الدخول السري إلى رسائله الإلكترونية وشبكات اتصالاته وتخزينها... «حرصاً على أمن البلاد».
ما هي أهمّ الإجراءات الأمنية الجديدة، التي اعتمدتها وزارة الداخلية الألمانية؟ ولماذا عُقد مؤتمر خاص في لوكسمبورغ ضمّ وزراء الداخلية والعدل في الاتحاد الأوروبي تحت عنوان «مدى التنسيق والانسجام القانوني بين حقّ الوجود وحقّ الحرية؟». ولماذا عُقد لقاء في موسكو (23 نيسان الماضي)، ضمّ عن الجانب الألماني وزير الداخلية ولفغانغ شويبله ووزيرة العدل بريجيت سيبريس، وعن الجانب الروسي، المستشار الأمني فيكتور إيفانوف ومستشار وزير الداخلية الروسي رشيد نورغالييف ووزير العدل الروسي فلاديمير أوستينوف، وأيضاً بحضور ومشاركة ممثل المفوضية الأوروبية المستشار فرانكو فراتيني وسواه من المستشارين الأوروبيين المعنيّين بشؤون الداخلية والعدل، ومنهم ألبرتو كوستا وجوزيه ماغالهايس (البرتغال)؟
هل تنجح ألمانيا ومعها أوروبا وروسيا والولايات المتحدة في تطبيق برنامج بنك المعلومات الأمنية؟ وهل بإمكان «بنك المعلومات الأمنية» الحدّ من هجمة الإرهاب المحلي والدولي؟ ما هي انعكاسات هذه الإجراءات على ساحة العمل السياسي والاجتماعي، ولماذا تتخوّف منها بعض الجمعيات والروابط الأجنبية، العربية والإسلامية تحديداً؟
في آخر إحصائية أمنية تناولت الأنشطة الإرهابية على الأراضي الأوروبية، كشفت وكالة «شبيغل أونلاين» (5 نيسان) أن تنظيم «القاعدة» في أوروبا يضم 242 مقاتلاً، ينضوون في 28 خلية سرية، تمكنوا أو حاولوا تنفيذ 31 عملية إرهابية، ما دفع بخبراء الأمن في أوروبا إلى خلاصة القول: «إنهم طائرات مقاتلة من نوع «بن لادن»، وإن ميزتهم الخطرة تتجلّى بعدم امتلاكهم لميزة أو لقاعدة عمل إرهابي خاصة».
ويُعدّ شهر نيسان الماضي محطة مركزية في ولادة الإجراءات الأمنية المتطورة التي بادرت إليها وزارة الداخلية الألمانية تحت شعار «المحافظة على الأمن والسلامة والاستقرار»، وبحجة «مكافحة الإرهاب المزدوج» (المحلي والدولي).
وبادرت وزارة الداخلية الألمانية في مطلع شهر نيسان الماضي، وبصفة رئاسة ألمانيا للدورة الحالية للاتحاد الأوروبي، إلى عقد «قمة أمنية ثلاثية» في برلين، شارك فيها مسؤولون أمنيون أوروبيون وأميركيون وروس، تبعتها قمّة ثانية في لوكسمبورغ، شارك فيها وزراء الداخلية ووزراء العدل في الاتحاد الأوروبي، هدفت إلى التنسيق بين مطالب وزراء الداخلية بمنحهم المزيد من «حق القوة»، في مقابل مطالب وزراء العدل باحترام «قوة الحق»، كما هدفت إلى بحث سبل ووسائل التعاون الأمني الدولي، بما في ذلك تجهيز «بنك أمني دولي لمكافحة الإرهاب» وتوحيد أشكال «الترميز» وتسريع «الإنذارات»، بهدف متابعة وضبط مخططات وتنقّلات الإرهابيين.
وعمد المهندسون الأمنيون المشاركون في «القمة الثلاثية» في برلين، وبعد الاطلاع على محتويات الدراسات الأمنية المعروضة ومناقشة جوانبها البوليسية والقانونية، إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات التقنية المتطورة مستفيدين من التكنولوجيا الحديثة في عالم الكومبيوتر وعدسات التصوير وبرامج التنصّت والترميز.
وشملت هذه الإجراءات في بنودها الأساسية جوانب سرّية وعلنية، حيث عرف عن الجانب العلني، ما سبق لوزير الداخلية الألماني ولفغانغ شويبله أن أعلنه في اجتماع وزراء داخلية المقاطعات الألمانية، وهو يشمل في بعض جوانبه، طبع وتخزين بصمات المواطنين الراغبين في الحصول على وثائق رسمية وتذاكر هوية وجوازات سفر، مروراً بإجازات سوق السيارات، وصولاً إلى استراق الصوت والصورة ومداهمة صناديق «البريد الإلكتروني» على آلات الكومبيوتر، واعتماد العدسات السرّية في الأماكن والساحات العامة وحتى داخل المراحيض في المحالّ التجارية الكبرى ومحطات النقل وملاعب الرياضة وأماكن التجمعات العامة.
وتمّ التفاق في مؤتمر وزراء الداخلية والعدل على ضرورة «اعتماد نظام إنذار مبكر وتمرير المعلومات وتبادلها بسرعة لتفادي وقوع أعمال إرهابية».
هذا الجانب القليل والمعروف من الإجراءات الأمنية، تعتبره مصادر وزارة الداخلية الألمانية متأخراً عن «موعده» الطبيعي والمنطقي الذي كان يفترض وقوعه في مطلع القرن الحالي، وتحديداً في 11 أيلول 2001، أي مباشرةً بعد إطلالة الإرهاب الدولي المنظّم وتدميره لبرجي التجارة العالمية في الولايات المتحدة.
وللإنصاف، كان وزير الداخلية السابق أوتو شيلي، قد بادر إلى وضع مسودة إجراءات أمنية لحماية ألمانيا من ضربات إرهابية مماثلة في حينه، أصدرها في خريف عام 2001 وأطلق عليها تسمية «سلّة الإجراءات الثانية لمكافحة الإرهاب»، إلا أن بعض بنودها سقطت فوراً ولم يأخذ بها الحزب الاشتراكي الديموقراطي الحاكم في حينه بحجة كونها «غير فعّالة وتتهدّد الحريات العامة».
ومن التعابير التي استخدمت في حينه لرفض سلّة الإجراءات الأمنية التي طرحها الوزير أوتو شيلي (ديموقراطي اشتراكي)، الادعاء بأنها «تعطي رجال الشرطة المزيد من الصلاحيات وتتهدّد حرية الأفراد وهي بالتالي، غير صالحة لمكافحة الإرهاب».
وكانت «السلة» قد تضمّنت بنداً يقضي بمنح الشرطة الألمانية حق مراقبة أرقام الاتصالات الهاتفية والفاكس والرسائل الإلكترونية التي استخدمها جميع الصحافيين والمراسلين الأجانب المعتمدين في ألمانيا طوال الأشهر الستة التي سبقت وقوع اعتداءات 11 أيلول.
وحوت بنداً جديداً لم يكن معمولاً به في ألمانيا، وهو إجازة التنصّت السري على الأشخاص المشتبه بهم، وخصوصاً من الصحافيين ورجال الإعلام، لكن جرى، في حينه، استثناء المسؤولين الرسميين ورجال الدين الذين يحملون إجازة رسمية تعرف في ألمانيا باسم «حملة أسرار»، وتضم رجال الدين المسيحي (كرسي الاعتراف) والمدّعين العامّين وقضاة التحقيق ونواب البرلمان الألماني.
ومن المصادفات اللافتة للنظر، أن تتلقّى سلّة أوتو شيلي، ما تتلقاه اليوم سلّة الإجراءات الأمنية الجديدة التي يطرحها خلَفه ولفغانغ شويبله، ومفاد هذه الانتقادات، أن هذه الإجراءات الأمنية تضع سكان ألمانيا (82 مليون نسمة) تحت شبهة الإرهاب من دون تفرقة، وهذا يعني، ببساطة تحويل ألمانيا من «دولة ديموقراطية» إلى «دولة بوليسية» شعارها: «كل مواطن إرهابي حتى إثبات العكس».
قمّة «بروم» الأمنية
وفي سياق التأريخ للمخططات والمشاريع الأمنية التي تتخطى حدود ألمانيا، يشار إلى قمة مدينة «بروم» في مقاطعة راينهارد بفالز الألمانية، التي عقدت في شهر أيار عام 2005، بمشاركة وزراء داخلية ألمانيا والنمسا وبلجيكا ولوكسمبورغ وإسبانيا وفرنسا، والتي تعدّ قفزة نوعية مهمة في التعاون الأمني الأوروبي، حيث جرى توقيع اتفاقية أمنية، تتيح في أبرز بنودها، المجال أمام الدول الأوروبية الموقعة الاتفاقية، لتبادل المعلومات الأمنية والدخول الفوري المباشر إلى «بنك أمني مركزي أوروبي» للوصول إلى معلومات عن الأشخاص المشتبه بهم (فئات الدمّ وبصمات الأصابع والوثائق الرسمية).
وفي التأكيد على أهمية «قمّة بروم» الأمنية، يشير سكرتير وزارة الداخلية الألمانية الدكتور أوغست هانينغ، في أكثر من حديث صحافي، إلى أن هذه الاتفاقية تمثّل فاتحة التعاون الأمني المشترك في أوروبا. ويضيف أوغست هانينغ، الذي سبق له أن تسلّم لسنوات مسؤولية جهاز الاستخبارات الألمانية، إلى أهمية خطوات التعاون وتبادل المعلومات بين ألمانيا والنمسا والتي سمحت، خلال عام واحد، بكشف هوية وإلقاء القبض على العديد من المجرمين الخطرين في الدولتين.
مثّل «البنك» خطوة رئيسية في التعاون بين الدول الأوروبية، لكنه لم يصل إلى حدود الغاية المرجوة، لا بل فتح الباب أمام الأحزاب الألمانية للدخول إلى ساحة التنافس الانتخابي، وانعكس سلباً على التحالف الحاكم القائم بين الحزبين الرئيسيين، الاشتراكي الديموقراطي والمسيحي الألماني المحافظ.
وكان بالإمكان ملاحظة انعكاس الخلافات الحزبية على ساحة العمل السياسي بوضوح: حزب التجمع المسيحي الألماني أيّد خطوات وزارة الداخلية الألمانية بكاملها، بينما رفض الحزب الاشتراكي الديموقراطي نسبياً هذه الإجراءات الأمنية. والسؤال اليوم على ساحة العمل السياسي: هل تنتصر حرية القوة التي يدعمها حزب التجمع المسيحي الألماني أم تنتصر قوة الحرية التي يدعمها الحزب الاشتراكي الديموقراطي، ومعه حزب الخضر والأحزاب والتجمعات اليسارية؟
وساهم إحباط مخطط تفجير محطة ألمانية عامة للقطارات في ألمانيا عبر «خدمة» عدسات التصوير السرية المزروعة في قاعات المحطة بترجيح كفّة موقف شويبله على كفّة معارضي الإجراءات الأمنية التي يطرحها، وساعدته بالتالي على تمرير بعض البنود التي يتضمنها برنامجه الأمني والتي كانت موضع خلاف حزبي داخل التجمع الحاكم. وفي طليعة هذه البنود، استخدام تكنولوجيا التنصّت السري على أجهزة الهاتف وتسجيل وتخزين المحادثات الهاتفية، إضافةً إلى عدسات التصوير السري المخفيّة، وتخزين فئة الدم وبصمات الأصابع في بنك دولي للمعلومات الأمنية.
الشكّ واليقين
يرى شويبله أن حماية المجتمع وسلامة ملايين المواطنين تأتي في طليعة الاهتمام لأن «الشكّ المسبّق أفضل من اليقين المتأخر». وقال، في حديث إلى صحيفة «فيلت أمزونتاغ»، إن «حجم الخطر الإرهابي الجديد، بدأ يطال أماكن التجمعات البشرية العامة، كالحدائق والمدارس والملاعب والجسور ومحطات القطارات». ويرى شويبله في برنامجه الأمني أن بنك تخزين المعلومات الشخصية، لا يضير المواطنين إطلاقاً ولا يعني الاتجاه نحو دولة «بوليسية»، وهو بالتالي لا يفهم سبباً للمخاوف على الحريات الشخصية وحرية المعتقدات الدينية.
ضدّ «تخزين الديانة»؟
ولا تمانع الأحزاب السياسية والنوادي والجمعيات الدينية، وتحديداً الروابط والجمعيات الإسلامية، فكرة إنشاء «بنك معلومات أمنية» لمكافحة الإرهاب، لكنها لا تجد مبرراً على الإطلاق لتسجيل الديانة. وترى الروابط والجمعيات الإسلامية أن قضية تدوين وتخزين «ديانة» المواطنين الألمان نوع من التمييز، ونوع من الإدانة المسبّقة للمسلمين بالإرهاب.
وفي رأي أبداه رئيس إحدى الروابط الإسلامية في برلين، فإن الهدف من تسجيل «ديانة» المواطن في بنك المعلومات الأمنية، يتعارض مع الحقوق الدستورية وحقوق الإنسان وحرية معتقده الديني.
وإلى جانب موقف الجمعيات والروابط الإسلامية في ألمانيا، المؤيد لمشروع «بنك المعلومات الأمنية» في سبيل مكافحة الإرهاب، والمتحفظ حول ذكر «الديانة»، تفاوتت مواقف الأحزاب السياسية الألمانية. هنا رأت مسؤولة الشؤون الداخلية في الحزب الاشتراكي الديموقراطي المشارك في التجمع الحاكم، جيزيلا بيلتز، أن الاتفاق على فهرس للبيانات الشخصية الأولية قد يكون خطوة على الطريق الصحيح، لكنها أشارت إلى أن توسيع عملية تخزين المعلومات الشخصية يمثّل مشكلة دستورية معقّدة ومسألة تتعلق بحق حماية المعلومات الشخصية وأيضاً بحماية القانون للحريات الشخصية والعامة.
ولذلك، يتحفّظ الحزب الاشتراكي الديموقراطي الحليف في الحكم، ومعه حزب «الخضر» وكتلة الأحزاب اليسارية الألمانية المعارضة، عن تأييد الشقّ الثاني من سلّة الإجراءات الأمنية.
التطرّف لا يعني الإرهاب
تتخوّف الأحزاب اليسارية من استغلال الإجراءات الأمنية للحد من حرية العمل الإعلامي ومراقبة مصادر الأموال، وخصوصاً أن القانون الألماني، لا يميّز حتى الآن بين صفة «الإرهابي» وصفة «المتطرف»، التي كثيراً ما تطلق على الحزبيين اليساريين، الذين يتّهمون بالتطرف وبالتالي بالإرهاب عند نضالهم في سبيل العدالة الاجتماعية والمساوة. وتتخوف الأحزاب اليسارية أيضاً، من استغلال التنظيمات الإرهابية لقضية الرقابة الأمنية على الصحف ووسائل الإعلام لتبرير جرائمها بحجة الدفاع عن الحريات الشخصية. هذا إضافةً إلى التكلفة المالية الباهظة التي ستدفع من خزينة الدولة لتجهيز الأجهزة الأمنية بأسلحة متطورة في عالم التكنولوجيا، كي تستمر الشرطة الألمانية على سوية التطور التقني في العالم.
ويرى أحد المدافعين البارزين عن حقوق الإنسان في ألمانيا، المحامي هوبرت هاينولد، أن توصيف بعض أنشطة العمل السياسي المشروع ضد الظلم والقهر الاجتماعي بأنه «إجرامي وإرهابي»، شأن يخضع لتركيبة الأنظمة السياسية والقيم التي تتبنّاها أو ترفضها هذه الدول.
ويعطي المحامي هوبرت هاينولد بعض الأمثلة: ما تعتبره ألمانيا اليوم «مقاومة مشروعة» ضدّ عنف السلطة الحاكمة في دولة معيّنة، قد تعتبره غداً «إرهابا وعنفاً». هذا بالإمكان ملاحظته في المواقف المتباينة والمتناقضة التي اعتمدتها ألمانيا تجاه تشيكيا وكوسوفو وحركة «التاميل» في سريلانكا، تارة لتبرير الدعم والمساعدة لحركات التحرير وطوراً لتبرير مكافحتها لحركات الإرهاب والتطرف. وأيضاً لتبرير ترحيلها للأجانب اللاجئين على أراضيها بحجة «الشك» في كونهم ينتمون إلى تنظيمات إرهابية.
ولا يجد شويبله تبريراً مقنعاً لدى الحزب الاشتراكي الديموقراطي الحليف في الحكم، ومعه الكتلة اليسارية، لرفض «بنك المعلومات الأمنية لمكافحة الإرهاب». ويؤكد الوزير شويبله أن القسم الأكبر من الإجراءات الأمنية التي يطالب بها، سبق للحزب الاشتراكي الديموقراطي في عهد المستشار غيرهارد شرودر أن طالب به وأيدها.