باريس ـــ الأخبار
دغدغ يوم أمس الربيعي مشاعر الفرنسيين وامتحن صلابة رغبتهم في المشاركة بواجبهم الانتخابي.
خرجت باكراً من المنزل لمتابعة هذا اليوم الانتخابي الطويل


لم تتجاوز عقارب الساعة الثامنة صباحاً ورائحة الكرواسان والخبز تتسرب من شباك مخبز تقليدي متمسك صاحبه بتصنيع خبزه وحلوياته بنفسه. أمام المخبز، وقف في الصف زبائن ينتظرون دورهم. البعض يأخذ قطعته ويدخل المقهى على الرصيف المقابل، والبعض الآخر يحمل الرغيف المستطيل تحت إبطه ويتوجه نحو مدرسة الحي، حيث يقف في طابور جديد ينتظر فتح باب مركز الاقتراعحركة السير خفيفة جداً، لا بل معدومة في هذا الحي السكني، لذا تتناهى لطابور الناخبين المعمّرين نسبياً أصوات المتحدثين في المقهى المقابل، يقطعها بين الفينة والأخرى هدير طاحونة قهوة الإكسبرس وخبطات النادل على علبة خشبية، مفرغاً قبضة آلة صنع القهوة اليدوية.
ترددت بين الاصطفاف وراء الناخبين وبين الوقوف إلى جانب الزبائن المتحلقين حول بار المقهى. اخترت المقهى، حيث تنوّع الأعمار ظاهر كما هو بيّن تنوّع الأطياف الاجتماعية والإتنية وتمازجهما.
لم تكن «الأخبار» الوسيلة الإعلامية الوحيدة في هذا المقهى المواجه للمركز الانتخابي في هذا الحي من الدائرة الخامسة، إحدى أكبر دوائر باريس الانتخابية في الحي اللاتيني. تواجد في زاوية من المقهى فريق التلفزيون الصيني ومراسلون لصحيفتين أميركية وسويدية، وبعد دقائق وصل صحافي جزائري ومراسل من إذاعة فرنسيةفي تمام الساعة الثامنة، فتح باب «المدرسة» واختفى الناخبون المتجمعون في مركز الاقتراع. وبعد أقل من دقيقتين خرج أول المقترعين مبتسماً. فعملية التصويت لا تأخذ أكثر من دقيقة واحدة أكان المركز مجهّزاً إلكترونياً أم معداً للتصويت بواسطة الظرف المغلق والعازل.
في جانب من قاعة التصويت، وضع صف كراسيّ ليتمكّن أي مواطن من متابعة عملية الانتخاب. فقط امرأة في الستينات صوّتت وتوجهت إلى كرسي جلست عليه.
بعد القيام بالواجب الانتخابي، يعود الفرنسي إلى اهتماماته العادية، فيتوجه إلى نزهة أو يعود إلى المقهى أو المنزل.
اقتربت من سيدة خرجت لتوّها من المركز متوجّهة نحو الكنيسة القريبة. ابتسمت وهي تعيد بطاقتيها إلى حقيبة يدها. سألتها لمن أعطت صوتها بعد استئذانها والتعريف عن مهنتي، فأجابت قائلة: «بايرو رجل مهذب، وأنا لا أحب التطرّف، لكني اقترعت لشاب صغير في العمر لا بد أن تعرف من أقصد (بوزانسونو) أريد أن أعطي للشباب فرصة». وتابعت «البرامج! من بلغ عمري لا تهمّه البرامج الانتخابية».
أما صاحب المقهى (جزائري الأصول)، الذي عاد لتوّه من مركز التصويت، فلا يتردد قبل الإجابة عن سؤالي: «من الطبيعي ألا أصوّت لساركوزي، ولا للوبن، لكني غير مقتنع بقدرة المرشحة الاشتراكية على حكم فرنسا. الجميع هنا ذكوريون ويمكن أن أكون أنا منهم»، إلا أنه لا يقول لمن صوّت في النهاية مبرراً ذلك بـ«أن الزبائن في المقهى متنوّعو الميول والأهواء السياسية».
السيدة الواقفة إلى جانبي توافقه الرأي على أن «الذكورية لا تخدم سيغولين رويال»، لكنها تضيف «حان الوقت لتصل امرأة إلى الإليزيه». يوافقها الرأي شاب يافع ينتظر صديقته ليذهب معها للتصويت، ويصرح بعفوية واندفاع الشباب «يجب التصويت لرويال من أول دورة، لا يجب أن نلعب. أنا كنت أفضل التصويت لجوزيه بوفيه ولكن رأيت أنه يجب أن أقطع الطريق على ساركوزي». نسأله «وبايرو؟» يجيب: «بايرو انتهازي يريد اللعب على خوفنا من ساركوزي».
تجلس سيدة صينية الملامح إلى جانب سيدة أوروبية شعرها بلاتيني، ورجل يبدو من أصول شرقية متوسطية. الثلاثة يبدون في سن التقاعد ويتابعون الحديث عن بعد. بعد تردد، تقول السيدة ذات الشعر الأبيض، وهي تنظر إلى صاحب المقهى «لكن بايرو يحفظنا من المغامرة مع رويال»، وتلتفت نحو الشاب متابعة «ويمنع الغول ساركوزي من أن يأكلنا».
«ها هو بانانا!» يشير صاحب المقهى لشاب في مقتبل العمر صفف شعره بشكل «موزة» وقد علّق حلقة في أذنه اليسرى ويمسك سلسلة يجر بواسطتها كلباً صغيراً أشبه بالفأرة. ويبادره «هل اقترعت؟ هل قبلوا أن تصوّت بشكلك هذا؟». يضحك الجميع بمن فيهم الشاب وسائحان أميركيان جلسا على مدخل المقهى «خوفاً من دخان السجائر العابقة في المكان»: «طبعاً لقد أعطيت صوتي للشاب بوزانسونو مع أنني لست شيوعياً».
أنهيت فنجان القهوة وخرجت من هذا المقهى الذي يمثل «فرنسا اليوم»، مجموعة مختلطة من الإتنيات، يشعر كل واحد منها أنه فرنسي «على طريقته». مجموعات إتنية بعيدة عن التشنج بين بعضها البعض، تعيش في نوع من التناسق مؤطّر بنوع من الحرية الفردية التي يحترمها الجميع.
والغريب أن الجميع يبدون واثقين من أنه أياً كانت النتيجة فهي لن تغيّر حياتهم اليومية. حتى ان الفرنسيين من أصول مهاجرة يقولون بثقة «لو وصل ساركوزي أو حتى المتطرف لوبن، فإن شيئاً لن يتغير في فرنسا»، هذا البلد منذ ألف سنة لم يتغير.
اليوم الاثنين، يوم جديد ويوم جيد للصحافة المكتوبة التي ستضرب مبيعاتها أرقاماً قياسية. صاحب المقهى سيشتري عددين من كل صحيفة ليرضي ميول زبائنه كافة، وسينظر إلى التلامذة «الملونين» مثل تلوين زبائنه وقد حلوا محل الناخبين بانتظار الجولة الثانية بعد خمسة عشر يوماً.