باريس ـــ بسّام الطيارة
لا يثبت مرشح الرئاسة الفرنسي نيكولا ساركوزي على موقف، فهو يعكف على توجيه رسائل قد تكون متناقضة لرفع نسبة مؤيّديه، إلا تنافسه الأساس سيكون على أصوات اليمين، وهو ما يدفعه إلى المزيد من التشدد

«ليبرالي مسيحي طموح فظ خائن مستعد لكل شيء ليصل»، هو مرشح اليمين نيكولا ساركوزي (٥٢ سنة)، الذي حارب ويحارب على جميع الجبهات، ولا يرى أي نقطة إيجابية في أي برنامج من برامج منافسيه الانتخابية. يرفض أن يقول إنه من اليمين، لكنه يحذّر فرنسا من «عودة اليسار».
يهوّل باليمين المتطرّف، ويذهب مردّداً شعاراته، وإن غلّفها ببعض الامتعاض من مطلقها جان ماري لوبن. يدّعي «سياسة القطيعة» مع الماضي ويقصد بها «قطيعة مع (جاك) شيراك»، بعدما «سرق منه» حزب التجمع من أجل أكثرية شعبية ودجّنه كي يمتطيه وصولاً للإليزيه. يطلب من الرئيس دعماً يردد دائماً أنه ليس بحاجة له. يحذّر من الوسط لأن فرنسا برأيه بحاجة «إلى الحزم والنظام الذي يعيد الأمور إلى نصابها»، لا إلى الطروحات المائعة والفضفاضة. لكنه يدرك أنه لا أمل له بالوصول من دون أصوات الوسط. ينفي عن نفسه صفة «السياسي الكلاسيكي»، مع أنه يبني حملته على سكة «المثل العليا والأخلاق والعمل والعائلة».
يدغدغ مشاعر مسلمي فرنسا ويلوّح بالمطالبة بإلغاء قوانين العلمنة التي تعود إلى عام ١٩٠٥ والتي «فصلت الكنيسة عن الدولة»، وتمنع الحكومة من تمويل النشاطات الدينية. وفي الوقت نفسه، يتوجه إليهم محذّراً من «وجوب التأقلم مع المجتمع الفرنسي أو العودة إلى حيث أتوا». يدّعي «حماية الجمهورية العلمانية»، ولكنه يروّج لـ«أصول فرنسا المسيحية». يدعو إلى الأمن والنظام، في حين شهدت فرنسا عندما كان وزيراً للداخلية ثورة الضواحي.
هذا «بعض من ساركوزي» الذي تضعه الاستطلاعات في مقدمة قائمة المرشحين للوصول إلى الدورة الثانية بنحو ٢٧ في المئة من الأصوات.

سيرة «خيانات»

نظرة بسيطة إلى إضبارة سيرته الذاتية تكفي لمعرفة الحواجز التي قفز عنها هذا السياسي الطموح ليصل إلى ما هو عليه اليوم، والتي يمكن تلخيصها بأنها «كثير وقليل في آن واحد: كثير من الطموح والخيانات والمواقف المتنوعة في قليل من الوقت والثبات على موقف».
بدأ حياته السياسية في الحزب الديغولي خلال حملة جاك شبان ديلماس عام ١٩٧٤. لم يكن قد تجاوز سن العشرين، ومن هنا بدأت علاقته بـ«الأب الروحي شيراك» والتحق بحزبه الديغولي الذي أسسه عام ١٩٧٦ «التجمع من أجل الجمهورية». لاحظ شارل باسكوا، رجل المهمات الصعبة والقضايا الخفية، همّة الشاب ساركوزي وطموحه، فدعمه ليصل إلى عضوية المجلس البلدي لحي «نويي الراقي» في غرب باريس.
وهنا «ارتكب» ساركوزي خياناته السياسية الأولى، إذ طعن باسكوا، وزير داخلية شيراك آنذاك، في ظهره وترشح رغم أنفه لرئاسة المجلس البلدي ونجح. وهو حتى اليوم رئيس هذا المجلس، ما سهّل له الوصول إلى بناء علاقة مع شريحة واسعة من «مليونيرية فرنسا ورجالها ذي النفوذ» الذين يسكنون هذا الحي.
إلا أن باسكوا سامحه ودعم دخوله إلى حكومة إدوار بالادور عام ١٩٩٣ لأنه، كما تبين لاحقاً، كان يحضّر لاستعمال قوة الشاب ساركوزي في مهمة أكثر أهمية، وهي تحضير انقلاب على شيراك لمنعه من الترشح للانتخابات الرئاسية.
وهنا ارتكب ساركوزي خيانته السياسية الثانية، إذ انضم إلى حملة بلادور، صديق عمر شيراك، و«طعن أباه الروحي في الظهر». وتركت الحملة الانتخابية هذه في ذاكرة الفرنسيين طعماً مرّاً لكل ألوان الغدر والطعن، وباتت مقولة «صديق العمر» من صفات التهكم وللإشارة إلى غلبة الطموح على شرف الوفاء.
فاجأ شيراك الجميع وقطف سباق الرئاسة، فانكفأ ساركوزي في مجلس بلديته، بعدما بات منبوذاً في الحزب الذي كان يستقبله في الاجتماعات بصيحات «ساركوزي الخائن». إلا أنه واظب على «دفع اشتراكاته» والعمل للخروج من حالة الإبعاد والمحاصرة التي فرضها عليه شيراك والمقربون منه، أي رئيس الوزراء ألن جوبيه وسكرتير الإليزيه دومينيك دو فيلبان.
والذين يعرفون ساركوزي، كانوا يدركون أنه ينتظر الوقت الملائم للعودة والانتقام من فشله. ويقول عنه بعض المحازبين إنه من الذين «يؤمنون بأن الانتقام هو صحن يؤكل بارداً». ويزيد آخر عرفه خلال هذه المرحلة «كان مستعدّاً لأي شيء للعودة إلى حظوة شيراك». حتى سباب وشتائم المحازبين كانت تنزلق عليه من دون أن تترك أثراً على وجهه المغلق. ويضيف البعض «كان مستعداً لأي شيء حتى ابتلاع البصقات التي رشق بها لخيانته شيراك».
وأخيراً، وبعد مداخلات للعديد من الشخصيات التي «وسّطها ساركوزي» لدى برناديت شيراك، رضي الرئيس الفرنسي بأن يسلّم عليه في إحدى المناسبات. في حينها، أسرّ ساركوزي للبعض «أنه أسعد يوم في حياته».
والواقع أن شيراك كان يجتاز مرحلة سياسية صعبة في عهد «المساكنة»، إذ إن الاشتراكيين ربحوا الانتخابات النيابية وتسلّم ليونيل جوسبان رئاسة الحكومة بحسب الأصول الدستورية، وبات يشارك الرئيس الحكم.
خمس سنوات من المساكنة أضعفت شيراك والمقرّب منه ألان جوبيه، الذي كان يرأس الحزب الديغولي. وعندما انطلقت حملة الانتخابات الرئاسية عام ٢٠٠٢، كان الاعتقاد سائداً بأن جوسبان، الذي حكم خمس سنوات من دون انقطاع، سيفوز. وكان شيراك بحاجة لكل قوى اليمين للحصول على أمل الاحتفاظ بالرئاسة. وهنا تدخّل ساركوزي وضمن عودة «البلادوريين» لتأييد شيراك في مقابل العفو وعودة هؤلاء إلى أركان الحزب. وهكذا كان.

رئاسة «التجمّع»

انتخب شيراك رئيساً، ولم يضيّع ساركوزي الوقت في التفاصيل. فقد عاد إلى الحكومة وزيراً للداخلية. وتقول الشائعات والهمس تحت المعاطف بأن مشاكل ألان جوبيه القضائية، والذي كان يحضّره شيراك لوراثته، بدأت منذ هذا التاريخ. وقد حكم على جوبيه بسبب تمويلات سياسية للحزب قبل ثماني سنوات، واضطر لتسليم رئاسة الحزب لساركوزي والابتعاد عن السياسة.
منذ هذا التاريخ، تسارعت وتيرة عمل ساركوزي في الحزب وفي وزارة الداخلية. في الحزب، لا ضرورة للدخول في التفاصيل، فهو «قد نظّف الهيئة الإدارية من كل ما يمتّ إلى الشيراكية بصفة»، وأدخل آلاف المحازبين ببطاقات جديدة أمسك من خلالهم كل أجهزة الحزب العريق. لم يعد حزب شيراك، بل بات حزب ساركوزي. لم يعد حزباً شعبياً، بل أصبح حزباً حديثاً شبيهاً بالأحزاب الأميركية، يرتدي موظفوه البدلات الرماديه مع ربطة عنق، وتستقبل مضيفات جميلات الوافدين من المحازبين في باحة استقبال مركز الحزب قبل أن ترافقهم «لمقابلة المسؤولين».
اختفت مفاهيم «الرفقة والشعبوية وتبادل الزيارات بين محازبي المقاطعات وشرب البيرة»، التي أسّس عليها شيراك الحزب، وحلّت محلها برودة الأرقام والشعارات والدراسات التحليلية اليومية لتوجيه عمل فرق التنظيم الحزبي.
أما في وزارة الداخلية، فقد أراد ساركوزي «أن يدمغ ببصمته عمل الشرطة» فهو يرفع شعاراً سياسياً بأن «المواطن الفرنسي يطلب الأمن»، وهو ما يسمى باللغة السياسية الفرنسية الانتخابية: العامل الأمني. ويتّهمه خصومه بأنه «أجّج أوضاع الأمن في الضواحي» ليعود ويبرز قيمة عمله تحضيراً للانتخابات الرئاسية، إلا أن «زمام الأمور أفلت من تحت سيطرته» فكانت ثورة الضواحي التي أشعلت فرنسا. أمثلة كثيرة يمكن أن تدعم هذه الاتهامات، فساركوزي ليس من النوع الذي يأخذ قفازات لمواجهة مسألة تزعجه، وكلامه قد يكون قاسياً أو فظاً في بعض الأحيان. فإذا كان من النوع الذي يمكن أن يُصبغ بالعنصرية فليس من الغرابة أن يثير ردات فعل في الضواحي. ومعظم الجمل والشعارات التي صدرت عنه وتلاحقه كانت جواباً عن «هذه التحديات»، فمقولته الشهيرة «سأنظّف الضواحي بواسطة الكيرشير»، كانت إجابة عن سؤال عما سيفعله كوزير للداخلية للتخلص من العنف في الأحياء الشعبية. إلا أن إجابته بدت وكأنها موجهة إلى الفرنسيين من أصول عربية أو إسلامية.
ولما طُلب منه التوضيح، رفض، لا بل شدد على أنه «لا مكان للعنف في ظل تسلمه وزارة الداخلية ومقاليد أمن الفرنسيين». كل هذا قبل انطلاق ثورة الضواحي. والجميع يعرف النتيجة.

مثل «أبيه»

يتّفق كثير من المحللين على أن أسلوب ساركوزي هو التحدّي، وهو يبحث عن التحريض والإثارة من دون الالتفات إلى المضمون، كل ما يهمه هو أن يتحدث عنه الإعلام، وعلى ذلك يبني صورة إعلامية مميزة. حتى في قصة فراقه وابتعاده عن زوجته الأخيرة، ومغامرات الإثنين خلال فترة الفراق، فقد استعمل الإعلام ليتصدّر صفحات الوسائل الإعلامية على طريقة أمراء موناكو.
وهو يطبق «مبادئ حربية إعلامية» معروفة. وعندما يحتل «الفضاء الإعلامي»، ويحصر أضواء الإعلام بشخصه، يرمي منافسيه (خصومه ومؤيديه) في فراغ إعلامي، وبعد ذلك يمكنه تفسير ما يريد، مدركاً بأن «ذاكرة المواطنين قصيرة».
وهو محق في ذلك: ينتقده الجميع لإشارته بشكل عنصري إلى الفرنسيين المسلمين بقوله «إنهم يذبحون الخراف في حوض الاستحمام» في عيد الأضحى. وقد نسي الجميع اليوم هذه الجملة التي حركت الإعلام، كما نسي الجميع أن شيراك، إبان حملته الانتخابية الأولى، وفي إشارة إلى المهاجرين والفرنسيين من أصول مهاجرة، تكلم على «الروائح الكريهة التي تعبق في مداخل الأبنية وفي السلالم».
إن ساركوزي مثل «أبيه الروحي شيراك»، فهو أيضاً حيوان سياسي بالدرجة الأولى، فمثل هذه الجمل لا تخرج هباءً، بل هي موجهة كرسالة لشريحة معينة من الناخبين، ما إن تصل حتى ينتقل المرشح إلى رسالة أخرى تصوّب نحو شريحة أخرى.
وهكذا، بدأ ساركوزي في الأيام الثلاثة الباقية قبل الانتخابات بتوجيه رسائل إلى «مسيحيي فرنسا». وهو يردد بأن «فرنسا ذات جذور مسيحية» وأن حصة المسيحية في الهوية الفرنسية مهمة جداً وأنه «لا يمكن الشك في جذور أوروبا المسيحية».
وكان قبل اسبوع قد تحدث عن ضرورة إلغاء قانون العلمنة الذي يعود إلى عام ١٩٠٥. ويدرك ساركوزي بأن حديثه هذا سيستفز العلمانيين، إلا أن اقتراب يوم الفصل وارتفاع أسهم لوبن في الاستطلاعات لا تترك له مجالاً إلا بالتوجه نحو ناخبي لوبن في الجبهة الوطنية، وهو لا ينكر ذلك ويقول «لا أحد يملك ناخبيه». ولكن في الوقت نفسه، يدّعي بأن طروحاته القومية الموجهة لناخبي لوبن لا يمكن تصنيفها تحت باب اليمين المتطرف لأن «العلم والهوية والحديث عن الأمة الفرنسية» هي مفاهيم يشارك فيها كل الشعب الفرنسي.
ومع ذلك، فقد أبرزت الأيام الأخيرة أن ساركوزي يحاول توسيع خطابه ليشمل كل خطوط اليمين، لأنه حسب بعض الاستطلاعات غير المعلنة، فإن الخطر الذي يمكن أن يعترض طريقه نحو الدور الثاني لا بد أن يأتي من تبعثر أصوات اليمين بينه وبين لوبن، وفي بعض الحالات لمصلحة فرانسوا بايرو.
ولذا، فهو يبدو كأنه في تحالف غير معلن مع سيغولين رويال في محاولة لإبعاد خطر لوبن وبايرو لوضع خط يميز بين اليسار واليمين والتحضير لحلبة الصراع في الدورة الثانية.
وفيما تذهب رويال أكثر وأكثر يساراً، يذهب ساركوزي نحو شعارات نستها فرنسا العلمانية لإبراز تموقعه اليميني، فيتحدّث عن «أهمية دور الدين في النقاش السياسي» وعن «عدد الكنائس المزروعة في فرنسا» وعن الأبعاد الميتافيزيقية للدين والأخلاقية في العمل السياسي».
وهذه كلها شعارات كانت فرنسا تعتبر أنها أصبحت وراءها، فإذا بمرشح القطيعة يعيدها إلى ذاكرتها، ما يدفع إلى القول إنه «مرشح قطيعة»، لكنها قطيعة مع المستقبل لا مع الماضي.




«صوّتوا للخوف... والجنون»
أما الصحيفة الثانية التي بدأت بفتح النار على ساركوزي فهي صحيفة «ليبراسيون»، التي أسسها الفيلسوف جان بول سارتر في منتصف السبعينات. وفي إصدارها أمس، احتلت صورة ساركوزي كامل صفحتها الأولى بعنوان مثير «السيد ساركوزي المُقلِق» بخط ضخم، وقد ظهر المرشح اليميني وهو «يرتّب ربطة عنقه على طريقة آل كابون» الشهيرة. أما مجلة «ماريان» الأسبوعية، فقد جعلت عنوان غلافها «حقيقة ساركوزي» وقامت بمجموعة تحقيقات وصفت فيها عدداً من المواقف والحالات «التي ظهر فيها ساركوزي على طبيعته الشرسة». ولم تتردد بالكتابة «هذا الرجل هو نوعاً ما مجنون» ووصفت هذا الجنون بأنه «من نوع الجنون نفسه الذي كان محركاً لبعض الديكتاتوريين». وتحاول اليوم «شارلي إبدو»، المجلة الكاريكاتورية، أن تقلّدها، وستصدر بعنوان مثير: «صوّتوا للخوف».