strong>بول الأشقر
خطّ الرئيس البوليفي إيفو موراليس منذ وصوله إلى السلطة عام 2005، ملامح ما بات يطلق عليه اسم «الاشتراكية الهندية». اشتراكية تحمل في طياتها مخاطر صدامية قد تكون بوليفيا في الطريق إليها

يقول ايفو موراليس إن ولعه بكرة القدم ومهارته فيها جعلت باقي مزارعي نبتة الكوكا في منطقة شاباري يتقرّبون منه لكي يلعب في فريقهم، ما سهّل اندماجه في منطقة إقامته الجديدة.
هكذا احتل موراليس باكراً مركز أمين الرياضة في نقابتهم. قبل ذلك، في جبال أورورو قرب بحيرة بوبو، كان ابن عائلة مزارع البطاطا، وهو من مواليد عام 1959، يساعد أباه، وخصوصاً أن أربعة من أشقائه السبعة كانوا قد فارقوا الحياة. وكان الولد مولجاًً أيضاً بحراسة قطيع اللاما، الجمل الصغير والعنيد الذي يقطن جبال الأندس. أحياناً، كانت تمر شاحنات قرب الطريق وكان الولد يجمع قشور الليمون والموز التي كانت تُرمى من نوافذ الشاحنة، ويتحلى بها وهو يحلم بأن يركب فيها يوماً. حصل ذلك عام 1983، عندما قرّر الوالد بعد جفاف قضى على كل مزروعاته أن يهاجر إلى سهول وادي الشاباري.
في الشاباري، وبعد توليه منصب أمين الرياضة، إضافة إلى عمله أيضاً كعازف بوق في فرقة البلدية في كوشابامبا عاصمة الولاية، أصبح أميناً عاماً للنقابة عام 1986 ورئيساً لاتحاد نقابات مزارعي الكوكا الست عام 1996 ورئيساً للجمهورية عام 2006.
ظاهرة الكوكا
تفسير هذه الظاهرة الفريدة في أفقر بلد في أميركا الجنوبية يتطلب بعض الإضاءات:
أوّلاً، في السنة التي تلت هجرة بعض المئات من المزارعين المنكوبين إلى وديان شاباري، تمّت خصخصة قطاع المناجم التي كانت قد أممتها ثورة عام 1952، ما أدى إلى ما سميّ «إعادة تموضع» نحو 20 ألف عامل. الكثير من هؤلاء، بالآلاف، نزحوا أيضاً إلى أودية منطقة شاباري، وهو ما أدى إلى انهيار نفوذ الاتحاد العمالي البوليفي (COB) الذي كان يترأسه حُكماً عامل مناجم، والذي كان حتى السبعينات أهم لاعب سياسي في بوليفيا.
ثانياً، تحظى منطقة كوشابامبا، التي تقع في وسط بوليفيا (وبالتالي في وسط أميركا الجنوبية)، بميكرو مناخ يجعلها حالة مميزة عن أعالي الأندس التي تحيط بلاباز وعن انخفاضات سانتا كروز الاستوائية أو شبه الاستوائية، وهي لذلك أراض مقصودة لخصوبتها. إنها أيضاً إحدى المنطقتين اللتين تزرع فيهما نبتة الكوكا التي ارتبطت بثقافة الأيمارا، وإيفو من شعب الأيمارا، منذ ما قبل وصول البيض إلى القارة.
في منطقة معزولة حتى أواسط القرن العشرين، أخذت الشرطة تُتلف النبتة تباعاً منذ الستينات، لكن بعد عصر الكوكايين الذهبي في السبعينات تغيّر الوضع جذرياً، بعدما رأى الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان الحرب على المخدرات أولوية مطلقة، شيئاً مثل حرب جورج بوش اليوم على الإرهاب. وصارت منطقة شباري منطقة تتدفق عليها الأموال وتنشأ فيها الثُّكن. خططت الولايات المتحدة لحرب منهجية تخاض بكل الوسائل لاستئصالها، وسخّرت الدولة البوليفية ضد الكوكاليروس، أي مزارعي نبتة الكوكا. وفي عام 2002، قارن السفير الأميركي الكوكاليروس بالطالبان.
ثالثاً، في بلد مغطى بالنقابات من كل حدب وصوب كأنها طبيعته الثانية، تدافع النقابة الفلاحية هذه عن حقوق المنتسبين إليها، لكنها تلعب أيضاً أدواراً اجتماعية أخرى: تؤمّن تسجيل الأراضي لدى دوائر الدولة وتلعب دور «قاضي صلح» بين موجات مهاجرين أتوا إليها في مراحل مختلفة ومن مهن ومناطق مختلفة.
تفسّر هذه الاستدراكات الثلاثة الكثير في نشأة حركة الـ «أم أي أس» (MAS) وصمودها وتطورها. «وأم أي أس»، اسم حركة إيفو موراليس السياسية، ليست إلا رافداً من روافد مسار أوسع قام به بدءاً من التسعينات إيفو موراليس مع آخرين وقد أوصلهم إلى دروب مختلفة، وفي ما يخص موراليس، أوصله إلى المركز الثاني في انتخابات عام 2002 الرئاسية.
فكر «سيادة الشعب»
يعتمد فكر «الأداة السياسية لسيادة الشعب»، وهو اسم الحركة الأصلي، على إلهامات ثلاثة يُغرف منها من دون حياء عند الحاجة. الحصيلة لا ترتقي إلى مستوى العقيدة السياسية على الأقل في صفوف «أم أي أس» بسبب هذه البراغماتية التي سرعان ما ميّزت تحركات هذا التشكيل المركبة بين الاجتماعي والسياسي.
هناك أولاً الفكرة الوطنية الآتية من ثورة 1952: يُحفظ منها التناقض بين الأمة والإمبريالية، لكن الوطنية الجديدة تختلف عن سابقتها إذ لم تعد تتصور الأمة متجانسة كما كانت تحلم بها الطبقات الوسطى المدينية في الخمسينات والستينات. بعد انتعاش الفكر الهندي، صارت الأمة أو الوطنية توصف بأنها «وحدة في التنوع». وهكذا نصل إلى المصدر الثاني، الفكر الهندي: هناك إجماع على أطروحة «الاستعمار الداخلي» التي تعني أن بوليفيا المستقلة لم تعامل الهنود أفضل من الاستعمار وأنه لا بد من إعادة تأسيسها. ولكن هناك أيضاً فوارق عميقة مع الجناح الراديكالي الذي يقترح العودة إلى البنى التقليدية للتفلت من مؤسسات الدولة «الكولونيالية» ومقاطعة لعبتها وقوانينها لـ«عدم التلوث فيها». أخيراً الاشتراكية: إنها اشتراكية ما بعد الاتحاد السوفياتي، المضادة لليبرالية أكثر منها ضد الرأسمالية، حيث لا تدافع عن مصالح طبقة محددة بل عن مجموعة من المصالح الشعبية، ومهمة الأداة السياسية بعد ذلك ان ترتب التعايش بينها.
في الثمانينات، نجح «الكوكاليروس» في توسيع نفوذهم في الاتحاد النقابي الفلاحي وفي تعميم طروحاتهم، ونبتة الكوكا أحد رموزها. في التسعينات، خلال الحملة بمناسبة مرور خمسة قرون على اكتشاف القارة، التقى هنود الألتيبلانو، أي أعالي سلسلة الأندس هنود المناطق الشرقية الأمازونية. الفوارق شاسعة بين المجموعتين: الأولى أكثرية في مناطقها ولا يحاصرها أحد، وصارت تنظر إلى الدولة كعدوّتها. الثانية أقلية مهدّدة بأعداء يحاصرونها، ونزعتها هي أن ترى في الدولة طرفاً يجب حثّه إن لم يكن لنصرتها، فعلى الأقل لحمايتها.
في التسعينات، ما لا يحمل بعد اسم الـ «أم أي أس» خاض الانتخابات وحقق نتائج طيبة، وخصوصاً بعد إنشاء الانتخابات البلدية. وعام 1997، نجحت الحركة في إيصال أربعة نواب إلى مجلس النوّاب، بينهم إيفو موراليس الذي حصل على سبعين في المئة من أصوات دائرته.
صعود موراليس
«حرب الماء»، التي خيضت عام 2000 في كوشابامبا ضد شركة بيكتل، كانت أول معركة تفوز فيها الحركة الشعبية بعد عقد ونصف عقد من الهزائم المتتالية مع النظام النيو ليبرالي. و«حرب الماء» التي أطّرتها «الأداة السياسية» بقيادة موراليس، وبمشاركةالفلاحين، أثبتت أن الحركة قادرة على حمل مطالب مجتمع بأكمله.
وقامت الدولة بتعميم الدرس على الصعيد الوطني، بتحريض مفضوح من الولايات المتحدة: إثر معركة دموية على جبهة الكوكاليروس في بداية عام 2002 أسفرت عن قتلى من الطرفين، فقررت تجريم إيفو موراليس بغية القضاء عليه نهائياً واعتباره «الملهم الروحي لما حصل» وطرده من مجلس النواب، وكل ذلك في أقل من 72 ساعة.
أشهر معدودة قبل إجراء الانتخابات الرئاسية، لم يكن من الممكن أن يُشرح بوضوح أكبر للرأي العام أن إيفو موراليس هو زعيم وطني وممثل المستضعفين، وضحية النظام السياسي والإمبريالية الأميركية معاً.
بعد أشهر وأمام صعود ترشيح إيفو موراليس، لم يتردد السفير الأميركي، وقد استحق من إيفو موراليس لقب «مدير حملتي الانتخابية»، بالتهديد بقطع العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وبوليفيا في حال فوز «الخارجين عن القانون».
النتائج فاقت حتى توقعات المعني الأول: بوسائله المحدودة حل إيفو موراليس ثانياً بـ20.94 في المئة من الأصوات وراء الرئيس السابق، رجل الأعمال غوني، الذي حصل على 22.45 في المئة من الأصوات.
وفي بوليفيا، عندما لا يحصل أي مرشح على خمسين في المئة من الأصوات، تجري الدورة الثانية داخل المجلس وفق ائتلافات بين أحزاب الكتل البرلمانية. وهذه الدورة الثانية، التي سمّيت بـ«الديموقراطية الميثاقية»، أمّنت من جهة استقراراً كانت تفتقده بوليفيا لكنها من جهة ثانية ألحقت أذى كبيراً بصدقية الأحزاب التي صارت تلتقي جميعها لتقاسم السلطة، الذي لم يعد يتغّير منها إلا رأسها.
رفض إيفو النخراط في هذه اللعبة، وعاد غوني إلى الرئاسة في بداية عام 2003، لكنه عاد ضعيفاً، غير غوني الأول الذي وصل إلى الرئاسة عام 1993 وهو يجسّد انتصار الليبرالية الكاسحة آنذاك والقادرة على أي شيء: كان غوني يخصخص الدولة فيما نائبه الزعيم الهندي كارديناس يعدّل الدستور ليجعل من بوليفيا «دولة متعددة القوميّات».
الرئاسة
لم يعمّر غوني كثيراً، بعد ستة أشهر كان يغادر القصر الرئاسي بالهيلوكبتر، وقد بترت «حرب الغاز» رئاسته الثانية؛ بدأت «الحرب» ضد تصدير الغاز باتجاه الولايات المتحدة والمكسيك مروراً بالمرافئ التشيلية. وللحقيقة، بدأت «الحرب» ضد التشيلي، «العدو التاريخي» الذي احتل منفذ بوليفيا على البحر في القرن التاسع عشر، وانتهت ضد كل السياسة الاقتصادية الليبرالية. وعندما أراد غوني أن يتراجع بعد عشرات من القتلى، وخصوصاً بعد حصار لاباز وتجميد البلد، كان الوقت قد فاته.
بعد غوني، استلم السلطة نائبه ميزا، الذي سرعان ما واجه معارضة من الحركة الهندية ومن منطقة سانتا كروز الغنية، التي لم تسامحه على تخليه عن غوني. وتصاعدت الصرخة لتأميم الغاز وإنشاء جمعية تأسيسية، ونجحت سانتا كروز وأقاليم الشرق بربط مطالبتها بإجراء استفتاء حول لامركزية المناطق.
بعد استقالة ميزا في حزيران 2005، وفيما منع الضغط الشعبي استلام رئيسي مجلس النواب والشيوخ، مثّل وصول رئيس السلطة القضائية رودريغيز إلى الرئاسة مرحلة انتقالية فتحت الطريق لانتخابات رئاسية ونيابية مبكرة في نهاية عام 2005.
لا يمكن استيعاب معنى نتائج انتخابات عام 2005 حيث حصل إيفو موراليس على الأكثرية المطلقة لأول مرة منذ عودة الديموقراطية عام 1985، وتحديداً على 52،8 في المئة من الأصوات، من دون التذكر أنه قبل ستين سنة كان محرماً على الهنود الوصول إلى عدد من ساحات البلد وأنه خلال قرنين من الجمهورية المستقلة، لم يعين ولو مرة واحدة جنرال هندي في بلد يمثّل فيه الهنود نحو ثلثي السكان.
كذلك يحلو لكثير من المعلقين الليبراليين لصق تهمة «الشعبوية» بإيفو موراليس. بشكل عام، صار من المبتذل اللجوء إليها لتوصيف كل محاولات بلورة سياسات مغايرة للسياسات الليبرالية التقليدية، وخصوصاً إذا صدرت عن حلفاء لهوغو تشافيز. في حال إيفو موراليس، من الممكن التأكيد أنه كان واقعياً قبل وصوله إلى السلطة إذ وقف سدّاً أمام انجرار بوليفيا وراء شرك الحرب الأهلية، وأنه منذ وصوله إليها، يحاول تطبيق ما وعد به في برنامجه الانتخابي. إن هذين العنصرين، إن لم ينفيا بحد ذاتهما تهمة الشعبوية، فهما لا يؤكدانها طبعاً.
وأخيراً، من المبكر بعد 15 شهراً تقويم ولاية موراليس التي لن تعود بوليفيا بعدها في كل الأحوال كما كانت من قبلها، وخصوصاً أنها قد تتحول إلى مسودة إذا أقرت الجمعية التأسيسية إجراء انتخابات عامة جديدة في السنة المقبلة.
الاشتراكية الهندية
بعد 15 شهراً من استلام إيفو السلطة، حقق ما وعد به من تأميم الغاز، وهو موضوع سيادي محسوم، وإقرار الجمعية التأسيسية والإصلاح الزراعي. وهو على طريق إعادة «تأميم» قطاع المناجم. والأصح القول إنه أقرّ برنامجه أكثر منه أنه حقّقه. لأن عقود الغاز ما بعد التأميم لا تزال تخضع لمراجعة في مجلس الشيوخ، وقد كلفت حتى الآن مواقع ثلاثة رؤساء لشركة القطاع العام وعدد مواز لوزراء القطاع.
أما الجمعية التأسيسية، فلم تبدأ عملها الفعلي إلا بعد مرور ستة أشهر من أصل مهلة السنة في النقاش حول نظامها الداخلي. كذلك، فإن قانون الإصلاح الزراعي قد أقرّ، وهو يثير انتظارات كبيرة في الغرب ومخاوف أكبر في الشرق حيث لم يشمل إصلاح عام 1952 المنطقة. ويبقى موضوع اللامركزية الذي ارتبط بالجمعية التأسيسية كما تتجمع الأضداد، إذ رفضته الأكثرية الوطنية، فيما أيدته بأكثرية كبيرة محافظات الشرق الأربع، تلك التي تعرف بـ«مييا لوا» أي نصف البدر.
ربما هذا هو أخطر ما تبيّن من السنة الأولى من ولاية موراليس، التي قد تتحول إلى مسودة إذا أقرت الجمعية التأسيسية، كما هو مرجح، الدعوة إلى انتخابات عامة السنة المقبلة: الجذرية مع ما يرافقها من الاستعداد للجوء إلى العنف كامنة في المعسكرين، وتستغل أي فرصة لتنفجر كما حصل في الصراعات الاجتماعية أو السياسية.
تأخذ شكل الصراع بين «الكولياس» و«الكامباس»، من دون معرفة حقيقة إذا كانت التسميات تغطي انقساماً مناطقياً بين الغرب والشرق، أو إثنيّاً بين الهنود والباقين، أو الاثنين معاً. أبعد من السياسة وحتى من الاقتصاد، إذ يمكن توصيف ما تقوم به حكومة موراليس بأنه نوع من «رأسمالية الدولة» بعد موجات الخصخصة الصاخبة للإمساك ببعض الموارد.
المقلق في الوضع أن المعارضة السياسية والنخب الاقتصادية ترى في مشاريع الحكومة تهديداً لنمط حياتها. لذلك تتمترس حول اللامركزية التي ترى فيها وسيلة لتعويض ما خسرته بالسياسة بالاقتصاد حيث تمثّل مناطقها والموارد الموجودة فيها محرك الاقتصاد.
من جهة أخرى، قد تستنبط أكثرية الجمعية التأسيسية الموالية مستوى إدارياً ثالثاً من نمط الأقضية، التي قد يرتفع عددها إلى 42 للالتفاف على المحافظات التسع الحالية. أما الحركات الشعبية الهندية فهي قوى فاعلة لحظة الضغط بما فيه على الحكومة من دون أن تستوعب بالضرورة ثقافة التسوية، والموالاة يجب أن تحمي نفسها من جشع بعض الواصلين من صفوفها إلى السلطة أو الملتحقين بها كما حصل أخيراً في فضيحة «الواسطات السياسية» التي تورطت فيها قيادات من الـ «أم أي أس»، ما يميّز الوضع البوليفي هو الصدى المختلف للصراعات على الحكومة المركزية وأنصارها وعلى المنطقة الشرقية ومحازبيها. ومع اقتراب موعد انجلاء الصورة، الرهان هو على وجود قوى في المعسكرين وفي المنطقتين لها مصلحة في التجسير للحؤول دون تحويل سنة ما بعد الجمعية التأسيسية إلى «سنة كل المخاطر».