strong>باريس ــ بسّام الطيارة
تمدُّد «القاعدة» في أفريقيا، بات الشغل الشاغل لأجهزة الاستخبارات الغربية، حتى قبل تفجيرات اليومين الماضيين في المغرب والجزائر، والتي تأتي لتأكيد أن هذه المجموعة وصلت إلى مرحلة متطوّرة قد تكون قادرة من خلالها على تنفيذ عمليات في قلب أوروبا

في مطلع شهر شباط الماضي، أعلن وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس إنشاء قيادة عسكرية لمنطقة أفريقيا لـ«الإشراف على عمليات محاربة الإرهاب» التي يقوم بها الجيش الأميركي في المنطقة، على أن يطلق عليها اسم «بي أس آي» (Pan Sahel Initiative).
وأكد هذا الإعلان ما كانت تتداوله همساً الوسائل الإعلامية من أن حرباً ضارية غير معلنة تقودها الولايات المتحدة في شمال أفريقيا وفي بلاد الساحل الأفريقي ضد تنظيم «القاعدة» تمتد من آسيا إلى أفريقيا.
من هنا يأتي التساؤل عن مكان نشاط تنظيم «القاعدة»، وبالتالي مناطق الصراعات الدائرة في ما بات يسمى «الحرب على الإرهاب».
من المعلوم أن تنظيم «القاعدة» «يحتل» جنوب أفغانستان وبلوشستان ومنطقة وزيرستان الحدودية في باكستان، ويتحدث البعض عن الصومال، وآخرون عن مناطق نائية في إندونيسيا تنشط فيها خلايا تدين بالولاء لأسامة بن لادن. لكن كيف يمكن رسم صورة كاملة لما يسمى شبكة «القاعدة» من دون الحديث عما يدور في الصحراء الكبرى بين دول المغرب العربي وبلاد الساحل الأفريقي؟
بعيداً عن الإعلام، تدور كثير من المناورات حول مصير منطقة الساحل، وتعقد الاجتماعات حول ما بات يسمى «هلال الإرهاب في الساحل»، وهو نشاط لجماعات مسلحة وقريبة من طروحات أسامة بن لادن يمتد من شواطئ الأطلسي على رمال موريتانيا حتى داخل الحدود المصرية، مخترقاً المغرب والجزائر وتونس وليبيا شمالاً. بينما تنشط هذه الجماعات جنوباً حتى حدود الطوق «الأفريقي الأسود»، أي تشاد والنيجر ومالي، وصولاً إلى السنغال غرباً وداخل دارفور في السودان شرقاً. ويقال إن لها امتدادات عبر أوغندا نحو كينيا وبالتالي الصومال.
وتحرص سلطات هذه الدول على إبقاء نشاط هذه الفرق «الإرهابية» الجهادية طي الكتمان، حرصاً على عدم كشف تعاونها مع واشنطن في حربها على الإرهاب، وحتى لا ترتبط صورة هذا التعاون بما تقوم به الولايات المتحدة في مناطق أخرى تحت هذا الشعار.
لكن في بعض الأحيان يصعب إخفاء المعلومات، وهو ما حصل في نهاية الأسبوع الماضي في محافظة بجاية على بعد ٢٥٠ كيلومتراً شرقي العاصمة الجزائرية، حيث دارت معارك عنيفة في جبال أميزور بين هذه الجماعة والجيش الجزائري، الذي جند ما يزيد على عشرة آلاف جندي، واستعان بالمروحيات للقضاء على بضع عشرات من المقاتلين (٢٤ قتيلاً و٨٣ أسيراً حسب آخر المعلومات) في محاولة للقبض على أمير التنظيم عبد المالك درودكال المعروف باسم «أبو مصعب عبد الودود»، الذي حكم عليه غيابياً قبل أسبوع من شن الحملة العسكرية.
كما بدأت تظهر جماعات سلفية في كل من المغرب «الجماعة المغربية الإسلامية المقاتلة» وليبيا «الجماعة الليبية المقاتلة»، إلى «الجماعة السلفية للدعوة والجهاد» الجزائرية، وهي جماعات سرية مناوئة للحكومات القائمة، وأعلنت حرباً على الغرب وما يمثّله، مثل الحركات السلفية المجاهدة.
وفي غياب معالم لمدى تغلغل «القاعدة» عبر هذه الجماعات في هذه المنطقة القريبة من أوروبا، تظلّ المصادر الاستخبارية، التي تختبئ وراء تسمية «خبراء في شؤون الإرهاب»، الأفضل في تسليط الأضواء على وجود هذا التنظيم داخل حزام الصحراء.
«نعرف أين يوجد تنظيم القاعدة، لكن ما لا نعرفه هو: أين لا يوجد؟» بهذا يختصر خبير في الإرهاب لـ«الأخبار» المعضلة الكبرى التي تواجه «شرطة العالم». ويتابع: «المشكلة أننا بتنا نجد القاعدة حيث نعتقد أنها غير موجودة».
المتحدث، الذي فضّل عدم نشر اسمه، هو من كبار الخبراء في شؤون الإرهاب حالياً، وعمل سابقاً مسؤولاً تنفيذياً في أحد أكبر أجهزة الاستخبارات الغربية، وهو مثله مثل كثيرين من الخبراء رأى بعد غزو أفغانستان أن «القاعدة» في طريق الانهيار، بعدما فقد التنظيم «معقله الرئيسي في جبال تورا بورا». إلا أن الأيام أظهرت خطأ هذا الاعتقاد وبيّنت أن «القاعدة» نوع من «ركام خليط» أقرب إلى السديم منه إلى التنظيم الهرمي المنسق، وهو متغلغل في كل مكان، من دون أن يكون له وجود بالمعنى العسكري.
ومنذ أن أفاق الخبراء على هذه الحقيقة، بات الاعتراف بأن «نهاية الحرب على الإرهاب» بعيدة المنال، أمر لا مفر له. وفيما يصف البعض هذه الحرب الجديدة بأنها «حرب المئة عام» لم يتردد رئيس تحرير «لوموند ديبلوماتيك» ألان غريش من الحديث عن «حرب الألف عاملكن رغم انكشاف هذه الصعوبات، التي تجاهلها السياسيون والخبراء وظهور أبعاد جديدة للحرب التي أعلنتها «القاعدة» على العالم الغربي، إلا أن هذا لا يمنع الدوائر المختصة من «وضع خرائط أساسية لوجود القاعدة» في شتى أنحاء العالم.
ويقول الخبير نفسه إن «اليقين من خطر القاعدة الحاضر دائماً» أتى بعد أيام من اكتشاف مخطط لتفجير اثنتي عشرة طائرة في الجو في السنة الماضية. ويتابع: «قبل هذا الاكتشاف، كنا نظن أننا انتصرنا على الإرهاب»، ويشير إلى أن عديد من الصحف كتبت في هذا الاتجاه.
وكان جيمس فالو من مجلة «أتلانتيك مورنينغ» الأميركية المعروفة برصانتها قد كتب السنة الماضية ما يمكن تلخيصه بأن «القاعدة اقترفت الكثير من الأخطاء، وأن الولايات المتحدة قامت بجهود كثيرة على كل المستويات التقنية والاستخبارية والعسكرية، بشكل يجعل خطر مقدرة القاعدة على إيقاع الأذى بأميركا شبه معدوم»، لينتهي به القول إلى «أن خطر القاعدة قد زال». إلا أن اكتشاف المخطط الكبير لإسقاط الطائرات أزال هذه الأوهام، إن وجدت لدى البعض، وأعاد الجميع إلى هاجس «الأسئلة الكبرى» التي يشرحها الخبير في الإرهاب بأنها ثلاثة:
١ ــــــ متى يفلت فريق إرهابي من شباك المراقبة وينجح في تنفيذ مخطط من الحجم الكبير؟
٢ــــــ في هذه الحالة، أين تكون الضربة المقبلة؟
٣ــــــ أين توجد الشبكات التي تحضّر لوجستية عمليات كبيرة كهذه وتؤمن تمويلها والتدريب عليه؟
وتعمل جميع أجهزة الاستخبارات في العالم على إيجاد أجوبة عن هذه الأسئلة، ورغم كل هذا لا يزال الغموض يلف تنظيم «القاعدة». ويقول البعض إن هذا يعود إلى نوعية التشكيلة الضبابية للتنظيم، ويفسرون بأن الانتماء إليه هو «نوع من اعتناق العنف الديني كوسيلة سياسية رفضية» من دون أي ضرورة للتنسيق على أصعد مختلفة جغرافياً أو سياسياً.
لكن هذا لا يمنع وجود أكثر من قاعدة لـ«القاعدة» في مناطق متفرقة من العالم الشاسع تتمركز فيها ركائز قوى لوجستية وتنظيمية وتؤسس لمراكز تدريب واجتماعات على مختلف المستويات القيادية.
وتسعى الولايات المتحدة، وفي سياقها أجهزة استخبارات، ومعها ما يزيد على 120 دولة لمعرفة أماكن هذه البؤر وتنظيفها. ويفسّر أحد الخبراء بالقول: «نعمل على محاصرتها لصرفها نحو مصيدة السجن أو قتلها حيث توجد في عقر دارها». إذ إنه، كما يقول العسكريون، لا يتم ربح الحرب على الإرهاب في الغرف المغلقة ولا في مطاردة الأموال لتجفيف تمويل القاعدة، بل على الأرض مثل كل الحروب «حيث يضع المقاتل عينه في عين عدوه ليقتل أحدهما الآخر».
وقد رأى الأميركيون في السابق أن الحرب يمكن أن تربح عبر «محاصرة مالية» وبعض الضربات العسكرية «المبضعية» بواسطة سلاح الطيران، فقصفت مراكز وقواعد أصابت في بعضها قواعد للقاعدة وأخطأت في بعضها الآخر في السودان واليمن وفي أفغانستان في بداية الحرب، إلى أن أدركت واشنطن وجوب «النزول على الأرض».
وهذا ما يفسر هذه الحرب الصامتة في جنوب أفغانستان وعدد القتلى المرتفع بتزايد في صفوف مقاتلي التحالف الغربي الذي تسلم الحلف الأطلسي قيادته. إلا أن شبكة «وحوش منظمة القاعدة» تتجاوز الحرب في أفغانستان والعراق وبعض مناطق آسيا الوسطى التي يأتي الإعلام بأخبارها من فترة لأخرى.
فالجيش الأميركي موجود في سياق «الحرب على الإرهاب» في مناطق كثيرة حول العالم يقود فيها «حروباً غير معلنة»، ولعل أقربها إلى مناطق «الحرب المعلنة» في العراق وأفغانستان وجوده في اليمن.
ويروي الخبير أن أول عملية «اقتناص» في حرب واشنطن على الإرهاب تمت في اليمن وتعود إلى نهاية عام ٢٠٠٢، عندما أطلقت طائرة من دون طيار من نوع «بريداتور» صاروخ «هاليفاير» على سيارة رباعية الدفع في منطقة النقعة شمال شرق صنعاء فقتلت علي كايد الحرثي وخمسة من مرافقيه. وقد تكتمت في حينه السلطات على العملية.
كما أن الصومال كان ولا يزال ساحة لحرب غير معلنة بين واشنطن وعناصر مرتبطة بـ«القاعدة». وقد كشفت صحيفة «واشنطن بوست» أخيراً أن «عناصر من السي أي إيه استجوبت المئات من اللاجئين الذين هربوا إلى كينيا بعد سقوط المحاكم الإسلامية». كما لم تخف أديس أبابا أن دخولها الحرب إلى جانب الحكومة المؤقتة هو من ضمن «الحملة العالمية على الإرهاب» ولم تتوان عن التصريح بأن لديها «معلومات مؤكدة عن وجود عناصر للقاعدة بين مقاتلي قوات المحاكم».
وقد لاحظ بعض الخبراء في شؤون الإرهاب «أن القاعدة يوجد ويقوم بنشاطه الخلفي»، أي قبل الانطلاق في عمليات في الدول الغربية، في مناطق فيها «تشابه من الناحية الجغرافية». فالمجموعات التي تدّعي الانتساب إلى القاعدة، أو تتهم بذلك، نجدها دائماً في مناطق صحراوية قاحلة يصعب الوصول إليها من جهة، وتقطنها مجموعات سكانية لها عادات قاسية تُجاري قساوة حياة هذه المناطق من جهة أخرى. كما أن سكان هذه البقاع لهم تقاليد ضيافة وعلاقات قبلية مع صلات دم قوية تجعل دخول الغرباء في نسيجها من الأمور الصعبة ويفضح كل متطفل.
ويقول الخبير في الشؤون الإرهابية إنه انطلاقاً من المناطق التي «أعلن القاعدة» وجوده فيها (أفغانستان، بلوشستان، وزيرستان، الصحراء الصومالية الجنوبية) فإن دراسات معمقة لطبيعة المناطق وطبيعة العلاقات البشرية المتحكمة بسكانها، وصلت إلى نتيجة خلاصتها أنه يجب البحث عن القاعدة في المناطق المشابهة في الدول الإسلامية. وجاء «انطلاق القاعدة في بلاد الرافدين» وظهور أبو مصعب الزرقاوي في العراق ليؤكد هذه النظرية.
وكانت عودة جموع من قدماء الجهاد في أفغانستان ضد السوفيات «مؤهبة للحرب الأهلية الجزائرية، وهي حرب لم تنته كما يتبادر لنا، لكنها تأخذ أشكالاً جديدة»، فانطفاء شعلتها بدأ بـ«الابتعاد عن الإعلام».
ويقول رجل أعمال فرنسي يعمل في الجزائر «إن هذه الحرب غريبة، فهي تحصل يومياً، لكنها غائبة عنا»، فهي غير مسموعة وغير مرئية، إلا حين تكون الضحية من العمال والخبراء الأجانب أو تصيب شظايا معاركها «المخيمات المقفلة، التي تسمى مناطق المنفعة الاقتصادية» والمحظورة على السكان المحليين.
وتشارك القوات الأميركية بقوة في «حرب الصحراء غير المعلنة»؛ فمنذ عام ٢٠٠٤، بدأت مهمة «فلينت لوك» لتدريب القوات الأفريقية على التعاون مع القوات الأميركية، وطلب مساعدتها عند اللزوم. وقد قامت القوات الأميركية بعمليات عديدة في المنطقة الصحراوية.
وتقول بعض المعلومات إن لواشنطن «شبكة من القواعد الخفيفة المنتشرة في الصحراء الكبرى» تطبيقاً لنظرية «حرب الشبكات»، أي أن تُشَكَّل فرق خفيفة تكون مدعومة بوسائل تقنية متطورة جداً مثل الملاحقة عبر الأقمار الاصطناعية وتتبع المشتبه فيهم بواسطة الطائرات من دون طيار والتدخل السريع في حالات معينة. والتعاون هذا بات مرتكزاً على «تعاون استخباري دائم وغير منقطع» هو حسب الخبراء أساس نجاح عملية «المبادرة الصحراوية».
ولكن كما تفضل السلطات المحلية إبقاء تعاونها في الحرب على الإرهاب بعيداً عن التناول الإعلامي، فإن المنظمات الجهادية أيضاً تعمل من دون «ضجة إعلامية»، وهذا ما يدفع الخبراء إلى القول إن وجود منظمات منتمية لـ«القاعدة» في هذه المناطق ما هو إلا «وجود مرحلي بانتظار القفز إلى مرحلة تالية». وهو الأمر الذي يخيف الدوائر المتابعة لقضايا الإرهاب.
ومما يزيد من تساؤل القيمين على ملاحقة القاعدة في المنطقة أن مجاهدي هذه المنظمات لا يسعون بتاتاً إلى «السيطرة على المناطق التي يوجدون فيها»، وكأنه يوجد اتفاق مسبق مع وجهاء القبائل وزعماء هذه المناطق على عدم التدخل في شؤونها في مقابل «تأمين حماية لهم»، بالإضافة إلى أن هذه الديار سكانها مسلمون وطبيعة حياتهم بعيدة جداً عن نمط الحياة الحديثة، وهي أقرب إلى نمط حياة المجاهدين في مخيماتهم.
ويقول أحد المتخصصين في شؤون منطقة «الساحل» الأفريقية، التي تشمل مالي والنيجر والتشاد، إن وجود القاعدة في هذه المناطق يتناغم مع «اندفاع تعريب السكان الذي كان قائماً في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين»، وما يسهّل تمركز هذه الجماعات هو التزامها مطالب بعض الأفرقاء في ما يتعلق بالقضايا الداخلية. لكن في بعض الأحيان، تنشأ نزاعات بين هؤلاء والجماعات الإسلامية مثلما حصل مع حركة الديموقراطية والعدالة التشادية التي قبضت على المدعو «عماري سيفي» الذي لاحقته القوات الأميركية عبر ٤ دول أفريقية وسلمته إلى السلطات الجزائرية عام ٢٠٠٤.
ويتفق جميع الخبراء على أن بعض التفجيرات التي تحصل بين الفترة والأخرى في بعض دول المنطقة، ما هي إلا عمليات بسيطة إما لتهديد السلطات المحلية وترهيبها أو للانتقام من بعض المسؤولين في أجهزة الأمن أو لتوجيه رسائل معينة، إذ إن وجود هذه المجموعات الجهادية يبدو كأنه نوع من «اللجوء المؤقّت» بانتظار كسب المزيد من القوة الذاتية أو للتحضير لعمليات أكبر تكون أوروبا أو الولايات المتحدة مسرحاً لها من دون أن يمنع هذا بعض الجماعات بالقيام بأعمال سطو أو نهب في مدن «بعيدة عن مناطق وجودها» لتمويل أنشطتها ودفع ما يجب عليها لزعماء المناطق التي تؤويها.
ويكمن خوف الدوائر المهتمة بمحاربة الإرهاب في أنها تجهل «سبب بقاء هذه القوى من دون أي تحرك كبير»، كأن تحاول السيطرة على مساحات شاسعة أو حتى دعم انقلاب كما حصل في أفغانستان أو الصومال.
وترى بعض هذه الدوائر أن حضوراً عسكرياً غربياً كثيفاً في تلك الدول لا يكفي لتبرير عدم قيام هذه الجماعات بعمليات كبيرة، وتتخوف من أن يكون التحضير قائماً لما اتفق جميع الخبراء على تسميته «اليوم الكبير»، أي يوم تنجح مجموعة إرهابية بالوصول إلى هدفها في أوروبا أو أميركا، والقيام بعملية شبيهة بتفجيرات نيويورك تفوق تصور أجهزة الأمن وتشكل صدمة للرأي العام الغائب والمغيب عما يحصل من حرب في حزام الصحراء.