إيلي شلهوب
«صبرنا قد نفد»، عبارة تحولت لازمة في كل تصريح لقادة واشنطن: التخلص من العبء العراقي بات استراتيجية (جمهورية وديموقراطية، رغم التجاذب على كيفية تطبيقها). عنوانها الرسمي تسليم المسؤولية الأمنية إلى العراقيين. شرطها قدرتهم على ضبط الأمن والقضاء على «جامعة الإرهاب». مداها الزمني المعلن «عندما يصبحون جاهزين». تكتيكها توفير الظروف الموضوعية للمخرج «المشرّف». أدواتها أمنية (خطة بيترايوس)، ودبلوماسية (مفاوضات إقليمية)، واقتصادية (مساعدات وإلغاء ديون)، وسياسية («مد اليد للسنة»)، وإنسانية (مشكلة اللاجئين).
استراتيجية بنيت بهدف واحد أحد: حل معضلة الاحتلال. أساسها النظري أرساه تقرير لجنة بيكر ـــ هاملتون. جديدها إلغاء فك الارتباط بين أزمات المنطقة. حافزها توسع النفوذ الإيراني. روادها كوندي رايس وروبرت غيتس.
أما معضلة العراق فليس هناك، على ما يبدو، من لديه نية الاهتمام بحلها:
أقل عناصرها وطأة غياب البنية التحتية الخدماتية (لا ماء ولا كهرباء ولا وقود ولا رعاية صحية وقطاع تربوي منهار...)، وتفشي البطالة، والفقر، وانتشار الجريمة المنظمة. وأكثر مكوناتها خلافية، بنية نظام ما بعد صدام حسين، وتقاسم تركته بين الأطياف السياسية والطائفية والعرقية المختلفة. مأساتها الكبرى تكمن في تلك الحرب الأهلية المستعرة، وما يرافقها من تطهير طائفي، وتهجير جماعي هو الأضخم في المنطقة، بحسب الأمم المتحدة، منذ نكبة فلسطين.
أما أخطر ما فيها فيتلخص في عناصر ثلاثة:
الأول، ذلك الحقد المتفاقم بين الأطياف العراقية كلها. حقد زرع بذوره نظام صدام، ونمّته قوات الاحتلال، وفاقمته دماء ضحايا التفجيرات والقنص والتصفية التي لم تستثن أحداً.
والثاني، تدمير الاحتلال للبنى الأمنية المركزية، التي نمت على أنقاضها أجهزة طائفية ـــ عرقية، تتبع تيارات سياسية تطمح إلى الهيمنة... أو الانفصال.
أما العنصر الثالث، فيتمثل في غياب نخبة قيادية قوية جامعة، قادرة على تجاوز التخندق الطائفي والعرقي واستيعاب المصالح المتناقضة، أو على فرض مشروع وحدوي، ولو بالقوة، يعيد اللحمة إلى الأوصال المقطعة للبلاد.
معضلة تفاقم في حدتها صراعات كبرى، إقليمية ودولية، لاعبوها كثر، أهمهم واشنطن وطهران ودمشق والرياض وتل أبيب وأنقرة. ويزيد من دمويتها إصرار بوش على تصنيف العراق على أنه الجبهة الأمامية في «الحرب على الإرهاب».
أصدق تعبيرات بلوغها نقطة اللا حل ذلك «الجدار» الذي يبنى في بغداد. لا بل جدران. مهمتها فصل سنة العاصمة عن شيعتها. غايتها الحد من التطهير الطائفي المتبادل. فكرتها بدعة جديدة للاحتلال. مصدرها التاريخي مستقى من برلين، ومن فلسطين المحتلة.
دلالاتها المباشرة ليست سوى إقرار بالعجز عن السيطرة على عاصمة الرشيد، بالوسائل التقليدية. توقيتها أكثر ارتباطاً بروزنامة أميركية منها بمواعيد عراقية. ومع ذلك، فهي تكرّس، رغم الاستنكار، تقسيماً، خُط بالدماء.
تقسيم فرضه الأكراد بإقليمهم الشمالي شبه المستقل، والشيعة (باستثناء مقتدى الصدر) بمطالبتهم المتواصلة بترتيبات مشابهة في الجنوب. وحدهم سنة الوسط لا يزالون يصرّون على الدولة المركزية. إصرار ينبع، في الأساس، من افتقار مناطقهم إلى الثروة النفطية، ومن ضغوط عربية تستهول النزعة التقسيمية. الأنباء الأخيرة عن اكتشافات نفطية في المناطق الغربية، قد تخفف بعضاً من حدته. معارضة الجوار قد تحول دون المضي في مشروع الفدرلة حتى النهاية. لكنها بالتأكيد غير قادرة على القضاء عليه.
يبدو أنه لا دواء متوفر حالياً لعلاج العدوى «الديموقراطية» لآل بوش؛ فلا من صدّام يعيد الأمن واللحمة بالحديد والنار. ولا من قادر على تطبيع الأوضاع في بغداد. ولا من قابل بالطلاق الودي.