علي شهاب
تستضيف بغداد غداً مؤتمراً لدول الجوار العراقي، وصفته واشنطن بأنه «اختبار» لطهران ودمشق وأعلنت موافقتها على محاورتهما، في خطوة لا شك تعدّ تحوّلاً نوعياً في مقاربتها لأزمات المنطقة. لكنه عملياً يمثّل «اختباراً» لجدية الإدارة الأميركية في تخليها عن تعنتها وغطرستها وتبنيها الفعلي لخيار الحوار لحل المشاكل العالقة


ليست المرة الأولى التي يلتقي فيها المتخاصمون حول طاولة العراق؛ فمنذ منتصف عام 2006، اجتمع الأميركيون والإيرانيون والسوريون مرات عديدة في مؤتمرات دولية، معظمها ذات طابع اقتصادي، استضافتها الامم المتحدة في اماكن مختلفة، لعل أبرزها تلك التي كان تتم على هامش مؤتمر المانحين الدوليين للعراق.
غير أن اشارات لافتة صدرت عن واشنطن في الآونة الأخيرة تنظّر لعدم جدوى الحوار مع طهران ودمشق، بينها عبارة فريديرك كاغان، «ملهم» استراتيجية بوش في العراق، القائلة إن «ايران وسوريا تدعمان الارهاب في العراق ولكنهما لا تديرانه». عبارة كهذه لا تزال تستحوذ على قناعات العديدين في الادارة الأميركية، علماً أن الدراسة الأخيرة لكاغان، الصادرة في 4 كانون الثاني الماضي (أي عشية إعلان بوش استراتيجيته الجديدة) عن معهد «اميركان انتربرايز» تحت عنوان «اختيار النصر: خطة للنجاح في العراق»، رفضت بشكل قاطع توصيات لجنة بيكر ـ هاملتون بشأن الحوار مع دمشق وطهران.
للوهلة الأولى، يبدو أن سبباً آخر كلياً، يلخصه البعض بالمأزق الأميركي في العراق، يقف وراء سلوك الادارة الأميركية طريقاً مغايراً بانتهاجها سبيل إعادة القنوات الدبلوماسية العلنية مع هاتين العاصمتين؛ لكن المؤشرات تدل على أن الايرانيين والسوريين هم من أرغموا الأميركيين على اللحاق بركبهم؛
ففي السابع من كانون الأول عام 2006، أعلن وزير الخارجية العراقية هوشيار زيباري خطة لعقد «مؤتمرين حاسمين» حول العراقي. وبحسب تقارير اعلامية آنذاك، «سيُعقد أحد المؤتمرين خلال أشهر قليلة في بغداد بمشاركة دول اقليمية والجامعة العربية والامم المتحدة».
لم تمضِ أيام قليلة على إعلان زيباري، حتى بدأ العراقيون يتوافدون إلى سوريا؛ في البدء جاءت الزيارة التاريخية للرئيس جلال الطالباني، وتبعتها زيارات لشخصيات عراقية سياسية (معظمها سنية)، في حركة، لم تفهم حيثياتها في حينه، لكنها تزامنت مع تشديد المسؤولين السوريين، في كل مناسبة، على استعداد دمشق للحوار.
جاءت نقطة التحوّل مع زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى طهران في 18 شباط الماضي، التي وصفها الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد بأنها «ذات بعد استراتيجي عميق».
بدا واضحاً أن دمشق وطهران تضعان خطوطاً جديدة لشراكة قديمة، بسبب تطوّرات طارئة.
في هذا الوقت، بدأ المسؤولون الإيرانيون، منذ الإعلان عن مؤتمر بغداد، يشددون على أن تُقدِّم واشنطن طلباً رسمياً عبر القنوات العلنية من أجل الجلوس معها على طاولة واحدة.
لكن في خضم المواقف الايرانية المتصلبة، برز تصريح لوزير الخارجية منوشهر متكي، قبل أيام، قال فيه إن بلاده قدمت اقتراحاً بعقد المؤتمر الثاني على مستوى وزراء الخارجية، وتبع ذلك موقف روسي متشدد يشترط عدم تحوّل مؤتمر بغداد إلى أداة تنفذ ارادة واشنطن، والا فإن موسكو لن تشارك فيه.
لم تكن واشنطن متحمسة. بل لعلها كانت ممانعة، أو على الأقل غير راضية على محاولات استدراجها إلى طاولة كهذه. موقف وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في هذه القضية كان الأكثر تعبيراً. قالت، في مقابلة مع صحيفة «دير شبيغل» الألمانية في منتصف كانون الثاني الماضي، إن قضية إجراء محادثات مع ايران حول العراق «ليست دبلوماسية. هذا ابتزاز»، قبل أن تضيف «دعونا نتذكر بأن هناك الكثير من العمل الدبلوماسي في المنطقة. العراقيون يديرون دبلوماسيتهم الخاصة، يتحاورون مع ايران ومع سوريا. المنطقة بأسرها تطبق مبدأ المصالحة الذي أقرته جامعة الدول العربية، وهذا يشمل الجميع. كذلك، فإن تعاون العراق مع الامم المتحدة يتيح الفرصة لدول الجوار العراقي ليحضروا مؤتمراً دولياً. لقد التقينا من قبل الايرانيين والسوريين في نيويورك (في مجلس الامن الدولي)».
كانت الولايات المتحدة، على ما يبدو، مشغولة بتعزيز أوراقها الدبلوماسية، وحتى العسكرية، في محاولة واضحة لإجبار خصومها على الاستجابة لمطالبها، فإن فشلت، تكون قد عززت أوراقها التفاوضية خلال جولة حوار، لطالما رفضتها علناً، لكن فكرتها ما غادرت يوماً النقاشات السياسية والإعلامية في الولايات المتحدة. وهكذا، بدأ الحديث عن عقوبات دولية جديدة بشأن البرنامج النووي الإيراني. تحركت السفن الحربية نحو الخليج. وُضعت مصارف ايرانية وسورية ومؤسسات تابعة لحزب الله (جهاد البناء) على لائحة الإرهاب.
بل أكثر من ذلك، لقد أوحت إدارة جورج بوش بأنها ماضية نحو مواجهة في المنطقة. ومن المؤشرات إلى ذلك، قرار الرئيس الاميركي ارسال المزيد من قواته الى العراق، بعدما ارتقى بـ«المتطرفين الشيعة» الى مستوى «المتطرفين السنة»، واتهم القيادة الايرانية بقتل المئات من جنوده في هذا البلد، من خلال وحدة «القدس»، التابعة للحرس الثوري الايراني، أو من خلال تدريب جيش المهدي و«ميليشيات» شيعية على العبوات الناسفة، وتزويدهم بالاسلحة والمال.
تلميحات من نوع كهذا لم تبد ذات صدقية، بعد الهزيمة التي مني بها جمهوريو أميركا في انتخابات الكونغرس، حيث هيمن الديموقراطيون على مجلسيه، وفي ظل تزايد نسبة الرافضين لحرب العراق والمؤيدين لإعادة القوات منه.
وفي هذا الإطار، يقول الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى دايفيد بولوك إن «عرض القوة (التحركات والحشود العسكرية الاميركية)، ساعد الاداراة الاميركية على تحديد الوقت المناسب لفتح حوار دبلوماسي حول العراق» مع ايران وسوريا.
وتحت عنوان «اللقاء مع جيران العراق: معيار إعادة بناء الثقة أم أكثر من ذلك؟»، يستشرف بولوك، في تقريره الصادر في الثاني من آذار الجاري، نتائج مؤتمر بغداد، بالاشارة، في ملاحظة اولى، الى مكان انعقاد المؤتمر: بغداد، حيث يرى أن «اتفاق جميع الأطراف على المكان يرمز الى احترامهم السيادة العراقية، وتوافقهم الضمني على ضرورة تأمين العاصمة العراقية على الأقل»، كمنطلق الى بقية المناطق.
وحده وزير الخارجية المصرية أحمد أبو الغيط أساء تقدير الظرف عندما «أعرب عن هواجس تتعلق بانعقاد المؤتمر في بغداد، وليس في القاهرة».
مطالب ومكتسبات
غير أن الأطراف المشاركة في مؤتمر الجوار العراقي، تذهب الى بغداد، وفي جعبتها أوراق تفاوض، كل منها تمثّل عامل قوة لطرف وضعف لطرف آخر.
فسوريا، بحسب الاتهامات الأميركية، تسهل انتقال العناصر «الإرهابية» إلى العراق وتدعم حركات المقاومة المسلحة فيه، وخاصة السنية منها. بل إن دمشق عملت، خلال الفترة الأخيرة، على استضافة العديد من الرموز السنية العراقية (حارث الضاري، طارق الهاشمي)، الامر الذي أثار، في فترة من الفترات، حفيظة الأكراد والشيعة، وأسفر عن توتر في العلاقات بين البلدين، عكسته الاتهامات الرسمية التي أطلقتها بغداد باتجاه دمشق.
عناصر قوة كثيرة تمتلكها سوريا في العراق سمحت للرئيس بشار الأسد بالإعلان عن بلاده «ليست اللاعب الوحيد في العراق ولكنها اللاعب الرئيسي»، وهي تمثّل سنداً لسوريا الراغبة في فك العزلة الدولية المفروضة عليها، والناجمة عن تعقيدات الملف اللبناني، وتداعيات اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والمحكمة الدولية المزمع انشاؤها في هذا المجال.
لكن العوائق الكامنة في العلاقات الاميركية ـ السورية تتجاوز ملف العراق؛ فوجود مكاتب لفصائل المقاومة الفلسطينية على الاراضي السورية هو أحد أبرز القضايا العالقة بين الطرفين، بينما يعد الدعم السوري لحزب الله، و«استخدام الاراضي السورية لنقل السلاح» اليه، بحسب الاميركيين والاسرائيليين، عنصراً رئيسياً يمنع التفاوض المباشر مع دمشق، بصفتها دولة «راعية للإرهاب».
كذلك الأمر بالنسبة إلى إيران، المتهمة أميركياً بدعم «الميليشيات» الشيعية بالمال والسلاح، وبالعمل على تعميق المأزق الأمني الأميركي في العراق.
وفي هذا الاطار، يقول الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى جيفري وايت إن طهران «تستغل التورط الاميركي في العراق؛ من أجل استنفاد القدرات والإرادة الأميركية».
ويعدّد وايت، المحلل الاستخباري في شؤون الشرق الاوسط في وكالة الاستخبارات العسكرية الاميركية، «أبعاد التحدي الإيراني» في المجالات التالية:
- عسكرياً: قدّمت الولايات المتحدة حتى الان دلائل حسية على وجود أسلحة ايرانية في العراق، من بينها قذائف هاون 60 ميليمتراً و81 ميليمتراً، وعبوات وقناصات كانت ايران قد اشترتها من النمسا. فضلاً عن التدريب العسكري الذي يقدمه لواء القدس التابع للحرس الثوري الايراني.
- سياسياً: ايران تقيم علاقات مع العديد من الأطراف والأحزاب السياسية في العراق. المجلس الاعلى للثورة الاسلامية، حزب الدعوة، تيار الصدر ومنظمات شيعية أخرى لها علاقات عملانية مع ايران، كما أنها تستشير المسؤولين الايرانيين في طهران.
- اجتماعياً: من خلال الخدمات الاجتماعية والرعاية الطبية. أنشأت ايران شبكة تأثير لها في العراق. كما تتوسع ايران إعلامياً في العراق من خلال قناة العالم.
- دينياً: يقطع 1500 ايراني الحدود يومياً مع العراق، لزيارة الاماكن المقدسة، بحسب اتفاق بين البلدين. ما يعني أن 547500 ايراني يدخلون العراق سنوياً.
- اقتصادياً: ايران لديها تجارة متنامية مع العراق. عبر المصارف وقطاعات اعادة الاعمار، حتى في المناطق الكردية.
- دبلوماسياً: تُطلق القيادة الايرانية تصريحات عديدة عن الوضع في العراق، وتُظهر نفسها على أنها صديقة للعراق وداعمة لاستقلاله ومعارضة للولايات المتحدة.
واخيراً، يشير جيفري وايت إلى دلالات يختم بها دراسته، بالاعلان أن «قدرات ايران في العراق لا تقل شأناً ولا تأثيراً عن قدرات الولايات المتحدة، بل أظن ان طهران لم تستخدم حتى الان سوى جزء صغير من قدراتها. لقد أثبتت القيادة الايرانية بأنها ذكية وقاسية واتخذت قراراً بالمخاطرة في العراق».
وكحال دمشق مع واشنطن، فإن إشكاليات العلاقات الأميركية - الإيرانية تتجاوز في أبعدها الساحة العراقية إلى الملف النووي والدعم الإيراني للمقاومة في فلسطين ولبنان، بل تأخذ آفاقاً إقليمية، تشمل الترتيبات الأمنية في المنطقة وتوزّع النفوذ فيها، إلى حد يمكن معه وصف المواجهة بين الطرفين بأنها صراع إرادات ومصالح استراتيجية.
وبناءً على المعطيات التي لديه، يحذر وايت من أن اتخاذ أي قرار بشأن ملف ايران النووي سيكون «مرعباً» على صعيد التبعات على الساحة العراقية.
وهكذا، تريد طهران اعترافاً بموقعها الدولي الجديد، وتخفيف القيود عن ملفها النووي، وليس من مصلحتها بالتأكيد تقسيم العراق الى فدراليات، إذ إن ايران نفسها ملتقى للعديد من القوميات.
وتطلب سوريا اعترافاً بدورها الاقليمي، وتسعى لفتح ثغرة في جدار العزلة الدولية، فضلاً عن التخفيف من حدة أوراق الضغط المرفوعة في وجهها، انطلاقاً من الساحة اللبنانية بالتحديد.
أما بالنسبة إلى بقية اللاعبين على الساحة العراقية، فإن الأردن يطالب بمعالجة قضية اللاجئين العراقيين إلى أراضيه البالغ عددهم نحو مليون تقريباً، بينما تعاني تركيا «الإرهاب الكردي» عبر حدودها مع العراق.
وتخشى السعودية تداعيات تردي انزلاق العراق الى حرب أهلية طائفية، «الأمر الذي قد يحرك قضية الأقلية الشيعية السعودية التي تعيش حول حقول النفط»، بحسب بولوك.
وتطمح الكويت الى إقامة أفضل العلاقات مع العراق كونه يمثّل سوقاً استهلاكياً مربحاً لها.
وبانتظار انعقاد المؤتمر والنتائج التي ستسفر عنه، يخلص بولوك، الذي عمل في فريق التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الاميركية ومستشاراً في لجنة «الشرق الأوسط الكبير»، الى أنه «إذا استطاع مؤتمر بغداد حل أي مشكلة، بعيداً عن القضية الاميركية مع ايران وسوريا، فإن ذلك سيكون ثمناً مناسباً للقبول بالمشاركة فيه».
إدارة بوش في مأزق، سواء في الداخل الأميركي، أم في منطقة الشرق الأوسط، حيث تواجه مستنقعاً في العراق، وتحديات جدية في كل من فلسطين ولبنان. إشارات إيجابية صدرت خلال الأسابيع الماضية، تمثلت بتسهيل سوري - إيراني لمؤتمر مكة الفلسطيني، وبتقارب إيراني - سعودي تمثل في القمة التي جمعت الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد والملك عبد الله في الرياض السبت الماضي، وتهدئة، مصبوغة بأجواء تفاؤل، على الساحة اللبنانية. فهل ينجح مؤتمر بغداد في وضع مداميك حوار أميركي- إيراني وأميركي- سوري يمهد لتسويات في الملفات العالقة كلها؟ أم إنه سيعيد المواجهة إلى النقطة الصفر ويدخل المنطقة في جولة جديدة من الصراع؟