موسكو ــ حبيب فوعاني
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تقاطع كل شيء في بحر قزوين، كما يسمّى حالياً، مع ظهور دول جديدة مستقلة في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز واكتشاف حقول النفط والغاز الرسوبية الواعدة، وسعي الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وإيران وتركيا إلى توسيع نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري في هذه المنطقة الاستراتيجية الهامة


الاتفاق، الذي توصّل إليه في 12 أيار الجاري رؤساء روسيا وكازاخستان وتركمانستان وأوزبكستان على بناء خط عام لنقل الغاز إلى أوروبا عبر روسيا وعلى سواحل بحر قزوين، ومحاولة زعماء بولونيا وأوكرانيا وجورجيا وليتوانيا وأذربيجان في اليوم التالي تكوين تحالف طاقة خاص بها ومستقل عن موسكو، قد أعادا انتباه المجتمع الدولي من جديد إلى أكبر مسطح مائي مغلق في العالم، الذي تبلغ مساحته نحو 370 ألف كيلومتر مربع، والذي يتحول من جديد إلى سبب للشقاق الجيو ـــــ سياسي.
الطاقة
اكتشِف في بحر قزوين 20 حقل نفط وغاز و250 قطاعاً رسوبياً نفطياً واعداً. لكن الخبراء يقدّرون نسبة النفط بالأحجام التجارية فيها بـ12 ـــــ 15 في المئة. وتبلغ كمية موارد الحقول النفطية المؤكدة 24 ـــــ 26 مليار طن. وإذا قارنّا مخزون بحر قزوين المؤكد من النفط بالاحتياطي العالمي، الذي يبلغ من 270 إلى 400 مليار طن، فتبلغ نسبة احتياطي منطقة بحر قزوين نحو 10 في المئة منه. ويبلغ حجم مخزون الغاز الطبيعي المؤكد فيها نحو 8300 مليار متر مكعب.
وبحسب المختصين الروس، تفوق تقديرات الخبراء الغربيين لاحتياطي الخامات الهيدروكوربونية المكتشف مرات عديدة الأرقام الواقعية، وخصوصاً بالنسبة إلى تقدير حجم احتياطي النفط والغاز في القطاع الأذربيجاني من البحر؛ فمثلاً تفوق تقديرات الخبراء الأميركيين لموارد باكو الهيدروكوربونية بأربع مرات تقديرات زملائهم الروس. وسبب التباين واضح، فالدول المطلة على بحر قزوين تبالغ بتقدير حجم احتياطيها لاجتذاب المستثمرين الأجانب. لكن ذلك مفيد أيضاً للدول المنافسة لروسيا على الصعيد الجيو ــــــ سياسي، لأنه يسمح بالتأثير على سياسة دول حوض بحر قزوين من خلال المستثمرين الأجانب.
ومع ذلك، فليس عبثاً وصف بحر قزوين بأنه «الخليج العربي الثاني»، إذ إن حجم استخراج النفط فيه يساوي مجمل حجم النفط المستخرج من إيران والكويت.
وتشرف الشركات الروسية في بحر قزوين على استخراج 10 في المئة من النفط ونحو 8 في المئة من الغاز. وتوجد أكبر ثلاثة مشاريع نفطية في كازاخستان وأذربيجان. وفي كل من هذه المشاريع، تشارك الشركات النفطية الغربية الكبرى عن طريق المساهمة. ولم يُدرس احتياطي النفط المحتمل في تركمانستان ومنطقة الساحل في بحر قزوين. ولا يمكن تطويره بسبب الخلاف بين تركمانستان وأذربيجان وإيران على رسم حدود الجزء الجنوبي من البحر.
ومن المتوقع أن تحتل كازاخستان حتى عام 2012 المرتبة الأولى في استخراج النفط في هذه المنطقة، أي بنسبة 55 في المئة تقريباً، والمرتبة الثانية ستحتلها أذربيجان 32 في المئة، أما روسيا وتركمانستان فسيبلغ مجمل نصيبيهما 13 في المئة.
وليس غريباً أن واشنطن تنوي لدى تنفيذ ما يسمّى «مبادرة هيوستون» استثمار مبلغ ضخم يبلغ 200 مليار دولار في صناعات خامات كازاخستان خلال 10 سنوات. وإذا كان النفط والغاز يعدّان ثروة طبيعية استراتيجية لدول حوض بحر قزوين، فهما مهمان لموسكو في الوقت الحاضر فقط من الناحية الإقليمية. والمشترون الأساسيون للنفط الروسي يوجدون في أوروبا، حيث لا يختلط النفط والغاز من بحر قزوين بالصادرات الروسية المستخرجة في شرق سيبيريا وأقصى الشمال الروسي والمرسلة إلى أوروبا.
من هنا الجهود الروسية لبناء شبكة الأنابيب في قاع بحر البلطيق وتوسيع التوريدات الروسية عبر الجنوب إلى تركيا وعبر بلغاريا إلى اليونان. ولكن الاتفاق على بدء بناء أنابيب النفط عبر سواحل بحر قزوين يؤكد بدء اهتمام الكرملين الكبير ببحر قزوين.
ويبدو أن روسيا لا تريد الآن الحفاظ على مواقعها وحسب، بل توسيعها، حيث يتطابق اهتمام الكرملين الاستراتيجي بتطوير الحقول الجديدة مع مصلحتها القومية في محاولة تطوير علاقات اقتصادية ثابتة مع دول جنوب القوقاز (أذربيجان وأرمينيا وجورجيا ودول آسيا الوسطى مثل كازاخستان وتركمانستان)، وكذلك مع إيران.
3 وجهات نظر
إن ظهور خمس دول مستقلة على خريطة بحر قزوين في نهاية القرن الماضي (روسيا وكازاخستان وتركمانستان وأذربيجان وإيران)، بدلاً من إيران والاتحاد السوفياتي، وضع أمام هذه الدول مشكلة تحديد وضع البحر ـــ البحيرة، التي توجد بالنسبة إليها ثلاث وجهات نظر:
الأولى: وجهة النظر الإيرانية، التي ترى أنّ بحر قزوين بحر لا يمكن تقسيمه إلى قطاعات، وتقترح أن يتم استغلال جميع موارده بشكل جماعي من جانب الدول المطلة عليه.
الثانية: فكرة البحيرة المغلقة، التي تؤيدها أذربيجان، وبالتالي يمكن بنظرها تقسيم البحر بين الدول طبقاً لطول سواحل كل دولة مطلة عليه.
الثالثة: وتؤيدها كازاخستان وهي تقوم على الفصل بين قاع البحر وسطح الماء فيه. ووفقاً لها، يعدّ بحر قزوين بحيرة في ما يتعلق بموارده الدفينة، بينما تتعاون الدول المطلة عليه في قضايا الملاحة ومكافحة التلوث.
وقبل انهيار الاتحاد السوفياتي كانت العلاقات القانونية تعتمد على اتفاقيتين مع إيران (اتفاقية بين روسيا الاتحادية وفارس عام 1921 واتفاقية التجارة والملاحة بين الاتحاد السوفياتي وإيران عام 1970). وقد ثبتتا وضع «البحر المغلق» أمام سفن الدول الثالثة. غير أنه لا تزال المفاوضات لتغيير هذا الوضع بدءاً بتسعينات القرن الماضي تراوح مكانها حتى الآن.
وقد وقّعت روسيا وكازاخستان وأذربيجان اتفاقية في شأن رسم حدود قاع البحر. وعند إبرام هذه الدول للاتفاقية الثلاثية في أيار 2003، تم اقتسام 64 في المئة من قاعه. ووفقاً لهذه الاتفاقية، يعود 27 في المئة منه إلى كازاخستان و19 في المئة إلى روسيا و18 في المئة إلى أذربيجان. وموقّعو الاتفاقية الشمالية مستعدون لإعطاء طهران الجزء، الذي كان عائداً إليها قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، أي 14 في المئة من الجرف، لكن طهران تطمح للحصول على 20 في المئة منه، وتصر على نقل الحدود مسافة 80 كيلومتراً إلى الشمال من الخط، الذي كانت تمر عبره حدود الاتحاد السوفياتي. وفي هذه الحالة، تستطيع إيران المطالبة بالحقول النفطية «آلوف» و«أراز» و«شارغ»، التي يستغلها تكتل خاص بموجب اتفاقية مع أذربيجان.
وقد نال الموقف الإيراني مساندة تركمانستان، التي تجاهلتها دول التحالف الشمالي عند توقيع الاتفاقية المنفصلة. وتـُنازِع تركمانستان أذربيجان على حقها في حقول «شارغ» و«شيراغ» و«آذِري». وفي الوقت نفسه، تتخوف تركمانستان من المطالبات الإيرانية باحتياطها من الغاز. وهي تتخذ موقفاً وسطياً، فمن ناحية تساند عشق آباد طهران ولكنها تريد إنشاء منطقة لمياهها الإقليمية تمتد إلى 15 ميلاً من الشاطئ وتفرض عليها سيادتها الوطنية و35 ميلاً كمنطقة خاصة بها لصيد الأسماك.
ومع أن موقف أذربيجان قريب من موقف روسيا وكازاخستان في شأن تقاسم قاع البحر، إلا أنها تقترح رسم حدود المجالين المائي والجوي، التي يجب إقامة السيادة القومية عليهما. وفي الوقت نفسه، ترى باكو أن مد خطوط الأنابيب في قاع البحر هو من صلاحيات الدولة، التي يمر الأنبوب عبر الجزء العائد إليها.
أما إيران فتقترح تقسيم بحر قزوين بنسبة 20 في المئة لكل من الدول الخمس في المنطقة، وكذلك استخدام البحر للأغراض المشتركة على قاعدة المشاركة في السيادة، وإنشاء منظمة للدول المطلة على البحر، التي ستقوم باستغلال موارده وتوزيع أرباحها بالتساوي.
بيد أن مشكلة تقاسم بحر قزوين تتوقف الآن على مدى القدرة على إيجاد باكو وطهران للغة مشتركة مع الزعيم التركمانستاني الجديد قربان أوغلي بردي محمدوف واستعداد الأخير للقبول بحل وسط، وكذلك على ماهية الشروط، التي سيوقع اتفاقية تحديد المناطق الحدودية للبحر على أساسها.
ويعود إنشاء شبكة باكو ــــــ تبيليسي ــــــ جيهان (أذربيجان ــــــ جورجيا ــــــ تركيا)، التي تبلغ طاقتها أكثر من مليون برميل يومياً، إلى حسابات واعتبارات سياسية أكثر منها اقتصادية، كما يعتقد الخبراء الروس، ومستقبلها محفوف بمخاطر الخسارة. وكذلك خط الأنابيب الشمالي باكو ــــــ نوفوروسيسك (أذربيجان ــــــ روسيا)، الذي تبلغ طاقته 100 ألف برميل يومياً، والغربي باكو ــــــ سوبسا (أذربيجان ــــــ جورجيا)، الذي تبلغ طاقته 115 برميلاً.
وقد وُقِّعت أخيراً اتفاقية بين أذربيجان وكازاخستان لنقل 10 ملايين طن (733 مليون برميل) من النفط الكازاخستاني إلى باكو بواسطة البارجات سنوياً. ويوجد أيضاً أنبوب أتيرو ــــــ سمارا، الذي يبدأ في كازاخستان وينتهي على نهر الفولغا في روسيا، وتبلغ طاقته 300 ألف برميل في اليوم، لكن روسيا تعهدت زيادة حجم استيعابه إلى 500 ألف برميل.
ولتوريد النفط إلى الصين، يجري مد الأنبوب الكازاخستاني ــــــ الصيني، الذي يربط جزؤه الأول حقول النفط الكازاخستانية «أكتوبي» بالمركز النفطي الكازاخستاني «أطيباتو»، الذي أصبح جاهزاً الآن. أما الجزء الثاني، الذي يُبنى الآن فسيمر عبر «أتاسو» (شمال ــــــ جنوبي كازاخستان) إلى «ألاشكانوف» (سينزيان، الصين) وستبلغ تكاليفه 850 مليون دولار، وستبلغ طاقته الأولية 200 ألف برميل في اليوم، والقصوى 400 ألف.
وقد وقّعت حكومات تركمانستان وأفغانستان وباكستان في عام 1997 مذكرة تفاهم بشأن العزم على بناء خط أنابيب آسيا الوسطى، الذي سيضخ النفط الأوزبكستاني والتركمانستاني إلى ميناء غوادار الباكستاني الاستراتيجي على بحر العرب، ربما للحد من استعادة روسيا لنفوذها في المنطقة، ولحرمان إيران المزيد من الثروات، وللتنويع الأميركي في مسارات خطوط الأنابيب. غير أن هذا المشروع قد أُجّل بسبب الوضع الذي لا يزال مضطرباً في أفغانستان.
وبشكل عام، فإن بناء الجزء الأكبر من شبكات خطوط الأنابيب في بحر قزوين إما أنه كان يتخطى الأراضي الروسية أو أنه يمر في الاتجاه الجنوبي خارجها. لذلك ليس صدفة أن اتفاق الكرملين الأخير مع عشق آباد وأستانة وطشقند حول بناء خط أنابيب بموازاة بحر قزوين، الذي سيمتد إلى أوروبا الغربية عبر روسيا، أثار ردة فعل عنيفة في الغرب، لفشل الأخير في إزاحة روسيا بعيداً عن مكامن الثروات الهيدروكربونية في هذه المنطقة. وذلك بالطبع لا يروق الكثيرين في أوروبا والغرب.
الاستراتيجيّة الأميركيّة
إن الصراع على بحر قزوين ليس قانونياً وحسب، بل اقتصادي وسياسي، ويمكن الافتراض أن خط السياسة الخارجية الأميركية في منطقة بحر قزوين في السنوات المقبلة سيهدف إلى حل مهمات عديدة، بينها تهيئة ظروفٍ، لا تستطيع روسيا حيالها التحكم بتطوير مختلف المسارات وتوجيهها بشكل يضر بمصالح واشنطن، ومن بينها تأمين وصول البيزنس الأميركي إلى موارد بحر قزوين من الطاقة، ولا سيما لعدم الثقة في استقرار مصادرها في الشرق الأوسط.
وستحرص الولايات المتحدة على استخدام الجو السياسي ــــــ العسكري الملائم، الذي تكوّن بعد حربها على أفغانستان، لتوسيع حضورها في آسيا الوسطى، والحصول على مواقع جديدة من البنيات التحتية العسكرية المحلية فيها لنشر منظومة الدفاع المضادة للصواريخ على أراضي أذربيجان وجورجيا. وإضافة إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وتركيا في منطقة بحر قزوين، يلاحَظ وجود ألمانيا والصين والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة واليابان.
«حارس البحر»
إن النزاع الجورجي ــــــ الأوسيتي (1991ــــــ1992) والجورجي ــــــ الأبخازي (1992ــــــ1993)والنزاع بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم ناغورني قره باغ، والاشتباكات في الشيشان وشمال القوقاز، وتوتر العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران بالقرب من العراق، كل ذلك، إضافة إلى مصالح الطاقة للدول المختلفة يجذب إلى منطقة بحر قزوين انتباه القوى العالمية مثل حلف شمال الأطلسي ومعاهدة الدفاع الجماعي لرابطة الدول المستقلة وغيرها من المنظمات والأحلاف العسكرية ــــــ السياسية.
ومن المفهوم سعي واشنطن لتقوية نفوذها في هذه المنطقة. ويعود سبب ذلك بشكل كبير إلى السعي لضمان أمن ممر نقل أنبوب باكو ــــــ تبيليسي ــــــ جيهان، وتقوية وجودها العسكري في منطقة بحر قزوين وامتلاك قواعد إمداد بالوقود في حالة اختيار الحل العسكري للمشكلة الإيرانية، رغم أن واشنطن في الأيام الأخيرة تحرص على الصمت حول هذا الخيار.
بيد أن السفير الأميركي في أذربيجان رينو هارنِش صرح في مقابلة مع وكالة الصحافة الفرنسية بأن «واشنطن صرفت 30 مليون دولار لتحسين حراسة شواطئ أذربيجان. والآن تنوي إنفاق 135 مليون دولار في إطار برنامج حارس بحر قزوين، الذي ينظر تحسين حالة القوات البحرية لكلٍّ من أذربيجان وكازاخستان».
وبحسب الوكالة، فقد شيدت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) مواقع قيادة ومحطتي رادار في أذربيجان. إضافة إلى ذلك، وفي إطار خطة الشراكة بين باكو وبروكسيل ستجهَّز القوات البحرية الأذربيجانية وحرس الحدود فيها بأحدث التقنيات العسكرية.
وجوهر برنامج «حارس بحر قزوين» يتلخص في إنشاء نظام تكاملي للسيطرة على حدود أذربيجان وكازاخستان في الجو والمياه واليابسة والتعامل بسرعة عند نشوء حالات طارئة، بما في ذلك أخطار هجوم الإرهابيين على المنشآت النفطية. بينما تحاول واشنطن في حقيقة الأمر الاحتياط وتطويق البنية التحتية العسكرية الإيرانية.
ماذا عن روسيا؟
ترغب روسيا بالطبع بتحجيم نفوذ الولايات المتحدة في هذه المنطقة الملاصقة مباشرة لمقاطعات روسيا الوسطى ــــــ الأورال والفولغا. وترتاب موسكو، وربما كانت محقة في ذلك، في أن خطط «حارس بحر قزوين» ليست موجهة فقط إلى إيران، بل إلى المصالح القومية الروسية.
إن تحقيق الأفكار الأميركية يعرِّض مقدرة روسيا الدفاعية للأخطار، حيث إن بحر قزوين كان دائماً مجالاً لنفوذها. في حين أن ظهور البنيات العسكرية الأميركية الغريبة تحت تأثير الضغوط المتواصلة على الدول الفتية في هذا البحر الداخلي هو تهديد لسيادة هذه الدول وأمنها.