strong>غزة ـــ رائد لافي
تسعى الحكومة الفلسطينية إلى احتواء الفوضى الأمنية عبر خطة وضعها وزير الداخلية الجديد، إلا أن عراقيل كثيرة تقف في وجه تطبيقها، بعضها داخلي مرتبط بالصلاحيات وهيمنة الأجهزة، وبعضها على صلة بالحصار الدولي، الذي يمنع الإمداد اللوجستي عن القوى الأمنية، باستثناء الحرس الرئاسي

بعد نحو عام من العهد «الحمساوي»، فشل طرفا الصراع على السلطة «ميدانياً» في حسم المعركة، التي أدت فيها الأجهزة الأمنية الرسمية بشقيها التابع لوزارة الداخلية والرئاسة دوراً محورياً لمصالح فريق الرئاسة وحركة «فتح»، فيما مثّلت القوة التنفيذية ومن ورائها «كتائب القسام» الفيلق المتقدم في الدفاع عن فريق الحكومة.
لقد افتقد الفلسطينيون خلال عام من الاقتتال الداخلي بين رأسي السلطة الفلسطينية «الأمن الشخصي»، حيث تحوّل السلاح الرسمي، سواء من جانب الأجهزة الأمنية أو القوة التنفيذية، إلى «سلاح فوضى»، عندما أشاع حاملوه القتل في شوارع المدن وأزقّة المخيمات.
ونتيجة طبيعية لانهماك المكلفين بحفظ القانون في صراعاتهم الداخلية، تنامت ظاهرة الانفلات الأمني في الأراضي الفلسطينية، وظهرت أنماط وسلوكيات من الاعتداء على حكم القانون، وأخْذ القانون باليد، تنوعت صورها وتعددت أسبابها، مثل عمليات اغتيال أو محاولات اغتيال، طالت مواطنين وشخصيات سياسية أو حزبية أو عامة، وعمليات قتل مواطنين لأسباب مختلفة (ثأرية أو مادية أو عائلية أو أمنية)، واعتداءات طالت بعض رموز السلطة القضائية والمحامين، وعمليات اختطاف لشخصيات أكاديمية أو نقابية أو إعلامية أو أجنبية، وعمليات سطو مسلح على بعض المحال التجارية، والاعتداءات المسلحة على المؤسسات الحكومية، والمرافق العامة.
معظم هذه الاعتداءات قام به أشخاص مكلفون بإنفاذ القانون، أو على الأقل في ظل عدم قيامهم بدورهم في حفظ الأمن والنظام في المناطق التي يكلَّفون بحفظ الأمن والنظام فيها، وما زاد من حدتها عدم وجود ملاحقة فعلية لمرتكبي هذه الأفعال، وعدم وجود محاسبة حقيقية تقنع المواطن بتحكيم القانون.
ما بعد «مكة»
عندما أيقن الفريقان عدم جدوى الاقتتال أو إمكان حسم الصراع السياسي بالقوة، ونتيجة ضغوط و«إغراءات» جنحوا إلى التدخل السعودي ووقعوا اتفاق مكة في الثامن من شباط الماضي، وبموجبه تم تأليف حكومة الوحدة الوطنية. لكن ذيول المرحلة الماضية لم تنته بعد، وانعدام الثقة لا يزال قائماً، وبسببه تقع بين الحين والآخر انتهاكات ميدانية وإعلامية من طرفي الاتفاق.
وتحول الصراع السياسي الفلسطيني إلى صراع عائلي دافعه عمليات الثأر المتبادل بين العائلات التي فقدت أبناءها في مرحلة الاقتتال، فيما هيئة المصالحة الوطنية التي أعلن عنها الرئيسان محمود عباس وإسماعيل هنية لم تبصر النور فعلياً لمعالجة تبعات المرحلة السابقة وتعزيز حالة التوافق الداخلي.
وفي هذا الإطار، أقرّت الحكومة خطة أمنية تقع في 90 صفحة، هدفها إنهاء حالة الفلتان الأمني والفوضى وانتشار السلاح في كل مكان، وإعادة هيبة السلطة الفلسطينية التي تكاد تتلاشى امام استقواء الفصائل والعائلات والعصابات المسلحة.
الخطة الأمنية
تتألّف الخطة الأمنية من مرحلتين، الاولى تستغرق مئة يوم، فيما تبدأ الثانية بعدها مباشرة، وسط مخاوف من جملة من المعوقات، منها السياسية والمالية واللوجستية وغيرها. غير أن سلاح المقاومة يعدّ أحد ابرز التحديات أمام تنفيذ الخطة، رغم انه لم يرد ذكر ذلك في تفاصيلها، حيث فشل وزير الداخلية وواضع الخطة الأمنية هاني القواسمي في إقناع الفصائل الخمسة، التي لها اذرع عسكرية، وهي: «حماس» و«فتح» و«الجهاد الاسلامي» والجبهتان «الشعبية» و«الديموقراطية»، بقبول تهدئة شاملة مع الدولة العبرية، لكون ذلك يوفر أجواء ملائمة لتنفيذ الخطة.
وتهدف الخطة إلى «بث روح الطمأنينة والشعور بالأمن لدى المواطنين وحماية الأرواح والأعراض» و«فرض النظام العام والأمن وحماية الممتلكات والمنشآت العامة وإزالة التعديات على الأملاك والاراضي الحكومية»، و«اعادة هيبة السلطة وبسط سيادةالقانون» و«منع ظاهرة انتشار حمل السلاح والحواجز المسلحة وظاهرة اللثام» و«منع الجريمة وضبط ما يرتكب من جرائم»، و«تقديم الحماية والدعم الكافي للقضاة ودور المحاكم بهدف إسراعها في بت القضايا المعروضة امامها» و«تنفيذ الأحكام القضائية وأوامر النيابة المتراكمة لدى الشرطة».
وتنص الخطة على البدء بنشر حواجز الردع ونقاط التفتيش داخل المدن وعلى الطرق الرئيسة، ونشر الدوريات الراجلة في المناطق الأمنية المقترحة. وتقضي بربط الإشراف على العمليات الميدانية مع قوات الامن الوطني وباقي الاجهزة الامنية بهدف تكامل العمل، فيما تتولى وزارة الإعلام استنهاض الجماهير لكسب تأييدهم ودعمهم للخطة الامنية.
ولضمان الاستمرار المنتظم في تطبيق الخطة، يجري تقويم العمل يومياً، وتصويب الأخطاء، وتقويم الخلل وتدوين تقرير اسبوعي عن عملية المتابعة يعرض على مجلس الوزراء ومجلس الامن القومي للاسترشاد بالرأي والتوجيهات بشأن الحالة الامنية.
المعوقات
إلا أن سلسلة معوقات، لا تخرج في معظمها عن إطار الصراع السياسي بين حركتي «فتح» و«حماس»، تقف في وجه تنفيذ هذه الخطة الأمنية، ولا سيما بعد ظهور حالة صدام المصالح بين وزير الداخلية هاني القواسمي ورئيس جهاز الأمن الداخلي رشيد ابو شباك.
وتتوزع المعوقات كالآتي:
أولاً: المعوقات السياسية، وتتمثّل في عدم وجود دعم سياسي على مختلف المستويات لإنجاح تنفيذ الخطة لاحتمال حدوث انعدام التوافق السياسي، وعدم التزام التنظيمات والفصائل السياسية والأجنحة العسكرية التابعة لها بموجب ما يتم الاتفاق عليه من إلغاء لكل المظاهر المسلحة، وعدم الجدية في إلزام أجهزة الأمن المختلفة لمنتسبيها بحظر حمل السلاح في الشوارع العامة لمن يرتدون الزي المدني وغير القائمين بمهمات رسمية.
ثانياً: المعوقات المالية وتتمثّل في عدم توفر الجدية في تخصيص الموازنات التشغيلية الضرورية، والتي تلزم لتنفيذ الخطة الامنية، أو توفير الغطاء المالي للتجهيزات والمعدات المطلوبة.
ثالثاً: المعوقات الإدارية، وهي سرعة إنجاز إعادة هيكلة أجهزة الشرطة والأمن التابعة لوزارة الداخلية (مقر الوزارة، والشرطة، والأمن الوقائي، والدفاع المدني) وذلك طبقاً للتوصيف والتسكين الوظيفي وبهدف توفير الأعداد المطلوبة من هذه الأجهزة لإنشاء القوة المقترحة لتنفيذ الخطة المطلوبة.
رابعاً: معوقات التدريب وسرعة البدء في برنامج تدريبي (عشرة أيام) لتأهيل نواة القوة المقترح تأليفها للبدء في تنفيذ المهمات الموكلة إليها، مع الأخذ في الحسبان تدريب باقي القوات تدريباً فائق المهارة للتخصص في أعمال الوحدات المتخصصة لهذه القوات، وذلك طبقاً لمقترح (إنشاء قوات الأمن الداخلي المركزية).
خامساً: معوقات لجوستية: التأخير في تأمين المعدات والمستلزمات المطلوبة وإعدادها لتنفيذ الخطة الأمنية في الموعد المحدد لبدء تنفيذ المهمات (سيارات، وأجهزة لاسلكية، وأسلحة وذخائر، ومدافع مياه، ومعدات مكافحة الشغب، وملابس، وخوذ، واحتياجات نقاط التفتيش والحواجز الثابتة).
مجلس الأمن القومي
تنفيذاً لما تم التوافق عليه في مكة، أصدر الرئيس محمود عباس مرسوماً رئاسياً يقضي بتأليف مجلس الأمن القومي، برئاسته، على أن يكون هنية نائباً له، وعضوية وزراء الداخلية والمال والخارجية، ومدير المخابرات، والأمن الوطني، والقائد البارز في حركة «فتح» النائب محمد دحلان، الذي عينه عباس أميناً لسر المجلس، ومستشاره للأمن القومي، وسط رفض حاد من حركة «حماس»، لكون القانون لا يبيح للنائب في المجلس التشريعي تولّي أي وظيفة استشارية أو تنفيذية.
ويعتقد كثيرون أن حركة «حماس» ستقبل في نهاية المطاف بتسوية لتعيين دحلان، في مقابل حصولها على مكاسب سواء في ما يخص قرارات الحكومة السابقة التي لا يزال بعضها «مجمداً رئاسياً»، أو على صعيد الشراكة السياسية وإعادة بناء منظمة التحرير وهيكلتها.
جرغون
قال عضو اللجنة المركزية للجبهة الديموقراطية زياد جرغون، إنه من المهم تنظيم سلاح المقاومة، والتأكيد على العلاقة مع فصائل العمل الوطني والإسلامي، وإذا كانت الخطة الأمنية تعتمد أساساً في نجاحها على الأجهزة الشرطية، تساعدها في ذلك أجهزة أمنية، فإن للقوى أيضاً دور في نجاح الخطة، وتحديداً فصائل العمل المسلح الخمسة، على صعيد تنسيق منع المظاهر المسلحة ومظاهر اللثام بين المنازل والمواطنين ومنع الاستعراضات العسكرية، ورفع الغطاء عن أية ممارسات خاطئة وعدم تدخل أي فصيل لدى وقوع مخالفات معينة على اعتبار أنه لا احد في الأذرع العسكرية فوق القانون.
وأضاف جرغون أن «ذلك ينطبق أكثر على ميليشيات العائلات التي برزت أخيراً، ويجب العمل على حلها وتحريمها في سياق سياسة تعالج ذيول المرحلة السابقة التي شاركت فيها ميليشيات عائلية دفاعاً عن النفس أو لأغراض الابتزاز وخطف المواطنين والرشوة والخوات».
وشدد على أن «تطبيق سيادة القانون يقتضي التعاون بين السلطة والقوى والأجنحة العسكرية، بمعنى تطبيق سيادة القانون بالتوافق، وصولاً إلى تنظيم حيازة السلاح الشخصي من جانب المواطن وفقاً لقانون ينظم ذلك من دون تمييز بين المواطنين».
وأشار جرغون إلى ان «تجربة المقاومة اللبنانية وتنظيم حيازة السلاح الشخصي في لبنان، تؤكد أن انتصار المقاومة في لبنان على العدوان الإسرائيلي في تموز 2006، هو نتيجة لابتعاد سلاح المقاومة عن الشأن الداخلي وتوجيه بنادق المقاومة نحو العدوان والاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يتطلب فلسطينياً صيغة تحظى بتوافق وطني لتحريم المس بسلاح المقاومة، مع تنظيمه وتحريم مظاهره الاستعراضية».
وشدد جرغون على «ضرورة التمييز أولاً بين جهاز الشرطة والأجهزة الأمنية، فجهاز الشرطة هو في الأساس جهاز خدمات وليس جهازاً أمنياً، والوظيفة الرئيسية للشرطة تنفيذ القانون وفرضه، وحماية النظام العام، وإعداد الشرطة وتأهيلها يختلف عن إعداد الأجهزة الأمنية وتأهيلها»، مشيراً إلى أن «العنصر الرئيس في إعداد الشرطة وتأهيلها هو الحقوق المدنية والنظام العام، وكيف تتفاعل مع الحدث ومع المواطنين، ومنع تجاوز القانون والنظام العام، فالشرطة غير مؤهلة إطلاقاً، ومن دون تأهيلها ستضيع بين وظيفتها كجهاز خدمات وبين وظيفة ليست لها كجهاز امني».
وقال جرغون إن ذلك «ينطبق أكثر على جهاز المخابرات العامة الذي يتبع مؤسسة الرئاسة، وجهاز الأمن الوقائي التابع للشرطة ووزارة الداخلية، حتى لا يتحول الأمن الوقائي والمخابرات العامة إلى جهاز بوليسي، بالاشارة إلى التجربة التي مرت بها السلطة، حيث كان جهازا الأمن الوقائي والمخابرات العامة يتدخلان في كل صغيرة وكبيرة بما فيها العمل السياسي ومراقبة عمل القوى السياسية ومتابعته وغير ذلك من الأمور الشاذة التي لا يسمح بها القانون أو أي نظام ديموقراطي».
وأشار جرغون إلى أن «أهمية إعادة بناء جهاز الأمن الوقائي وتأهيله على أسس جديدة تجعل دوره منسجماً مع وضعه كتابع للشرطة ومعني بالنظام العام وسيادة القانون والجرائم المدنية والحيلولة دون وقوعها، وغير ذلك من المهمات، إضافة إلى إعادة تأهيل جهاز المخابرات العامة وبنائه على أسس مهنية بعيدة عن الفئوية، ليكون جهازاً يحمي الوطن والمواطن من أي اختراق خارجي وحماية الفلسطينيين في الشتات».
ورأى أن «أجهزة الشرط والأمن لم يتم بناؤها على أساس مهني، بل على أساس سياسي حزبي وفئوي، حيث يتطلب نجاحها إبعادها تماماً عن العمل السياسي والحزبي»، مشيراً إلى أن «حكومة «حماس» ارتكبت الخطأ نفسه عندما أنشات القوة التنفيذية ووظفتها في خدمة جهة حزبية وسياسية داخل إطار الوظيفة وخارجه، الأمر الذي يستدعي معالجتها عبر دمجها في جهاز الشرطة والأجهزة الأمنية الأخرى».