بغداد ــ الأخبار
لعل أبرز ما تتميّز به الكتل السياسية في العراق، هو هشاشتها وعدم انسجامها وافتقارها إلى محتوى إيديولوجي، ما يجعلها عرضة للاختلاف والتفكّك في مواقف معينة، الأمر الذي يجعل الواقع السياسي غير مستقر، ومرتهناً لردود أفعال الجهات الخارجية المحرّكة للعملية السياسية، ولا سيما الولايات المتحدة التي أدركت الآن أن منزلق اللعبة الطائفية أصبح يمثل الخطر الأول على مصالحها وبرنامجها السياسي والاقتصادي

تهيمن الأسس الطائفية والعرقية على الكتل السياسية الرئيسية في العراق، في مقابل تيار ليبرالي يعاني التفتت وعدم وجود رؤية واضحة من النهج السياسي الاقتصادي، الذي تسعى إلى تطبيقه قوات الاحتلال، في ظل غياب واضح لقوى اليسار الديموقراطي، وتغييب متعمد للأفكار القومية أو الاشتراكية التي أصبح الحديث عنها بمثابة «تهمة» بالسعي إلى عودة «النظام الشمولي».
البديل الليبرالي
ومع فشل نهج الاحتلال بالاعتماد على التقسيم الطائفي في إدارة شؤون البلاد، عادت من جديد فكرة «البديل الليبرالي»، التي تنطلق أساساً من مدى قناعة المحتل بعدم جدوى النهج المعتمد حالياً، وإدراك القوى السياسية، جماعاتٍ أو أفراداً، أن الرياح تميل باتجاه التغيير الذي لا بد منه، والناتج من الإخفاق الطائفي ــــــ العرقي.
لذا، بدأت مرحلة تشكّل جديدة، تعتمد أساس المواطنة، وقد تبنت «القائمة العراقية» التي يترأسها رئيس الوزراء الأسبق رئيس حركة «الوفاق الوطني» اياد علاوي، هذا الاتجاه، الذي يحظى الآن بقبول، حتى في داخل الكتل الطائفية. وقد أكدت «القائمة العراقية» أن هناك مطالب ومقترحات يتحدّد بموجبها استمرارها في تشكيلة الحكومة الحالية.
وقال عضو المكتب السياسي لحركة «الوفاق الوطني»، كاظم تركي: «سيكون للقائمة موقف جديد من المشاركة في الحكومة، بعد الإجابة عن تلك المطالب والمقترحات». وأشار إلى أن «التفجيرات والاغتيالات وعمليات الخطف والتهجير الحاصلة في العراق، التي تدينها الحركة، سببها الإرهاب المتنوع المصادر، وأن وحدة الشعب، والتعامل على هذا الأساس بعيداً عن التقسيمات الطائفية والعرقية سيحقق النصر».
وأشاد تركي بموقف حزب «الفضيلة» وانسحابه من كتلة الائتلاف الموحد، مشيراً إلى «أن هناك حوارات واتصالات ومبادئ أولية تم الاتفاق عليها بين القوى السياسية لمشروع عراقي يوحّد كل العراقيين، وبغير ذلك لا يمكن أن ننتقل إلى الحالة الأفضل».
ورأى تركي انسحاب الكتلة الصدرية من تشكيلة الحكومة موقفاً إيجابياً يعبر عن الوحدة الوطنية. وقال: «لنا علاقات جيدة معهم، وإن موقفهم يعبّر عن سعيهم إلى إنقاذ العراق، ونحن نمد أيدينا لكل الساعين إلى ذلك».
إخفاقات الاحتلال
إلا أن الترحيب بمواقف «الفضيلة» و«التيار الصدري»، لا يعني التوصّل إلى صيغة اتفاق جبهوي، وكذلك الإعلان عن اتفاق مبدئي مع «جبهة التوافق العراقية»، و«الجبهة العراقية للحوار الوطني»، و«كتلة المصالحة والتحرير»، إضافة إلى وجود تنسيق مع الجانب الكردي في مجالات محددة.
ويبقى الهاجس لدى «كتلة علاوي»، إبراز الإخفاقات التي أصبحت طاغية على النهج السياسي للاحتلال في العراق. وقال ضياء الشيخلي، عضو المكتب السياسي في حركة علاوي: «إننا نحمّل الحكومة العراقية والقوات المتعددة الجنسيات مسؤولية الإرهاب الحاصل في البلاد، وما يجري من أحداث تنخر جسد العراق وتنذر بنتائج كارثية يصعب التكهن بها».
وتابع: «بالإضافة إلى التفجير والتهجير والمحاصصة الطائفية والعرقية، فإن مستقبل العراق قاب قوسين أو أدنى من مأساة لم يشهد لها التاريخ الإنساني مثيلاً، ستزيد من جريان بحر الدم العراقي وتفتته إلى دويلات تكون متناحرة في ما بينها». وطالب الحكومة وقوات الاحتلال «بوضع الحلول السريعة لوقف عملية العنف والدمار عبر قبر المحاصصة الطائفية والعرقية التي ظهرت في الساحة السياسية العراقية».
خيارات ذات مغزى
رأى نائب الرئيس العراقي، طارق الهاشمي، أن أمام جبهة التوافق العراقية أياماً قليلة لاتخاذ قرارات مهمة في عدد من الخيارات المطروحة. وأضاف، في بيان صادر عن مكتبه الإعلامي: «إن الأسبقية في تلك الخيارات ستكون للحوار».
وكان الهاشمي، الأمين العام للحزب الإسلامي العراقي، قد أعلن أن جبهة التوافق وبعض الكيانات السياسية الأخرى تعمل في الوقت الراهن على تغيير الخريطة السياسية على الساحة العراقية إلى الأفضل نتيجة للأحداث التي مر بها العراق أخيراً. وأضاف: «إن قادة جبهة التوافق العراقية والتحالف الكردستاني والقائمة العراقية الوطنية أجروا مشاورات بشأن عدد من المسائل العالقة، وقد خرجنا برؤية مشتركة ربما نتج منها مشروع وطني سياسي خلال الأيام المقبلة».
وأوضح الهاشمي: «إننا بصدد الإعلان عن مشروع ميثاق مشترك لإنشاء جبهة الإنقاذ الوطني، يكون من أولى مهامها تنسيق المواقف تجاه الأمور المتعلقة بالسياسة العراقية الداخلية أو الخارجية، وإن هذا الترتيب لا ينبغي أن يقرأ خطأ على اعتبار أنه يمثل كتلة سياسية هدفها مواجهة الكتل السياسية الأخرى، لذلك سيبقى الباب مفتوحاً لانضمام الآخرين».
الجبهة الوطنية
وفي السياق، أعلن رئيس جبهة التوافق العراقية عدنان الدليمي عن تشكيل جبهة سياسية جديدة باسم «الجبهة الوطنية العراقية»، تضم كلاً من «جبهة التوافق» و«القائمة العراقية»، التي يتزعمها اياد علاوي. وقال «إن الجبهة الجديدة ستعمل على إحداث توازن داخل القوى السياسية، وستبتعد عن المحاصصات والتكتلات الطائفية التي حصلت في الحكومة العراقية في الزمن الماضي».
وأشار الدليمي إلى أنه «تم الاتصال بحزب الفضيلة وجبهة الحوار الوطني والكتلة الكردستانية للانضمام إلينا، ونحن الآن بانتظار آراء هذه الكتل بشأن تشكيل هذه الجبهة الجديدة».
الوقت يمضي سريعاً
وأكد رئيس «تجمع الديموقراطيين المستقلين» عدنان الباجه جي أن «القائمة العراقية» تجري اتصالات مع شخصيات وكتل وأحزاب سياسية منها حزب الفضيلة من أجل تشكيل جبهة وطنية». وقال: «إن مباحثاتنا لا تزال مستمرة ونرجو أن نتفق على تشكيل الجبهة من حيث التنظيم والعمل، ونأمل أن تشمل كل العراقيين». وأضاف: «نحن نتباحث حالياً مع التيار الصدري، ونحن لا نستثني أحداً، وهذه الجبهة واسعة، وقد تؤثّر على أسلوب الحكم وهذا ما نأمله». وأوضح «أن الوقت يمضي سريعاً والتأخير ليس في صالح العراق».
إلا أن الباجه جي، أعرب عن ثقته بالمستقبل «حتى لو لم تحقق الجبهة الجديدة أهدافها المرجوة حالياً»، مشيراً إلى أن «الوضع القائم هو السبب في تشرّد خمسة ملايين عراقي خارج بلدهم، وأن أصوات هؤلاء سترجح الكفّة الديموقراطية في أية انتخابات مقبلة».
قانون الانتخابات
ولكن القيادي في حزب «الفضيلة» نديم الجابري رأى ضرورة «عدم التسرع في الإعلان عن الجبهة الجديدة». وقال: «نحن متفقون في الخطوط العامة، وأهمها إلغاء المحاصصة الطائفية، ومحاسبة كل المسيئين والمقصرين، حسب ما اقترفوه، والإسراع في التعديلات الدستورية، وخصوصاً أن حزب الفضيلة له وجهة نظر في إجراء معالجة جذرية لمسألة المحاصصة الطائفية، من خلال تعديل القوانين الانتخابية، بإجراء الانتخابات على أساس الترشيح الفردي، والابتعاد عن القوائم، لينال كل مرشح ما يستحقه على أساس كيانه الشخصي، وليس الكيان السياسي أو الطائفي الذي ينتمي إليه».
وشدّد الجابري على «وجود تفاهم وتنسيق مع الحزب الإسلامي العراقي بشكل خاص، إضافة إلى التفاهم مع الجهات الأخرى». وأوضح أن «هناك اختلافاً في الرؤية للديموقراطية، التي يرى البعض أنها مجرد آلية تتحكم بها صناديق الاقتراع بمعزل عن المستلزمات الأخرى؛ مثل الحرية، وتوفير المناخ السليم لممارسة كل الفئات دورها في بناء العراق الجديد». وقال: «نفضل الآن التريّث في إعلان موقفنا الجبهوي، لكي لا يفسّر انسحابنا من كتلة الائتلاف بشكل خاطئ، وفي الوقت نفسه نؤكد أننا مع الاتجاه الوطني العراقي».
جدولة الانسحاب
وعلى الرغم من وجود «خلافات ميدانية» بين حزب «الفضيلة» و«التيار الصدري»، إلا أن الصدريين لم ينأوا بأنفسهم عن التيار الجبهوي الجديد، حيث أعلنت الكتلة الصدرية أنها تدرس التفاوض مع أطراف سياسية لتشكيل جبهة جديدة. وقال النائب عن التيار، ناصر الساعدي «إن هناك مداولات ومناقشات في ما يخص تشكيل هذه الجبهة مع بعض الأطراف السياسية، ومنها حزب الفضيلة وأحزاب أخرى من طوائف وقوميات متعددة». وأضاف: «إن التيار الصدري يرفض تجاهل الحكومة لمطالب الشعب بجدولة انسحاب القوات الأجنبية، وكذلك عدم التزامها بتعهداتها مع التيار، وخصوصاً في ما يتعلق بالخطة الأمنية والخدمات».
الحوار الوطني
وأيد رئيس الجبهة العراقية للحوار الوطني صالح المطلك انبثاق جبهة جديدة «تعمل على تغيير مسار العملية السياسية وتخلص الشعب مما يعانيه». وقال إن الجبهة العراقية للحوار الوطني «ستنضم إلى هذه الجبهة ما دامت توجهاتها مع التوجهات الوطنية وبعيدة عن الاصطفافات الطائفية، وتسعى بالتالي إلى تغيير مسار العملية السياسية التي بنيت على أساس خاطئ». وأضاف: «إن الجبهة كانت تسعى منذ البداية لإقامة جبهة للإنقاذ الوطني تضم جميع الطوائف والشرائح التي يتكوّن منها الشعب العراقي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والعمل على إيجاد عراق يضم كل الأطراف السياسية التي لا تهدف من وراء تشكيل هذه الجبهة إلى منافع شخصية، بل تغليب المصلحة الوطنية أولاً».
أما عضو مجلس النواب عن جبهة التوافق العراقية عبد مطلك الجبوري فقال، من جهته، إن «الجبهة الجديدة المقرر تشكيلها من بعض الأطراف السياسية، إذا لم تتحدث باسم العراق وتطلعاته التحررية فلن يكتب لها النجاح». وأضاف: «إننا نريد أن تكون هذه الجبهة الجديدة بعيدة عن التوجهات الطائفية والمنافع الشخصية لكي لا يكون بناؤها على أساس خاطئ، كما حصل في الماضي من جهة، وتستطيع أن تخدم الشعب العراقي بأكمله من جهة أخرى». ودعا المشاركين الذين يعملون على تشكيل هذه الجبهة إلى «أن يكونوا بعيدين عن الإملاءات الخارجية، وأن تكون إملاءاتها نابعة من صميم الشعب لكي تكون هذه الجبهة جبهة وطنية بالشكل الصحيح».
عدم وضوح الرؤية
وبحسب المحلل السياسسي حميد عبد الله، فإن التكتل الجديد «يمثل ردة فعل، وليس فعلاً، وهو يفتقر إلى برنامج سياسي واقتصادي واضح المعالم، وسبب ذلك هو أن الحديث عن أية برامج يعد ضرباً من الخيال مع الفوضى الأمنية المستشرية، ومثال ذلك ما جدوى وجود أو عدم وجود قانون اجتثاث البعث، إذا كان من تثبت براءته قضائياً يقتل في الشارع بلا مساءلة، وما جدوى إعادة ضباط الجيش السابق إذا كانوا يقتلون فور التحاقهم بالوحدات التي ينسبون إليها، وغير ذلك من أمور شريعة الغاب؟».
ويضيف عبد الله: «إن الأولوية الآن هي لإلغاء المحاصصة الطائفية ووقف دوامة العنف، وإعادة الخدمات، ومعالجة الأزمة المعيشية المرتبطة أساساً بالمحاصصة الطائفية والعنف الدموي، وبالتالي يمكن الحديث عن برامج سياسية واقتصادية. أي إن مشروع الإنقاذ المطروح حالياً يعتمد أساس ردة الفعل».
الأكراد
ويبقى الطرف الأصعب في المعادلة هو الطرف الكردي الذي تربطه «علاقات تاريخية» مع التيار الديموقراطي الليبرالي، بينما تحكمه مصالح خاصة وعلاقات سياسية مع أطراف أخرى داخلية وإقليمية ودولية.
إلا أن موقع «الاتحاد الوطني الكردستاني» نقل عن مصدر كردي اعتقاده «بإعادة إحياء مشروع جبهة سياسية تضم بعض القوى العراقية المعتدلة، كان الرئيس جلال الطالباني قد طرح فكرتها قبل أشهر، لكنها واجهت عقبات كبيرة في حينه، حيث رأى مراقبون أنها ستقوض التحالفات السياسية القائمة في العراق».
وقال المصدر إن «الفكرة تبحث الآن وراء الكواليس، وبعيداً عن الأضواء الإعلامية حتى لا تتعرض ثانية لانتكاسة كما حصل في المرة السابقة».
وعلى الرغم من أن أرقام المقاعد البرلمانية لها مؤشراتها ومدلولاتها، إلا أنها تبقى في الكثير من الحالات عرضة للمتغيرات، وفق الآراء الشخصية الفئوية داخل الكتلة الواحدة. ومع ذلك من المفيد التذكير بأن «التيار الصدري» يمتلك 30 مقعداً في البرلمان العراقي المكون من 275 مقعداً، بينما تمتلك «القائمة العراقية» 25 مقعداً، وحزب الفضيلة 15 مقعداً، و«جبهة التوافق» 44 مقعداً، و«جبهة الحوار» 15 مقعداً، و«كتلة المصالحة والتحرير» 5 مقاعد، و«التحالف الكردستاني» 56 مقعداً، ما يجعل الأكراد بمثابة «بيضة القبّان» في أي تحرك سياسي، إلا إذا حصلت انقسامات داخل الكتلة الكردستانية، وهذا أمر غير مستبعد.
ولعل من ظواهر ذلك انعدام الاتصالات الهاتفية مثلاً بين أربيل والسليمانية، وغلق الفضاءات حتى في مجال استخدام الهاتف النقال، والخلافات على تقسيم الموارد المالية، وإدارة الموجود منها، فضلاً عن الخلافات السياسية التاريخية الضاربة في العمق، والتشعب العرقي للأكراد (البهدينانيين والسورانيين والفيليين)، وكذلك تبلور تيار ديموقراطي يحاول أن ينأى عن الطائفية الداخلية، ويحث على العودة إلى الاتفاق مع القوى الديموقراطية العراقية الأخرى.