strong>حيفا ــ فراس خطيب
23 نيسان، الذكرى التاسعة والخمسون لسقوط حيفا بيد عصابات «الهاغاناه». «الأخبار» جالت في المدينة بحثاً عمّا بقي من «عروس الكرمل»

  • صــراخ حيفــاوي لــم يهــدأ منــذ 59 عامــاً: استقــلالكــم هــو نكبتنــا

    صبيحة الثلاثاء في حيفا. الشمس تحرق ما بقي من نسمات البرد الصباحية. البحر هادئ. صخب المدينة لا يزال مكبوتاً. الشوارع خالية. حركة السير تتصاعد ببطء شديد. هكذا بدت حيفا، عروس الكرمل. فالصراع فيها، لمن يشعر به، يتسلّل إلى أبسط التفاصيل: أهالي المدينة من اليهود، المتعبون حالياً من احتفالات أول من أمس، أشعلوا «المنقل المعهود» محتفلين بـ«استقلال» المدينة. وفي المكان نفسه، ربما في شارع آخر، أناس يحيون ذكرى سقوطها، معلنين للمرة الـ 59: «يوم استقلاكم، هو يوم نكبتنا».
    النكبة الفلسطينية لم تبدأ من حيفا، ولم تنته هناك أيضاً، لكنَّ تاريخ هذه المدينة يجسّد اليوم الحال الفلسطينية، تاريخاً وحاضراً.
    سقطت «عروس الكرمل»، في الليلة الواقعة ما بين 22 و23 نيسان 1948. هُجِّر أهلها إلى ما بعد بحرها قسراً. قطنها 70 ألف فلسطيني، قبل النكبة، لم يبقَ منهم سوى ثلاثة آلاف سكنوا في «غيتوهات» داخل مدينتهم.
    «تخيل لو أنَّ حيفا لم تسقط، لكان عدد سكانها العرب اليوم 600 ألف فلسطيني»، يقول المؤرخ الحيفاوي جوني منصور، الباحث في تاريخ هذه المدينة، مضيفاً: «في العالم اليوم 600 ألف حيفاوي يمتدون من عين الحلوة حتى كندا».
    ما يميز حيفا أنَّها لا تزال «وصفةً للصراع»، تماماً مثل كل المدن المختلطة. المتجوّل في شوارعها القديمة وأحيائها العربية، أو تلك المبنية على أنقاض الأحياء العربية، يدرك أنَّ شيئاً في داخله لا يسلّم بالواقع. سقطت سقوطاً لا يمكنه أن يكون عابراً.
    البيوت الممتدة في شارع الملوك، حي وادي الصليب المهدوم، المساجد، عمود الملك فيصل، برج الملك عبد الحميد، الكنائس في أحيائها القديمة، والسور المهدوم الذي بناه ظاهر العمر، كلها تعيد الرائي إلى مكان محفوظ في تاريخها. تعيده إلى تاريخ ما قبل إسرائيل.
    صحيح أنَّ السور هدم، لكنّ المؤرخ الفلسطيني جوني منصور يعرف بالضبط، من أين مرَّ وإلى أين يمتد، يعرف أين تقع العمارات داخل السور، وأي مبانٍ خارجها. بالنسبة إليه، السور التاريخي لا يزال قائماً ويحييه كل يوم.
    سقوط حيفا في «المقص»
    من يعد قليلاً إلى تاريخ حيفا، يدرك أنَّ سقوطها كان مخططاً لهعلى مقربة من العمارة الزجاجية في حيفا، المسماة «برج الأنبياء» و«قصر الخوري» سابقاً، وقعت أكبر المعارك بين المقاومين العرب وعصابات «الهاغاناه» الصهيونية.
    يسرد منصور قصّة خطة المقص التي وضعتها «الهاغاناه» الصهيونية لاحتلال الأحياء العربية، على الرغم من أنَّ قيادة «الهاغاناه» أعلنت أنها «لن تتخذ الحرب خياراً ما دام العرب من أهالي حيفا مسالمين ولا يميلون إلى العصابات الإرهابية العربية»، علماً بأن عدد السكان العرب واليهود قبل الـ 48 كان متساوياً تقريباً.
    وفي ذلك الوقت، كما هو الحال اليوم، رأت «الهاغاناه» أن حيفا «مدينة التعايش التاريخي»، وفي مقابل هذه التصريحات، كانت تُحاكُ سراً، وبمعرفة القيادات اليهودية كلها، خطة لشطر المدينة واحتلالها وتهجير النصف العربي منها.
    ويشير منصور إلى أنَّ خطة «المقص»، كانت تهدف إلى انقضاض القوات اليهودية من مركز منظمة «الهاغاناه» في الهدار (مركز مدينة حيفا اليوم) باتجاهين: الأول نحو قصر «آل الخوري» (عمارة برج الأنبياء اليوم) حيث تجمع المقاومون الفلسطينيون وبضع عشرات من العرب الذين انضموا إليهم، والثاني من المركز التجاري الجديد في البلدة التحتا القريبة من الشاطئ.
    أما المعركة الأخرى في حيفا فحدثت في بيت النجادة في حي الحليصة العربي، الذي لا يزال قائماً حتى اليوم بعدما انقضت فرق «الهاغاناه» من حي نافي شأنان اليهودي الواقع في أعلى حي الحليصة العربي.
    نجحت قوات الهاغاناه في شطر المدينة من جهة الغرب، بحيث لا تصل مساعدات من أهالي الطيرة العربية، ومن جهة الشرق. أما اليهود، ولكون أحيائهم تتربع على تلال الكرمل والأحياء العربية في البلدة التحتا وعلى المنحدرات، كانت عملية انقضاض فرق الهاغاناه أسرع وأنجع. وكان «الهاغاناه» قد حصلوا على أسلحة وذخيرة من القوات البريطانية وما تمكنوا من سرقته من المعسكرات الإنكليزية الكثيرة المنتشرة في حيفا وضواحيها، وما تمكنوا من شرائه استعداداً للخطة.
    ويضيف منصور أنَّه بعدما تمكنت قوات «الهاغاناه» من قطع الاتصالات بين الأحياء العربية، لم يبق أمام السكان العرب سوى جهة واحدة مفتوحة، هي جهة الميناء. وهناك وقعت الفضيحة الكبرى، إذ كانت تنتظرهم عشرات السفن والقوارب التي أقلتهم إلى عكا ثم بيروت أو الإسكندرية. وكان جنود من الإنكليز يشجعون العرب على التوجه إلى الميناء «حفاظاً على حياتهم وحياة أولادهم».
    «الهاغاناه» لم تتمكن من التغلب في اليوم الأول على المقاومين في حي الحليصة العربي واحتاجت إلى معونة. وسقط الحي في اليوم الثاني، وخصوصاً عندما اغتيل حامي حيفا، الحنيطي، وهو في طريقه من لبنان حاملاً الذخيرة للمقاومين.
    حي الحليصة، لا يزال قائماً حتى اليوم. حي فقير تهمله السلطات. غالبية سكانه يعانون التهميش.
    وبعدما سقطت المدينة ولم يبق فيها سوى ثلاثة آلاف من سكانها الفلسطينيين من أصل سبعين ألفاً، بدأت عملية تنفيذ خطة «تطهير الفصح» عن طريق هدم ومحو عدد من المعالم العربية التي أدعت البلدية وقوات «الهاغاناه» أنها تشكل خطراً أمنياً على حيفا، وكذلك الانتقال من بيت إلى آخر للتأكّد من خلوها من المقاومين الفلسطينيين.
    وادي الصليب
    الآثار التاريخية في حيفا كثيرة. على مقربة من حي «وادي الصليب»، يقع الحمام التركي. وهو اليوم حانة ومرقص ليلي يرتاده الشبان اليهود في نهايات الأسبوع. دخول العرب إلى هناك منوط بمليون سؤال، والرفض أكيد: «المكان للمدعوين فقط»، جملة يكرّرها رجال الأمن الواقفين عادةً عن باب الحانة، عندما يشاهدون «ملامح عربية تريد دخول المرقص».
    إلى جانب الحمام التركي يقع قصر مصطفى الخليل، حاكم مدينة حيفا، وأغنى أغنيائها. بيته الآن مسرح تابع لبلدية حيفا، اسمه «المنصة 2».
    قبالة القصر والحمام (الحانة والمسرح) تتجسد محطة ومأساة أخرى في حي وادي الصليب. أقيم الحي في نهاية العهد التركي في سنوات العشرين. الحي خالٍ، لا تسكنه اليوم سوى عائلتين، واحدة في أوله وأخرى في آخره تتوسطهما مبانٍ حجرية مهدومة، وتستعد البلدية لاقتحام الحي كلياً لإتمام مشروع تطويري.
    أفرغ هذا الحي كلياً في عام 1948، استوطنه مهاجرون يهود في عام 1949 هاجروا من شمال أفريقيا، غالبيتهم يهود مغاربة. عاشوا في ظروف معيشية قاسية، ثار المهاجرون اليهود الشرقيون في حيفا في عام 1959 على الهيمنة الأشكنازية المتمثلة بحكومة ديفيد بن غوريون، وعلى الظروف المعيشية التي أتت خلافاً للوعود، ما أدى إلى مواجهات بينهم وبين الشرطة الإسرائيلية. وصدر أمر عن مكتب بن غوريون لتفريغ الحي من سكانه، هذه المرة من اليهود، وتفتيت وحدتهم «كي لا يكونوا عائقاً مستقبلاً».
    منذ ذلك الوقت، لم يسكن أحد في هذا الحي ولا تزال مبانيه تنتظر الهدم.
    لا أحد يجرؤ على الاقتراب من المباني المتروكة فيه. العمارات الشاهقة المحيطة بالحي لم تترك ممراً للهواء لساكنيه. ويقول أحدهم: «حين يسد حائط العمارة الشاهقة نافذة البيت الرئيسي الذي يطل على البحر، فهذا يعني تهجيراً أيضاً».
    المدينة والترفيه
    العودة إلى ما قبل الـ 48 تعني الانكشاف على المدينة الحقيقية. حيفا مركز الثقافة والترفيه والتسويق المنفتحة على البحر. كانت مشروع مدينة تام. عميد المسرح العربي يوسف وهبي يعرض على مسارحها مع فرقة «رمسيس» على خشبة مسرح «عين دور». احتضنت المدينة حفلات غنائية لفريد الأطرش وأسمهان وصباح حضرها آلاف المعجبين الفلسطينيين. وأم كلثوم، نالت لقب «كوكب الشرق» عندما غنَّت على خشبة مسرح «الانشراح» المشهور في حيفا.
    كانت الجماهير تفد إلى الصالات من مختلف قرى ومدن فلسطين لمشاهدة أفلام محمد عبد الوهاب وليلى مراد ونجيب الريحاني وبشارة واكيم وغيرهم. استضافت حيفا شعراء وكتاباً بارزين من العالم العربي: خليل مطران، محمد مهدي الجواهري، واستقبلت شخصيات عربية وأجنبية متميزة، من أبرزها الدكتور اللبناني داهش، الذي عرف بقدرته على التنويم المغناطيسي وقراءة الأفكار والمستقبل.
    المدينة التي كانت
    حيفا اليوم، لم تعد كما كانت، لكن في قلبها ملامح لم يستطع التاريخ أن يمحوها. سارت بالأمس في شوارعها مجموعة شباب أحياء لذكرى سقوطها وسط آلاف السيارات الإسرائيلية المدججة بالأعلام والمسافرة إلى المناطق الشمالية لإشعال «منقل الاحتفال». في عيونهم حزن، ربما على الذكرى، ربما على المدينة التي يعاصرونها. يبحثون دائماً عن مدينتهم في تلك المدينة الكبيرة التي تكبر وتحتل مساحات أكبر، لكنّها بعيونهم تصغر وتضيق يوماً بعد يوم، وهم «محكومون بالأمل».
    كانت المحطة الأخيرة من حيفا العملاقة في حي وادي النسناس. الحي العربي الأكبر. ملامح التاريخ قليلة فيه، لكن لا حاجة للحجارة، لا يزال البشر يعيشون هناك. اليهود يحبون وادي النسناس، بالنسبة إلى الكثيرين منهم، هو المأوى التجاري الأول، أسعاره رخيصة، وطعامه شهي.
    كان الوادي مكتظاً باليهود قبل سفرهم إلى خارج المدينة للاحتفال بـ«الاستقلال» في مكان ما، غالباً ما يكون شمالي حيفا. يشترون اللحوم من الوادي ويمضون. ومع نهاية اليوم، يشعلون «المنقل»، فيما العرب يغلقون متاجرهم، كالعادة في هذا اليوم باحثين عن مسيرة أو نشاط إحياءً لذكرى المدينة التي كانت ذات يوم مدينتهم.


    ليلة غصَّت السفن بالمهجَّرين
    يورد كتاب «حيفا في المعركة»، الذي وضعه توفيق معمر، مشهداً يختصر نكبة اللجوء والتهجير. ويقول: «كان منظراً يذيب الجماد ويفتت الأكباد، فهذا عربي بالبيجاما يحمل بيد طفلاً وبالأخرى صُرّة ملابس أو أمتعة خفيفة بسيطة يسوق أمامه عشرات الأولاد، الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم وعيالهم في غمرة الفوضى (لا القتال)، وهم في طريقهم إلى الميناء من بواباته الرئيسية أو من ثغرة فتحها النازحون في سياج الميناء الملاصق لبستان كراكين في حارة القشلة. وهذه امرأة بملابس النوم تلطم خديها وتستغيث وهي في طريقها إلى الميناء تنادي زوجها وأولادها: حسن.. أحمد.. عبد. وهذه امرأة أخرى داخل الميناء باكية مولولة وقد نسيت طفلها الرضيع في سريره تحاول العودة إلى المدينة فيمنعها الجنود البريطانيون. والذين كانوا يدخلون الميناء من النازحين لم يكن يسمح لهم بمغادرتها والعودة إلى المدينة، بل عليهم مواصلة السفر إلى عكا ومنها إلى لبنان».


    فلسطينيو 48 متمسكون بحق العودة
    شارك أكثر من ستة آلاف فلسطيني من كل التيارات السياسية في مسيرة العودة «العاشرة» التي تنظمها لجنة المتابعة العليا للجماهير الفلسطينية، ولجنة المهجرين سنوياً في يوم «استقلال إسرائيل».
    انطلقت المسيرة من أراضي قرية اللجون المهجرة، إحياءً للذكرى التاسعة والخمسين لنكبة الشعب الفلسطيني. وقد حددت المسيرة في قرية اللجون تعبيراً عن الاحتجاج الفلسطيني تجاه مخططات السلطة الإسرائيلية لمصادرة مئات الدونمات من أراضي القرية المهجّرة التابعة لسكان مدينة أم الفحم.
    وسار المتظاهرون حاملين الأعلام الفلسطينية وأسماء مئات القرى الفلسطينية التي هدمت في عام 1948. وهتفوا بشعارات تنادي بحق العودة، منددين بسياسة السلطة الإسرائيلية تجاه فلسطينيي 48 وخارج الخط الأخضر.
    ومع نهاية المسيرة وقف الحشد دقيقة صمت على أرواح الشهداء الفلسطينيين، وألقى رئيس لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في الداخل شوقي خطيب، كلمة هاجم فيها السياسة التي يقودها جهاز الأمن الإسرائيلي العام «الشاباك» ضد فلسطينيي 48، مشيراً إلى الحملة السلطوية ضد التجمع الوطني الديموقراطي، حملة ضد جميع الفلسطينيين.
    وانطلقت مسيرات أخرى في بلدات مختلفة في مناطق الداخل، حيث نظّمت مجموعة «حيفا الفتاة» مسيرة للشبيبة في حيفا اطلعوا من خلالها على معالم المدينة وتاريخها وسقوطها. كما زار الكثير من الفلسطينيين قراهم التي هجروا منها ولم يعودوا إليها منذ 59 عاماً، ومنهم من لا يزال يحمل مفتاح بيته المهدوم.