حيفا ــ فراس خطيب
  • أهــالي القــرى المهجّــرة يعــودون إليهــا... «أمــواتــاً»

    في مثل هذا اليوم من كل عام، يتذكر فلسطينيو 48 والأراضي المحتلة والشتات، يوم النكبة والتهجير واللجوء، مستعينين بما لديهم من ذاكرة تؤكد الحق المسلوب

    لم يكن الطقس على عادته في أيار. كانت الغيوم تضفي على الأجواء قتامة تتناسب مع الموكب الجنائزي، الذي كان يسير ببطءٍ نحو مقبرة القرية الفلسطينية المهجرة، كفر برعم. النعش يقترب إلى مثواه الأخير وأهل القرية من ورائه. هكذا، منذ تهجيرهم، يصممون على دفن موتاهم هناك، في القرية التي كانت.
    هذه القرية، وأخرى مهجرة قريبة منها، اسمها إقرث، تصمّمان منذ 59 عاماً على «حق العودة». إلا أن إسرائيل لم تسمح منذ عام 1970، إلا بـ«حق العودة للأموات».
    الميت يعود إلى ترابه، وأهالي القرية يعودون من حيث أتوا: جزء منهم في قرى الشمال، وآخر في حيفا، وجزء هُجّر إلى رميش في الجنوب اللبناني و«لفّه الطريق» ولم يعد.

    المحمية الطبيعية

    الدخول إلى قرية برعم المهجرة، من الناحية الشمالية، مرتبط برسوم دخول. ثلاثة دولارات للشخص فوق الثامنة عشرة وبوابة كهربائية، نصبت إلى جانبها لافتة خضراء ضخمة، كتب عليها بالعبرية والعربية والإنكليزية، «أهلاً وسهلاً بكم إلى الحديقة الوطنية برعام». وإلى جانبها لافتة أخرى تشرح «تاريخ المحمية الطبيعية».
    على مدخل «المحمية»، هناك مرشد سياحي إلكتروني، معلّق على إحدى الشجيرات، يقدم، بعد الضغط على الزر الأخضر، «الخدمات للزائر»، يشرح الصوت الطالع منه «تاريخ» الحديقة باللغتين العبرية والإنكليزية. لا صوت بالعربية، على ما يبدو، فالعرب يعرفون جيداً تاريخ هذه «الحديقة».
    يقول المرشد الإلكتروني إن «الحديقة الوطنية برعام كانت قرية يهودية مزدهرة بين القرنين الأول والسابع الميلاديين. في المكان آثار لكنيسين قديمين، الكنيس الكبير ذو واجهة ضخمة مزينة بنقوش بارزة، والكنيس الصغير الذي لم يبقَ منه إلا آثار قليلة».
    التسجيل يستمر، وصوت المذيعة لا يتوقف، من سيرة إلى أخرى، لكنَّ شيئاً واحداً لم يذكر، وهو أنَّ «حديقة برعام» هي أصلاً قرية فلسطينية، سكانها فلسطينيون مسيحيون موارنة، اسمها كفر برعم، هُجّر أهلها عام 1948، وهُدّمت البيوت فيها. وهذه الكنيسة الكبيرة، وهذه الحجارة الضخمة، الظاهر طرفها من بين أعشاب «الحديقة الوطنية»، هي ما بقي من البيوت التي هدمت في ذلك العام. وهؤلاء العرب، الذين يدفعون رسوم الدخول، هم سكان هذه القرية الأصليون، و«الكنيس الكبير»، هو أصلاً دير بيزنطي، هكذا يقول عنه سكان القرية الأصليون، لأن مبناه بيزنطي ولا يشبه مبنى الكنيس اليهودي.
    للحظة، يبدو واضحاً للرائي أنَّ هذه هي «المحمية الطبيعية» الأولى، ربما في العالم، التي تحمي الدمار من العمران بدلاً من أن تحمي العمران من الدمار.

    لن ننسى

    في المكان، يقف أبو نصر الله، يرتدي حطّة فلسطينية، ملامحه قوية، صارمة وحازمة. تجاوز الثمانين من عمره، لكنَّه لا يزال شاباً في ذاكرته. كان يتجول بين بيوت القرية وكأنها قائمة، يعرف كل بيت وكل حجر. لمن يعود كل بيت. يحكي عن القرية المسالمة، عن العيش على الزراعة والعلاقات الطيبة مع جيرانها (وهي قرى مهجرة كلها)، عن مفاتيح البيوت الباقية وعن البيوت المهدومة. لا يزال يعيش حالةً من الانتظار، والانتظار في حالته أمليروي أبو نصر الله عن ذلك الشاب الذي غادر بيته متجهاً إلى قرية رميش اللبنانية، وعاد إلى بيته ليجلب السجائر وقتل في طريق العودة على يد شخص يهودي من صفد. ويقول «هجّرونا من بيوتنا قبل 59، قالوا لنا هذا ليس تهجيراً وستعودون إلى بيوتكم بعد 15 يوماً. انتقلنا الى رميش في لبنان، وعدنا إلى قرية الجش، وصارت الـ15 يوماً 59 عاماً».
    الذاكرة جزء من المكان والبقاء، حين تُذكّر أبا نصر الله بما قاله ديفيد بن غوريون بعد النكبة «الكبار سيموتون والصغار سينسون»، يبتسم قائلاً «لدي حفيد عمره أربع سنوات، يعيش في قرية الجش، حين تسأله من أين أنت، يجيب: أنا من كفر برعم. لن ينسى أحد».
    الناس في برعم يذكرون كل شيء عن هذه القرية، يعيشون أمل العودة. متماسكون دائماً. يجتمعون من كل صوب وحدب في الأفراح والأتراح. ففي فلسطين المحتلة، يقولون عادة، أنا من هذه البلدة وأصلي من تلك، لكن أهالي كفر برعم لا يزالون يقولون: أنا من كفر برعم وأسكن في هذه البلدة. وهذا أيضاً ما يميز قرية أقرث، المحاذية لكفر برعم الواقعة على الشريط الحدودي الذي كان يفصل فلسطين عن لبنان.

    إقرث

    إقرث عربية هُجّرت عام 1948، وطُهّرت عرقياً. لم يبقَ منها سوى الحجارة، وكنيسة لا تزال قائمة حتى اليوم، تحفظ التاريخ من التزوير. الطريق إلى ما بقي منها مسدود، لكنَّ سكانها الأصليين يزورونها في أحيان متقاربة. وأدّت زياراتهم المتقاربة إلى شقّ طريق ترابي يمتد من الشارع الرئيسي حتى الكنيسة.
    على مدخل القرية لافتة كبيرة صُنعت من الخيش الأسود وكُتب عليها «أقرث ترحب بزائريها»، ومن ورائها فراغ، يكسره لوح أبيض، كتب عليه بخط يد كبير «لن نبقى لاجئين، حتماً سنعود».
    إنّ احتلال قرية أقرث كان هو أيضاً مشابهاً لاحتلال كفر برعم. فبعد خروج جيش الإنقاذ العربي، حضر قائد عسكري اسمه كارا وأعلم أهالي البلدة بضرورة إخلاء البيوت لأسباب أمنية. ثم ادّعى أنه يحمل رسالة من قيادة الأركان تأمر الأهالي بالنزوح عن القرية الى حين تمشيط المنطقة. وسارت المركبات العسكرية تحمل أهالي أقرث، وأسكنت معظمهم في قرية الرامة الجليلية. سكنوا في بيوت من هُجّروا. ومضى الأسبوعان، وصارا 59 عاماً في حالتهم، كما في حالة مئات القرى.
    أهالي القريتين لا يزالون يواظبون على زيارة المكان. الحل بالنسبة إليهما هو العودة بالمعنى الطبيعي للعودة. لا تعويضات، ولا مهاترات سياسية، ولا تبديل أراضٍ ولا تحديد حدود جديدة. الحل بالنسبة إليهم العودة إلى البيوت المهدومة وإعمارها من جديد والاستمرار في هذه الحياة حتى نهايتها. تماماً كما كانت الحال هناك. استنفد سكان القريتين، حتى الأدوات الدستورية الاسرائيلية، والمحكمة العليا حكمت بعودتهم، لكنَّ الأمن فوق القانون، في وقت تنتشر فيه المستوطنات اليهودية الممتدة على أنقاض القرى المهجرة هناك.

    عن الذاكرة

    العودة ثقيلة من أقرث إلى كفر برعم وأي مكان آخر. فذكريات النكبة لا تقتصر على هاتين القريتين، بل تمتد طوال طريق العودة. هناك قرية سعسع المهجرة، وميرون أيضاً. وإلى جانبهما قرية الصفصاف، حيث نفّذت العصابات الصهيونية مجزرة راح ضحيتها 66 فلسطينياً. الطريق تمر من جانب قريتي فراضية والسموعي. لكل قرية قصة، ولكل قصة ذكرى. شعب يعيش على الذاكرة ويخاف عليها.
    من يحيا تاريخ القرى المهجرة لا يمكنه التسليم بالحاضر. فالمأساة لا تكمن فقط في الحياة التي صارت كومة حجار، بل في الخوف من العيش في ظل الذاكرة ومواجهة الواقع من أجل حفظ الذاكرة في المفترقات السياسية الأقرب إلى المساومة. فالنكبة وتداعياتها ليست حادثة عابرة، بقدر ما هي حادثة تكبر كل يوم. عاصرها الكبار، ويعاصرها الصغار بتفاصيل مختلفة. من هدم بيت الجد قبل 59 عاماً حتى تحويل الاسم من كفر برعم إلى «حديقة برعام»، من سعسع إلى «سأسأ»، من فراضية إلى «بارود». هدموا كل شيء، ووضعوا لافتات جديدة، كتبوا عليها ما يشاؤون. حتى الكلمة لم تسلم.

    لا شيء

    في كتابه «ذاكرة»، الصادر حديثاً، يكتب الأديب سلمان ناطور، عن النكبة واللجوء والعودة: «تخونني الذاكرة وأفقدها يوماً بعد يوم، وقد يأتي يوم أسود فأجد نفسي بلا ذاكرة. مجرد جسد يتحرك إلى لا مكان. أهيم في الشوارع المزدحمة أو في الوعور الخالية أبحث عن أرنب أسأله: أين أسكن؟ ويخاف مني الأرنب فأركض خلفه، أهيم إلى أن يعثر عليّ صياد، كان يوماً ما رفيق طفولة أخذ الحياة على علّاتها واستقى منها فرحتها فصان ذاكرته. ويمسك بيدي، أنا الذي ناطح طواحين الهوا، ففقد ذاكرته وصار لا شيء. تماماً لا شيء. ويأخذني إلى البيت الذي ولدت فيه ويسلمني إلى أهلي ثم يعود هو إلى بيته ليحدث أهله عن شيخ فقد الذاكرة، ويقول متفاخراً أمامهم: لولاي لأكلته الضباع.
    ستأكلنا الضباع إن بقينا بلا ذاكرة. ستأكلنا الضباع».

    رواية لاجئ

    «لا يزال يوم خروجنا من مدينتي اللد في تموز الملتهب مؤلماً ومرعباً، ونحن نرى الجثث المضرجة بالدماء بعد احتلال مدينتنا من قبل اليهود الذين كانوا يطلقون النار علينا من كل حدب وصوب، إنه محفور في ذاكرتي. إنه يوم نكبتنا».
    هكذا يتذكر مصطفى صابر السمهوري (75 عاماً) المقيم في مخيم عقبة جبر للّاجئين الفلسطينيين بالقرب من مدينة أريحا، وهو يجلس خلف طاولة قديمة في دكانه البسيط، الذي يبيع فيه بعض المواد التموينية، كيف خرج صبياً مع أسرته من مدينة اللد، بعدما احتل اليهود عام 1948 الجزء الأكبر من فلسطين.
    ويضيف السمهوري، أو أبو خالد كما يطلق عليه، «كان سنّي 16 عاماً تقريباً آنذاك، وأذكر أننا خرجنا حفاة عراة جراء إطلاق النار على المدينة من قبل اليهود وكل ما كنت أسمعه من والدي ووالدتي: اركضوا أسرعوا، اليهود سيقتلوننا».
    ويوضح السمهوري «هرب المئات من سكان القرى المجاورة بعدما احتلها اليهود وأتوا إلى القدس حيث حاربوا مع مقاتلي المدينة، ما ساعد على إطالة فترة المقاومة وتكبيد اليهود خسائر بشرية. لكن اليهود شنّوا هجوماً مركّزاً بأعداد كبيرة وقصفوا المدينة بالمدافع ومن الجو». وتابع «أذكر أن والدي كان من المقاتلين، وعادة كان يحمل بندقية، لكنه دخل خالي اليدين وقال لنا إن ذخيرة المقاتلين نفدت. وقال وهو يحمل إخوتي: هيا، اليهود دخلوا من المنطقة الشرقية، ويقتلون كل من يرونه».
    وأضاف السمهوري «كنا صائمين نركض ونلهث من الخوف، لا ندري الى أين المصير، الآلاف يركضون في كل حدب وصوب ولا أحد يعلم الى أين؟». وتابع «خرجنا من بيتنا وما إن وصلنا الى أطراف المدينة حتى بدأنا نرى جثث المقاتلين على الأرض مضرجة بدمائها وأذكر جيداً كيف صُدم العديد من الفارين لرؤية جثث الأبناء أو الآباء على الأرض، فكانوا يتوقفون بالقرب منها وهم يصرخون ويبكون».
    وروى كيف كان العديد من العائلات الفارّة يكتشف بعد ساعات من الهروب أن هناك أحد الأطفال مفقود ولم يركض معهم. ويضيف «لأنني كنت الأكبر بين إخوتي كان لا بد من مساعدة والدي في حمل أشقائي وشقيقاتي الستة. ووصلنا بعد أيام الى قرية بيرزيت ومكثنا هناك شهراً واحداً، ثم رحلنا الى منطقة أريحا. هنا في مخيم عقبة جبر، الذي كان وصل إليه عشرات الآلاف غيرنا من اللاجئين والفارين».
    ويلعن أبو خالد، وهو أب لسبعة أبناء، يوم النكبة قائلاً «الله يلعن هذا اليوم. كنا في حال وأصبحنا في حال أخرى، من ملاك للأرض والبيت إلى لاجئين في خيام ثم في بيوت من الطين. ما حدث لنا هو ضياع لا ينتهي ومصير لا يزال مجهولاً حتى الآن». ويؤكد «أقسم إن هذه الأرض أرضنا، هُجّرنا منها قصراً تحت نيران المدافع ورصاص البنادق بمؤامرة اشتركت فيها دول عديدة ولن نتخلى عنها، مهما كانت الأسباب، وإن متنا نحن الذين نذكر ما حصل، فإن أبناءنا وأحفادنا لن ينسوها، فقد علّمناهم ألا ينسوها، وسيعودون يوماً مهما طال الزمن».
    (أ ف ب)