محمد بدير
…وأخيراً، اعترفت إسرائيل. أقرّ صانع القرار الأول فيها بأن الحرب على لبنان لم تكن وليدة لحظتها، ولا رد فعل مرتجلاً على مغامرة غير محسوبة. قال: إن العدوان كان قيد الإعداد والتخطيط قبل أشهر من شنّه، وكان ينتظر شرارة الانطلاق. ليس معلوماً إن كان يدرك، في ما قاله، أنه يسقط بذلك أهم أسلحة الحرب الداخلية التي أعلنت في لبنان على المقاومة بعد وقف النار، من خلال اتهامها باستدراج العدوان؛ غير أن المؤكد أنه كان يعي أن خلاصه من براثن لجنة التحقيق يستأهل دفع ثمن أكبر من ذلك لو تطلب الأمر ذلك.
ففي سبق صحافي أول، حول مضمون شهادة رئيس الوزراء الإسرائيلي أمام لجنة فينوغراد، ذكرت صحيفة «هآرتس» أن إيهود أولمرت قال: إن قراره بالرد بعملية عسكرية كبيرة على خطف جنود إسرائيليين على الحدود مع لبنان اتخذ في شهر آذار 2006، أي قبل أربعة أشهر من اندلاع حرب تموز.
وأفادت الصحيفة أن أولمرت كان قد قرر في نقاشات سابقة أن الهدف السياسي لعملية عسكرية في لبنان سيكون تنفيذ قرار مجلس الأمن الرقم 1559، الذي يدعو إلى نشر الجيش اللبناني في جنوب لبنان وتجريد حزب الله من سلاحه.
ووردت أقوال أولمرت، خلال جلسة الاستماع التي مثُل فيها أمام اللجنة في الأول من شباط الماضي، وتركز التحقيق فيها معه على ثلاث مسائل هي: خلفيات اتخاذه لقرار الحرب في 12 تموز، بعد ساعات على عملية الخطف، وأسباب قرار توسيع العملية البرية في اليومين الأخيرين منها، واللذين أسفرا عن مقتل 33 جندياً، وظروف تعيين عامير بيرتس وزيراً للدفاع.
وفي معرض الإجابة عن المسألة الأولى، انطلق أولمرت من التشديد على أنه أجرى مداولات وتقديرات وضع بشأن لبنان أكثر من كل أسلافه في المنصب في السنوات الأخيرة. واستشهد على ذلك باستعراض جدول الاجتماعات التشاورية التي عقدها حول هذا الموضوع، والتي حصل أولها في 8 كانون الثاني عام 2006، أي بعد أربعة أيام من خلافته لرئيس الوزراء السابق أرييل شارون في المنصب، واستُتبع باجتماعات أخرى في آذار ونيسان وأيار وحزيران، في أعقاب اختطاف جلعاد شاليط في قطاع غزة. وفي الاجتماع الأخير، أعرب أولمرت، بحسب شهادته، عن قناعته التامة بأن حزب الله سيقدم على خطف جنود إسرائيليين وأصدر أوامره للجيش بإحباط ذلك بكل الطرق الممكنة.
وبحسب الصحيفة، فإن السيناريو الذي أثير في تقديرات الوضع التي جرت في هذه الاجتماعات كان شبيهاً بما حصل لاحقاً في الميدان: اختطاف جنود وراء الخط الحدودي يرافقه إطلاق نار على البلدات الشمالية.
وكان ثمة إجماع بين المجتمعين، الذين كان وزير الدفاع في حينه، شاؤول موفاز، في عدادهم، على ضرورة شن عملية عسكرية واسعة رداً على تنفيذ المقاومة لعملية كهذه. وبلغ مستوى حماسة رئيس الأركان، دان حالوتس، لهذا الأمر، حدّ اعتبار أن التداعيات الاستراتيجية لعملية كهذه على إسرائيل وقدرتها الردعية ستكون أشد أثراً حتى من «انهيار النظام السوري».
وكان أولمرت، الذي شارك الآخرين موقفهم في هذا الشأن، قد سأل الجيش، خلال الاجتماع الأول في شهر آذار، حول خططه العملياتية في هذا المجال، فأجيب، بحسب شهادته، بوجود خطط مقرّة، فطلب الاطّلاع عليها لحسم القرار بشأنها مسبقاً، «وليس لحظة الخطف». ووفقاً لما أدلى به في إفادته أمام اللجنة التي تصدر تقريرها في 27 آذار الجاري، فإنه اختار «الخيار الوسطي» من حيث الشدة، وهو يتضمن هجوماً جوياً إلى جانب عملية برية محدودة.
ورأى أولمرت أن خطوته هذه هي امتداد للتحول عن «سياسة الاحتواء» التي كانت معتمدة في أيام شارون على الحدود الشمالية، والتي كانت تهدف إلى الحؤول دون فتح جبهة ثانية في ظل المواجهة مع الفلسطينيين. وأوضح أولمرت أن شارون هو من أحدث هذا التحول في أعقاب محاولة الاختطاف في تشرين الثاني 2005 في قرية الغجر، حيث قال حينها إنه لا يمكن الاستمرار هكذا، وأمر الجيش بإعداد «بنك أهداف» لرد عسكري في لبنان. وتضمن هذا البنك، بحسب أولمرت، هجمات جوية لتدمير صواريخ «فجر» و«زلزال» البعيدة المدى، التي تم قصفها في الليلة الأولى من الحرب.
وأشارت «هآرتس» إلى أن الولايات المتحدة قيّدت خطة الحرب الإسرائيلية الأصلية من خلال طلبها، عبر اتصال هاتفي لوزيرة خارجيتها كوندوليزا رايس بأولمرت في أول أيام الحرب، عدم التعرض لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة. وقد فهم المسؤولون الإسرائيليون من ذلك أنه ينبغي عدم استهداف البنى التحتية كوسيلة للضغط، كما كان مقرراً في الخطة.
وفي إشارة إلى أن الحرب كانت خياراً بديلاً لتنفيذ القرار 1559، بعد فشل الخيار السياسي، ذكرت «هآرتس» أن أولمرت كان يفضل تنفيذ القرار بالسبل السياسية، وأنه أثار موضوع الانسحاب من مزارع شبعا مع زعماء أميركا وفرنسا وبريطانيا ضمن إطار صفقة تقوم بموجبها الحكومة اللبنانية بتطبيق القرار المذكور.
وعلل أولمرت قرار توسيع العملية البرية في نهاية الحرب بأنه كان وسيلة للتأثير على مداولات مجلس الأمن الدولي من أجل تعديل مسودة قرار وقف النار (1701) لمصلحة الموقف الإسرائيلي، بعدما كانت تميل إلى جانب الموقف اللبناني ـــ الفرنسي. وفي اعتراف واضح بفشل العمليات البرية التي سبقت هذا الهجوم، قال أولمرت إنه «لو كانت العمليات البرية السابقة للجيش في جنوب لبنان ناجحة، لما كانت إسرائيل في الوضع الذي وجدت نفسها فيه في نهاية الحرب».
وحول تعيين بيرتس وزيراً للدفاع، أوضح أولمرت أن حقيبة الدفاع أعطيت لحزب العمل بناءً على تعهد ائتلافي، والحزب هو الذي اختار وزراءه.
ردود فعل
وفيما رفض مكتب رئاسة الوزراء التعليق على ما نشر، تولى أعضاء كنيست المهمة فوجّهوا انتقادات شديدة لأولمرت. وقال يوفال شتاينتس، النائب عن حزب الليكود والرئيس السابق للجنة الخارجية والأمن، إن ما تضمنه التقرير أذهله، معتبراً أن «شيئاً مما ورد فيه لم يحصل أبداً، فلم تكن هناك تجهيزات مكثفة لحرب وشيكة محتملة، كما إن أولمرت استقطع نصف مليار شيكل (118 مليون دولار) من موازنة الدفاع قبل شهرين من الحرب، وهو تصرف لا يصدر من شخص يعتقد أنه خلال الأشهر القليلة المقبلة سيتم الرد على الاستفزاز المقبل بالحرب».
ورأت صحيفة «يديعوت أحرونوت»، في معرض استعراضها لبعض ردود الفعل، أن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله حصل على تدعيم لمقولته بأن إسرائيل خططت للحرب مسبقاً. ونقلت الصحيفة عن أعضاء كنيست من اليمين قولهم إن ما تضمنته شهادة أولمرت قد يورط إسرائيل. وقال النائب في حزب الاتحاد القومي، إيفي إيتام، إنه «يبدو أن حسن نصر الله وأولمرت ينسّقان الروايات». وأضاف إيتام إن «رئيس الحكومة، في محاولة منه للتهرب من المسؤولية عن الإدارة الفاشلة للحرب، يسعى إلى إعادة كتابة التاريخ».
ورأى إيتام أن «هذه الحرب كانت فشلاً إدارياً خطيراً للقيادة العسكرية التي سبق وتحملت المسؤولية، (في إشارة إلى استقالة رئيس الأركان) أما رئيس الأركان فإنه يخلف وراءه كل الجرحى في الميدان».
من جهته، قال رئيس كتلة الليكود، غدعون ساعر، إن أولمرت «كعادته، يحاول دحرجة المسؤولية عنه، وهذه المرة يفعل ذلك باتجاه الجيش». وأضاف ان «رئيس الحكومة يتحمل المسؤولية العليا عن إخفاقات الحرب وعدم إنجاز أهدافها التي حددتها الحكومة».
وشدد ساعر على أنه «ما من شك في أن أي دولة تخطط لحرب لا تقلص موازنة الدفاع، ولا تخفض حجم التدريبات العسكرية أو تجنيد الاحتياط»، وخلص إلى أن شهادة أولمرت تهدف إلى لجم الهجمات الانتقادية الكثيرة ضده».
أما عضو الكنيست، أرييه ألدار (حزب الاتحاد القومي اليميني) فقد رأى أن وضع أولمرت «سيصبح أخطر ألف مرة في ضوء ما قاله. فإذا كانت هذه هي الخطة التي أقرّها من دون الوقوف على جهوزية الجبهة الداخلية وقدرة الجيش على تنفيذها، فإنه من الجدير محاكمته لهذا الإهمال الجرمي».