strong>أرنست خوري
إذا كانت حرب السويس عام 1956 «المقتل السياسي» لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق أنطوني إيدن، والذي تسبب بخروجه من الحكم، فلا شك أنّ «مستنقع العراق» شكّل الكارثة الكبرى التي حالت دون تمكين رئيس الحكومة طوني بلير من إنهاء ولايته، واضطراره إلى تسليم مقر رئاسة الحكومة إلى وزير خزانته العمالي غوردون براون

لا يمكن اختصار حكم طوني بلير، الذي يُعدّ ثاني أطول ولاية بعد رئيسة الوزراء المحافظة السابقة مارغريت تاتشر (1979 ـــ 1990)، بانزلاقه الكامل إلى جانب سياسات الإدارتين الأميركيتين المتعاقبتين منذ عام 1997. فبلير، الذي أعلن قرب اعتناقه المذهب الكاثوليكي، عُرف بأنه «مجدِّد العقيدة العمالية»، التي عبّر عنها أنطوني جيدنز في نظريّة الخط الثالث، والتي جرّدت حزب العمّال من أي ميراث فكري اشتراكي ـــ اجتماعي، وجعلت منه أقرب إلى اليمين الليبرالي من أي تيار يساري. وهو ما تم تكريسه في السياسات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية التي توصَف برفض «إعلان القطيعة مع عهد المحافظين»، الذي أدخل بريطانيا وأوروبا في نظام السوق، في الخصخصة وتحرير الأسواق وضرب الحمايات النقابية.
أمّا في ترسيخ دور بلاده كـ«حصان طروادة» أميركي داخل المشروع الأوروبي، فكان بلير أيضاً «طليعياً» في محاولة جعل الاتحاد الأوروبي ومؤسساته في خدمة المشروع الأميركي بشكل يجعل «القارة القديمة» أنغلوساكسونية الطابع في التنظيم والأهداف.
«محافظ جديد» برداء عمّالي
وكانت أدوات التأثير الأميركية قد بدأت تمتد إلى البنية الحزبية لـ«العمال»، حتى قبل وصول بلير إلى سدة الحكم؛ فمنذ ستينات القرن الماضي، بدأ الحزب الديموقراطي الأميركي يدعم مالياً بعض التيارات اليمينية داخل «العمال». وأتت ثمار هذه السياسة مع تسلّم نيل كينوك عام 1983 رئاسة الحزب. ووصل الأمر بالعماليين إلى «اقتباس» أساليب الدعاية الانتخابية عن «أصدقائهم» في الحزب الديموقراطي، وخصوصاً مع مسؤول الدعاية والاتصالات في «العمال» فيليب غولد، الذي يُعتَبر صلة الوصل الرئيسية بين واشنطن من جهة وبين طوني بلير وغوردون براون من جهة ثانية.
أمّا الاقتصادي المعروف إروين ستيلزير، المساعد الأقرب لأمبراطور الإعلام الأميركي روبرت موردوخ، فهو شبه ضيف دائم في القصر الحكومي منذ عام 1997، إذ لا يبخل أبداً بتوجيه سياسات بلير وحكومته في كل ما يتعلّق بالدعاية السياسية والانتخابية للأخير. وكان ستيلزير قد كشف للصحافيين بأنّ بلير اعترف له بأنّ جورج بوش «أذكى شخص تعرّف إليه منذ انخراطه في العمل السياسي».
وفي كتابه الأخير، يشير ستيلزير إلى أن بلير يعدّ «واحداً من أكبر المحافظين الجدد إلى جانب ريتشارد بيرل، وروبرت كاغان، وويليام كريستول، ومارغريت تاتشر، وإروينغ كريستول».
حتّى إنّ أعضاء الفريق المحيط ببلير، وفي مقدمهم أنطوني جيدنز منظّر «الخط الثالث» منتصف التسعينات، لم يتردّدوا في التنسيق مع الدوائر الأميركية في بلورة السياسات الداخلية المتشابهة داخل البلدين منذ عام 1997، وخصوصاً على صعيد الشراكة بين القطاعين الخاص والعام.
ووصل الأمر بالأوساط الإعلامية إلى اعتبار أنّ لندن قرّرت التخلّي عن سيادتها، والاكتفاء بأداء دور «حامل مصالح الولايات المتحدة» في أوروبا والعالم؛ فخلال العدوان الإسرائيلي العام الماضي على لبنان، وصفت صحيفة «الغارديان» البريطانية بلير، بالمسؤول الذي «باع» سيادة بلاده، وبأنّ عمله «بات يقتصر على انتظار الضوء الأخضر من سيّده بوش». ووصفته بأنه «كلب بوش».
«الحروب العادلة»وبحسب فهم بلير للتدخّل الدولي في مناطق النزاعات، فإنه يصنّف نفسه في دائرة التفسير الأميركي الذي يعتبر أنّه على المجتمع الدولي التحرّك عندما ترى الدول ذلك، ولو كان ذلك خارج إطار الإرادة الدولية، وهو ما كرّسته مشاركته في قصف العراق عام 1998 و2003 من دون قرار من مجلس الأمن الدولي.
وفي كلمة أمام الكونغرس الأميركي عام 2003، نصح بلير الأوروبيين بالرضوخ للهيمنة الأميركية، مفضّلاً تفويض واشنطن اتخاذ القرارات الكبرى، «بما أنّ القوة الأميركية لم تكن يوماً حاجة دولية كما هي الحال اليوم». ورأى أنّ «أخطر نظرية ممكن أن نواجهها، هي تلك التي تدّعي ضرورة توازن الهيمنة الأميركية على العالم». وهذا يذكّر بتعريف «الحرب العادلة» المقتبسة عن النظرة الغربية الاستعمارية والإمبريالية، التي برّرت كل الحروب الإمبريالية في القرون الماضية لحماية «القيم الغربية».
وفي عهد جورج بوش، ظنّ البعض أنّ اختلافاً سيشوب العلاقات الأميركية ــــ البريطانية، غير أنّ خلفية فكرية واحدة حكمت سلوك الرئيسين، قائمة على ثنائية الليبرالية الاقتصادية المتفلّتة من كلّ قيود، مغلَّفة بإطار من «المسيحية» الأخلاقية السياسية، أبرز عناوينها تقديس قيم العائلة والخضوع للمشيئة الإلهية؛ فرئيس الحكومة البريطانية يؤمن إيماناً دينياً راسخاً بالرسالة الإلهية لبلاده في شنّ الحروب على الشعوب التي لا تعرف القيم الغربية، وهي حال الرئيس الأميركي، الذي لم يجد مع بلير، عند إعلانهما بدء القصف على العراق، أفضل من عبارة «فليبارككم الله» لتوديع جنودهم الذاهبين إلى المستنقع العراقي.
أمّا بخصوص المليونَي بريطاني الذين نزلوا إلى الشوارع في 15 شباط 2003 للضغط على حكومتهم ضدّ المشاركة في الحرب المقرّرة، فلم يكونوا بالنسبة لرئيس حكومتهم سوى «متهوّرين لا يعرفون شيئاً عن السياسة ولا عن مصلحة بلادهم».
روبرت كوبر أو العمالي «الإمبريالي»!
روبرت كوبر، أقرب مستشاري بلير للشؤون الخارجية منذ وصوله إلى 10 داونينغ ستريت، أوضح خلال إحدى كتاباته في نيسان عام 2002، المخزون الفكري الذي يحدّد على أساسه نوعية استشاراته لرئيس الحكومة.
ففي العالم المتخيَّل لكوبر، على أوروبا والغرب عموماً البدء باعتماد نوعين من القيم والأوزان والسياسات: أن يحدّدوا في ما بينهم قواعد سلوك «حضارية» وقانونية. أما عندما يتعلّق الموضوع بالدول التي تقع خارج العالم «الحديث»، فليس أمامهم سوى العودة إلى الوسائل التي تنتمي إلى العصور القديمة، كالقوة، والحروب الاستباقية، والغدر.
ولا يكتفي كوبر بذلك، فهو يعترف صراحة بأن على الأوروبيين أن يحترموا القانون فقط في علاقاتهم البينية، «لكن مع الشعوب التي تعيش في الغابة، فما علينا سوى استرجاع قانون الغابة».
ولا يجد كوبر حرجاً في تحديد أين تقع الغابة، فهي كل القارات خارج الحضارة الغربية: أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، «حيث الفوضى هي نمط الحياة».
وعن حرب المصطلحات، يقول كوبر إنه بات لعبارات إمبريالية واستعمار وأمبراطورية، معانٍ تحقيرية في عالم اليوم، «إلا أن أهمية الكولونيالية في عصرنا هذا، تتخطّى الضرورات التي أوجبت ممارستها في القرن التاسع عشر».
أمّا مهمة الأنتلجنسيا الغربية اليوم، فيعتبر كوبر أنها تتركّز على إيجاد شكل جديد من الإمبريالية، يكون مقبولاً من حيث حقوق الإنسان والقيم العالمية، «شكل من الإمبريالية يكون هدفه، شأنه شأن جميع الإمبرياليات، إفادة الشعوب الأصلية بقليل من التنظيم، وتوزيع بعض الأموال عليهم، وبناء بعض الطرق لهم».
قد يكون كوبر استفاد في نظريته «العمالية» من الإرث الفكري الذي تركه منظّر اليمين البريطاني الأشهر، بول جونسون، عندما كتب عام 1993 في مجلّة «نيويورك تايمز صانداي»، عن المهمة التحضيرية التي تقع على عاتق العالم المتحضّر في إدخال الحضارة والمدنية إلى العالم المتخلّف الذي يقع خارج المنظومة الحضارية الغربية، وهذا لا يتم سوى من خلال استعمار هذه البلاد، «وحينها، سننال احترام وتقدير هذه الشعوب التي لن تعرف طريق الخروج من بؤسها إلا عبر الاستعمار».
الانتعاش الاقتصادي؟
تابع طوني بلير النهج الاقتصادي ــــ الاجتماعي الذي أرسته رئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر من إطار ما سمّته «مهمّة تحديث اقتصاد البلاد»، من خلال «الانتقام الطبقي»؛ فتاتشر ارتأت عام 1980 أن تتجاوز مشكلة البطالة التي طالت نحو 3 ملايين بريطاني في ذلك العام، عن طريق اعتماد سياسات أكثر ليبرالية، لأنها أرادت القضاء على المقاومة النقابية التي اعتبرتها المسؤولة عن البطالة. وبهذه السياسة، أرادت «المرأة الحديدية» تعميم نظرية «رأس المال الشعبي»، وهو يشمل صغار المستثمرين في البورصات على وجه التحديد، بهدف تجاهل الصناعة التي غرقت في عهدها إلى مستويات كارثية.
وعند وصول بلير إلى الحكم، قرّر عدم مراجعة قوانين الخصخصة التي شملت كل القطاعات، وقرّر تثبيت القوانين المعادية للنقابات التي أقرّها المحافظون.
وعلى صعيد السياسات الأمنية، استوحت «البليرية» سياساتها ضدّ الإرهاب من أروقة البيت الأبيض أيضاً؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، صدرت قوانين جديدة تسمح باحتجاز المشتبه فيهم لمدّة غير محدّدة من دون توجيه تهم لهم، ما أدى إلى تحويل أكبر سجن في لندن (بلمارش) الى ما سمّته الصحافة «غوانتانامو بريطاني».
«حصان طروادة»
يتّفق معظم المتابعين للشؤون الدولية عموماً على أنّ الوضعية الجغرافية والتاريخية والثقافية البريطانية جعلت من بريطانيا، منذ القدم، دولة نصف أوروبية ونصف أميركية، وهذا ما ظهرت تجلياته في الدور البريطاني داخل المؤسسات الاندماجية الأوروبية، منذ معاهدة روما عام 1951، بحيث سعت لندن إلى الاستفادة من التعاون الأوروبي من دون أن تشارك في جميع الواجبات المترتّبة على ذلك. وحتّى اليوم، تبقى مشاركتها في مؤسسات الاتحاد غير مكتملة، فلم تنخرط في نظام الانتقال الحر بحسب اتفاقية شنغن، ولم توافق على نظام العملة الأوروبية الموحّدة (اليورو)، الذي ابتدأ العمل به منذ 1-1-2000. وحتّى خلال القمة الأوروبية الأخيرة نهاية الأسبوع الماضي في بروكسل، أصرّت لندن على عرقلة الاتفاق على زيادة صلاحيات الممثّل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية، وحالت دون التوافق على تسميته «وزير الخارجية الأوروبية».
فموقع بريطانيا المطلّ على المحيط الأطلسي، جعلها تتطلّع إلى أوروبا على قاعدة أنّ «القارة القديمة»، لا تلبّي تطلعاتها بشكل كافٍ. وأدت لندن دوراً كبيراً خلال القمم الأوروبية في جعل «أوروبا أميركية»، وهو ما عبّرت عنه بوضوح مسوّدة الدستور الأوروبي الذي رفضه الفرنسيون والهولنديون عام 2005. ولن ينسى كُثر تعليق أحد المقرّبين جداً من بلير، عندما تمّ الاتفاق على مسودّة الدستور، حين حيّا تعميم النموذج الأنغلوساكسوني على القارة الأوروبية. وفي السياق نفسه، لم تخفِ لندن فرحتها من إلحاق الهزيمة بألمانيا وفرنسا، عندما أجبرتهما على التسليم بإدخال بنود في الدستور، تحصر مهمّة حفظ الأمن الأوروبي بحلف شمال الأطلسي، المسيطر عليه أميركياً.
انطلاقاً من هذا، ومنذ توسيع الاتحاد الأوروبي ليضم 27 دولة، باتت بريطانيا قوة تقتصر نشاطاتها على «التعطيل» أكثر من المشاركة الإيجابية، أمّا المحاولة الوحيدة التي لم تتعب إدارة بلير في السعي إلى تحقيقها، فكانت السيطرة على مركز القرار الأوروبي في بروكسل، لجعل القارة الأوروبية ساحة تبادل حرّة أمام حركة البضائع لا البشر.
ويبقى النجاح البريطاني الأبرز في «اختراق» مؤسسات الاتحاد، تنصيب أكبر منظّر لـ«العمال الجدد»، بيتر مندلسون، مفوّضاً للاقتصاد في الاتحاد الأوروبي، وهو الذي أبدى نيته «تحطيم» القيود التي تتسبّب بصلابة الاقتصاديات الأوروبية التي تفرضها الحقوق النقابية، بغية تحرير الشركات من القوانين التي أتت بها أعوام «الكينزية» الاقتصادية في أوروبا، وعلى الفور ظهرت التباشير الإيجابية لمساعي مندلسون من خلال قانون بولكشتاين لتحرير الخدمات العام الماضي.
وداع مذلّ
أبى بلير ترك منصبه إلا بخسارة موجعة غير مسبوقة لحزبه، ففي انتخابات المقاطعات المحلية التي جرت في الثالث من أيار الماضي، خسر «العمال» نحو 500 عضو في المجالس المحلية والمقاطعات البريطانية، بينما ربح حزب المحافظين 900 عضو جديد. أمّا رمزية الخسارة ــــ الفاجعة، فتمثّلت في سقوط اسكتلندا، المعقل التاريخي لـ«العمّال» ومسقط رأس بلير وغوردون براون، بيد الحزب «الحزب الاسكتلندي الوطني» (الاستقلالي)، بزعامة ألكسندر سلمند.
لن ينسى العالم أنّ عهد بلير شهد خمس حروب خلال 6 أعوام: «ثعلب الصحراء» في العراق عام 1998، وكوسوفو (1999)، سيراليون (2000)، أفغانستان (2001)، واحتلال العراق (2003). وإذا كان البعض يشهد له بدوره في إنعاش الاقتصاد، على حساب القطاع العام والفئات الأقل قدرة، فالغالبية الكبرى لن تغفر له تحالفه غير المشروط مع واشنطن، وخصوصاً في العراق والصراع العربي ــــ الإسرائيلي، حيث جعل من إسرائيل أولوية دائمة في حساباته الخارجية، وهو ما أضرّ بسمعة بريطانيا دولياً، وثبّت نظرة العرب والأوروبيين، تجاهها، بكونها «حصان طروادة» الولايات المتحدة في أوروبا والعالم.

أصغر رئيس حكومة

ولد أنطوني لينثون تشارلز بلير في 6 أيار 1953 في اسكتلندا، درس الحقوق في أوكسفورد وعمل في المحاماة في الفترة ما بين 1976 و1983 حين أصبح نائباً عن حزب العمال في مجلس العموم عن عمر 30 عاماً.
شغل منصب اللورد الأول للخزانة، ووزير الخدمة الشعبية، وقائد حزب العمال البريطاني بعد وفاة جون سميث عام 1994.
استطاع أن يقود حزب العمال لتحقيق أكبر نصر لحزبه في الانتخابات العامة عام 1997، حيث فاز بنسبة 45 في المئة من أصوات الناخبين.
وأصبح منذ ذلك التاريخ، أصغر رئيس حكومة منذ عام 1812 ليتولّى ثلاث ولايات متتالية.