طهران ــ طارق ترشيشي
إيران من فوق، هذه الأيام، غيرها من تحت.
فالناظر إليها من بعيد وعن طريق السمع، يخشى عليها من ضربات أو اجتياحات ويخيّل إليه أنها واقعة في فم التنين، أو آيلة إلى السقوط، أما الناظر إليها من قريب، فيتملكه شعور بأن هذه البلاد التي تتربع على حضارة عمرها خمسة آلاف سنة ليست سهلة المنال


مع أن الزمن الذي تمر به إيران الآن هو زمن تفاوض مع الولايات المتحدة، ويقتضي تخفيف اللهجة ضدها هنا وتصعيدها هناك، فإن ما بدا من خلال مراسم إحياء الذكرى الـ 18 لرحيل الإمام الخميني، بمؤتمرات ومهرجانات، دلّ على تمسّك القيادة الإيرانية بنهجه وتراثه، وسعيها إلى تطوير الإرث الذي تركه على المستويات الدينية والسياسية والثقافية، إلى درجة أن ما كتبه من شعر غزلي بدأ يُلحّن ويغنّى سيمفونيات.
بين 4 حزيران 1989 الذكرى السنوية الأولى و4 حزيران 2007 الذكرى الـ 18 لرحيل الإمام الخميني، أشياء كثيرة تغيّرت في إيران، في السياسة كما في الأمن والاقتصاد والإعمار وفي كل نواحي الحياة الإيرانية وما يحيط بهذه الدولة الممتدة على مساحة مليون وسبعمئة ألف كيلومتر مربع.
المقام التخليدي للخميني، يشهد منذ ذكراه الأولى ورشة توسيع دائمة، وهو يتسع أكثر فأكثر، لكي يستوعب الملايين التي تتدفق إليه لحضور مراسم إحياء الذكرى، وسماع خطاب مرشد الثورة السيد علي خامنئي وإلى جانبه رئيس الجمهورية أحمدي نجاد. وإلى جانب المقام تتكاثر الأبنية والصحون المؤدية إليه، وكلها تتضمن حوزات علمية، وتحيط بالمكان جنائن فسيحة، ومهبط للطائرات المروحية لنقل القادة والزوار الكبار،
أما طهران «المدينة الحارة» حسبما تسمى، فهي تزداد تألقاً واتساعاً ويعلو سماءها برجها المرتفع إلى نحو 400 متر، والذي أوشك على الإنجاز، فهي مترامية الأطراف يقطنها 14 مليون نسمة على الأقل، عدا الملايين التي تقصدها يومياً من كل المناطق، والمساحات الخضراء تتكاثر فيها سنة بعد سنة. وتدلّك على هذه المدينة ثلاثة معالم: البرج، نصب الحرية في ساحة أزادي (الحرية) وقبّة مقام الخميني ومآذنه الأربع، ناهيك بتلك السلسلة الجبلية التي تطوقها من الشرق والغرب والشمال، أما الجنوب فهو مفتوح أمامك إلى مدينة «كَرَج» التي يقطنها 4 ملايين نسمة، والبعض يسميها «مدينة المستضعفين» التي يدرك بصرك بدايتها و لا يدرك نهايتها لأنها تمتد عميقاً في اتجاه الجنوب.
شوارع طهران تلفت النظر بنظامها وبطرازها الأوروبي، فهي مشجّرة إجمالاً، و«الدلب» سيد الأشجار والساحات، أما المياه المنسابة إليها من الجبال التي تغطي الثلوج قممها فتشكل سر الاخضرار الدائم لهذه المدينة، والمقلل من التلوث الذي تعاني منه بسبب طبيعتها الجغرافية.
أحد الإيرانيين يقول «إن الحصار الذي تعرّضنا ونتعرّض له، كان نعمة لنا، وليس أزمة، لأنه دفعنا إلى الاعتماد على أنفسنا وإلى تنمية قدراتنا الذاتية، فثورتنا لم تترهّل، وها هي تتألق منذ أيام قائدها الراحل وفي أيام قائدها الحالي». ويفاخر هذا الرجل بالقول: «إن إيران باتت تعيش اكتفاءً ذاتياً في كثير من المجالات، وبعد أقل من عشرين عاماً ستكون أكثر قوة ومنعة، فانتظرونا».
كل شيء في إيران يشير إلى أن هذا البلد ماض لأن يكون ماليزيا المنطقة، فالماليزيون استحقوا لقب «نمور آسيا»، ويبدو أن الإيرانيين يسيرون في الطريق لكي يستحقوا لقب «أسود آسيا». علماً بأن نجاد كان قد حذّر الولايات المتحدة وحلفاءها من «اللعب بذيل الأسد الجالس في مكان هادئ».
ولعل اللافت في طهران هو ذلك الأمن الذي تنعم به، فلا تصادف شرطياً إلّا في محيط الأماكن الرسمية، فكأنها محمية بأمن لصيق لا يُرى، فما إن تدخل إليها من مطار مهراباد، حتى تصبح كأي مواطن إيراني، تقصد أي منطقة ولا تصادف مَن يسألك عن هويتك، إلا أولئك الذين تحتكّ بهم في الأسواق أو في سيارة «الأجرة» حيث إنهم يعرفون بأنك عربي أو أجنبي من تخاطبك معهم، وإذا عرفوا أنك لبناني، يبادلونك مشاعر الودّ ويمجّدون أمامك بطولات حزب الله والمقاومة ضد إسرائيل.
وفي يوم ذكرى الإمام الخميني زحفت الملايين إلى مقامه في «روضة الزهراء» في ضواحي طهران وضاقت بها شوارع طهران وكل الطرق المؤدية إليه من بقية المحافظات. كل شيء في ذلك النهار، وكل حركة منه وكل موقف، كان يشير إلى تمسّك القيادة الإيرانية بتراث الإمام الخميني، حتى إن الخطب التي ألقيت أمام ضريحه في «بهشت الزهراء» (روضة الزهراء) استعادت هذا التراث وتوقفت عند كثير من المحطات التاريخية لصاحبه.
وبعد أن امتلأ المقام الفسيح وساحاته الخارجية بالملايين، اعتلى السيد حسن الخميني، حفيد الإمام الراحل المنصة، ليلقي الكلمة الأولى في الاحتفال، فيتحاشى مهاجمة أي فريق أو جهة بعينها، ويحرص على التنويه بمزايا السيد الخامنئي «الرحب الصدر».
وإذ تقدم خامنئي ليخاطب الحشود، تعالت الهتافات، فردّد نحو عشرين مرة كلمة «تفضّلوا» حتى أنصت الجميع إليه، في الوقت الذي وصل رئيس الجمهورية السابق السيد محمد خاتمي ليجلس أرضاً، زاهداً إلى جانب بعض الحاضرين، قبل أن يدعوه بعض منظّمي الاحتفال إلى الجلوس على كرسي إلى جانب بعض أعضاء مجلس الشورى الإيراني.
على أن خامنئي، ركز في كلمته الهادئة على «نهج وفكر القائد، الذي يؤمن بالله، اللذين يبقيان خالدين»، مضيفاً «إن أعداء الإمام ومعارضيه الدينيين أو السياسيين يزولون كلهم ويذهبون وقد ذهبوا، ولكن فكرته ستبقى خالدة، فهو استمدّ كل شيء من الله وستبقى هذه الفكرة خالدة وستتبلور أكثر مما مضى»،
وفي إشارة إلى تمسكه بنهج الخميني، خاطب خامنئي المحتشدين بقوله «إن الشعب الإيراني لن يتراجع شبراً واحداً عن حقوقه المشروعة»، مشيراً إلى أن الإمام الراحل «علّمنا على أن لا نجامل الآخرين لكي نحصل على حقوقنا».
ويشرح خامنئي كيف أن انتصار الثورة «فتح الأبواب أمام دول المنطقة للخلاص من هيمنة القوى الاستعمارية عليها». ويحذر من «محاولات أعدائنا لإثارة الفتنة بين السنة والشيعة في العراق ولبنان وأفغانستان». ويختم أن على هؤلاء أن يتصدّوا لهذه الفتنة «لأن دماء إخواننا المسلمين يجب أن تكون مطهرة ويجب على المسلم أن لا يلطخ يده بهذا الدم، فهذا خروج عن الدين، وهذا ارتداد، وإن الأخوّة يجب أن تسود بين المسلمين، الشيعي هو الشيعي والسني هو السني، هناك اختلافات فكرية ومذهبية موجودة، لكن كل هذه تحت راية الرحمة وتحت شعار: لا إله إلا الله، ومحمد رسول الله».