برلين ــ غسان أبو حمد
أعمدته الثابتة لافونتين وبيسكي... ويمثّل «ضربة انتخابيّة» للتجمّع الحاكم

شهدت ألمانيا في عطلة الأسبوع الماضي، عدداً من المؤتمرات الحزبية واللقاءات القيادية السياسية الجريئة، أدّت في ختام أعمالها إلى تعديل جوهري في هيكلية العمل السياسي وإلى قيام تحالفات حزبية جديدة، تنسجم مع تطلّعات الجيل الألماني الجديد، الباحث عن دور مستقلّ لبلاده ومصالحها، بعيداً عن أهواء الدول والمحاور السياسية والاقتصادية الكبرى واستراتيجياتها.
ويأتي قيام «اليسار الألماني»، الذي يضمّ في صفوفه بعض القياديّين السابقين في «الحزب الاشتراكي الديموقراطي»، أبرزهم النائب أوسكار لافونتين، وبعض القياديين السابقين في «الحزب الشيوعي الألماني» (بتسمياته المتعدّدة)، إلى جانب العديد من السياسيّين (جميعهم يتمتّعون باحترام وبتأييد واسع من القواعد الشعبية في مختلف المقاطعات الألمانية)، بمثابة خطوة تؤكّد استعادة الهويّة السياسية للبلاد بعد استعادتها لهويتها الاجتماعية والجغرافية.
وتبلورت القيادة السياسية لـ «اليسار الألماني» في اجتماع موسّع، ضمّ نحو 400 شخصية قيادية يسارية في برلين أمس، وألف كلٌّ من لافونتين ولوتار بيسكي، أعمدتها الثابتة والقوية، نظراً لثقة القواعد اليسارية في جميع المقاطعات الألمانية بإخلاصهما واندفاعهما، بعيداً عن المكاسب والمنافع الشخصية.
وفي تحديده لهوية الحزب الجديد، قال رئيس الحزب الشيوعي الألماني السابق (الديموقراطي الاشتراكي) غريغور غيزي «نحن اليسار، نقطة على السطر. لا تضيعوا في تفاهة العناوين».
وترك هذا التعديل في تركيبة وبنية العمل السياسي والحكم داخل ألمانيا انعكاساته السلبية على البنية الحزبية التقليدية والخوف من تقلّصها وضمورها، وخصوصاً على بنية الحزبين الرئيسيّين التاريخيين، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، اللذين يتألف منهما «التجمّع الحاكم»، وهما «الحزب المسيحي الديموقراطي» و«الحزب الاشتراكي الديموقراطي».

ومواجهةً لهذا التحوّل المفاجئ وغير المتوقع، سارعت قيادة «الاشتراكي الديموقراطي» إلى عقد تحالف سياسي مع الحزب «الأخضر» (حزب البيئة) في مقاطعة «بريمن»، في محاولة يائسة لاستعادة بعض من رصيد فقدته، بسبب انضمام بعض قواعدها وأنصارها إلى «الحزب اليساري».
وفي السياق، بادر «الحزب الليبرالي الديموقراطي» إلى فتح حوارات مع بعض القواعد الحزبية والناشطين السياسيين في مختلف المقاطعات الألمانية، محاولاً استعادة بريقه التاريخي لمواجهة التحدّيات الجديدة.
وعن مدى تأثّر الخريطة الحزبية في ألمانيا نتيجة هذا التطوّر، قال أستاذ العلوم السياسية في جامعة «ماينز» الألمانية، يورغن فالتر، لصحيفة «ذود دويتشه تسايتونغ»، إنّ «الناخب الألماني سيواجه صعوبة في التصويت لحزب معين، وهو ما يؤدّي إلى مزيد من العزوف السياسي وعدم الرضى والضياع في أوساط الناخبين».
ويوضح فالتر أنّ غالبية ناخبي «اليسار الجديد هم من أوساط أولئك الذين أداروا ظهورهم للاشتراكي الديموقراطي وامتنعوا عن منح أصواتهم لمرشحيه خلال انتخابات الأعوام الماضية، أو من الجناح اليساري للحزب نفسه مثل أعضائه الشباب في ولاية سكسونيا السفلى على سبيل المثال، أو الذين يرون في التشكيل الجديد فرصة لتحقيق مبادئ الاشتراكية الديموقراطية».
ويتابع الباحث الألماني بالإشارة إلى انّ ذلك سيمثّل خطراًً على «الاشتراكي الديموقراطي» وقد يؤدّي إلى تقلّص عدد ناخبيه إلى نسبة تراوح بين 20 و29 في المئة في الانتخابات المقبلة، ليجد صعوبة في بلوغ ما يفوق نسبة 30 في المئة في الانتخابات، أي ما يسمح له بترشيح أحد قادته لمنصب المستشار في ألمانيا.
ويأتي اعتماد تسمية «اليسار الألماني» في محاولة لتجميع صفوف جميع اليساريين تحت عنوان واحد، بعيداً عن التصنيفات، التي كانت سبباً في إضعفاهم وتموقعهم تحت عناوين: «اشتراكي» و«شيوعي» و«بيئي»...
وفي الأهداف، يسعى «اليسار الجديد» إلى إجراء تغييرات جوهرية في نظم وقواعد وآليات السلطة والملكية، ووعد في هذا السياق، بتبنّي مزيد من الاشتراكية الديموقراطية في مواقفه من القضايا الداخلية والخارجية.
وكان لافونتين، الذي يتمتّع بشعبية وتأييد واسعين، وخصوصاً في أوساط الشيوعيّين القدامى، رئيساً لـ «الديموقراطي الاشتراكي»، وهو مرشح سابق لمنصب المستشارية في عام 1990 ومعارض للسياسة الخارجية الألمانية عامّة، وتجاه الشرق الأوسط خاصة.
كذلك يمتلك لافونتين وجهة نظر خاصّة تجاه إسرائيل، لا بل مميزة عن سواه من القياديين الألمان، فهو يرى «أن الذنب التاريخي الذي تتحمّله ألمانيا جرّاء فظائع النازيين لا يمكن التكفير عنه بتبنّي سياسة غير محايدة في التعاطي مع الفلسطينيين والعرب».
ويقول إنّه «يجب علينا أن نضطلع بمسؤولية كبيرة تجاه مصير الشعب الفلسطيني، ولا سيّما أنّ تأسيس دولة إسرائيل وتهجير الشعب الفلسطيني يعود أيضاً إلى الجرائم التي ارتكبها النازيون».
ويضيف اليساري المخضرم «يتوجّب على المرء عند تقويمه لتصرّف الآخرين، أن تكون عنده مبادئ أساسية يرتكز عليها، ونحن في حزب اليسار نرى حقوق الإنسان المنطلَق والأساس لذلك»، وخصوصاً في الشرق الأوسط، لذلك «يجب على إسرائيل والولايات المتحدة وحزب الله أخذ ذلك في حساباتهم، وهو أمر لم نلاحظه حتى الآن في ممارساتهم الحالية».
ويدعو لافونيتن، في حديثه عن المنطقة أيضاً، إلى نشر قوّات دولية تتمركز على جانبي حدود كل من إسرائيل ولبنان على أن ينظر إلى هذه القوات نظرة حيادية من جانب أطراف النزاع.
ولافونتين من المطالبين باعتماد «سياسة ألمانية متّزنة وعادلة» تجاه الشرق الأوسط، ومن المطالبين بوقف فوري لإطلاق النار لتجنّب قتل المزيد من المدنيّين وتعريض حياتهم لمزيد من الأخطار.
وينتقد لافونتين السياسة الأميركية «الفاشلة» لأنّها «جعلت من النفط والحفاظ على مصادر الطاقة محركاً لسياستها الخارجية ولم تأبه بمسألة نشر الديموقراطية وإرساء السلام»، مشيراً إلى أنّ «مثل هذه السياسة أصبحت مستهلكة، لكونها تمثّل امتداداً لعصور الاستعمار التي ولّت أيامها».