strong>كوبنهاغن ـــ نادر صباغ
يسمّونها في الدنمارك «أزمة محمد»، في إشارة إلى الأزمة التي أحدثتها قضية نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي. حادثة باتت من المحطات الصاخبة في التاريخ المعاصر لتلك الدولة الأوروبية الهادئة. فليمنغ روز، صاحب فكرة الرسوم، تحدث لـ «الأخبار» عن أصل الفكرة وموقفه منها ومعاناته خلالها ووضعه من بعدها

  • أول مقابلة لصاحب فكرة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي مع صحيفة عربية

    أكثر من عام ونصف مرّ على أزمة نشر الرسوم في إحدى الصحف الدنماركية ولا تزال تداعياتها تصيب الحياة السياسية والاجتماعية في الدنمارك على أكثر من مستوى. في أحاديث الدنماركيين، في تفاعلهم مع محيطهم، في رؤيتهم للعالم الاسلامي، في تعاطيهم مع الأقليات المهاجرة الى مجتمعهم، في علاقاتهم الاقتصادية وشركاتهم التجارية..
    إنها المرة الأولى التي يتحدث فيها صاحب الفكرة، رئيس قسم الثقافة في صحيفة «يولاند بوستن» الدنماركية، فليمنغ روز، إلى صحيفة عربية. لم يتم إحراق الرجل، كما تناقلت الخبر شبكة الانترنت. لا يزال مقتنعاً بما قام به. لا يبدو نادماً على فعلته؛ فحرية التعبير بالنسبة له أغلى من المحرمات الدينية.
    القصة بدأت، مثلما يرويها بنفسه، عندما علم بأن أحد مؤلفي كتب الأطفال الدنماركيين لم يتمكن من العثور على رسّام لرسم النبي محمد كي يضمنه كتاباً كان يضعه عن الرسول. أثار هذا الامر حفيظة روز، قرر المبادرة، «لا يحق لهم فرض قوانينهم علينا في بلداننا الديموقراطية».
    وجّه رسالة إلى 42 رساماً في «اتحاد رسامي الكاريكاتور في الدنمارك» طالباً من كل واحد منهم أن يرسم النبي كما يراه، وجاءت الردود مثلما نشر بعض منها. «أنا لم أطلب السخرية، لكنهم رسامو كاريكاتور ورسومهم انتقادية بطبيعتها، جميع الرسوم كانت مقبولة، بحسب المعايير الدنماركية التي تنطبق على الرسوم الدينية ورسوم العائلة المالكة والمشاهير. أعتقد أنه حصل سوء فهم كبير في هذا الموضوع. كانت الرسوم معدة للنشر في صحف دنماركية وكانت موجهة إلى جمهور دنماركي، لكن تم استخدامها خارج سياقها».
    حق الانتقادويضيف روز: «أنا من مؤيدي إلغاء كل الكتب والقوانين الأوروبية التي ترى عدم الاعتراف بالمحرقة عملاً إجرامياً. أفهم تماماً المسلمين الذين يقولون إن المعايير المزدوجة موجودة. فمن الصعب شرح سبب السماح بالسخرية من الرسول فيما نكران حصول المحرقة جريمة، لكن هذه القوانين غير موجودة في الدنمارك أصلاً».
    يقول روز إن صحيفته نشرت صوراً كاريكاتورية عن المحرقة ولم يؤد الموضوع إلى مشكلة مع المجتمع اليهودي. «لم نتلق أي اتصال أو استنكار، لا لأنهم (اليهود) أكثر ديموقراطية من المسلمين، بل لأنهم يعيشون في مجتمع أكثر علمانية. أعتقد أن بعض اليهود شعروا بالإهانة، أنا مثلاً أشعر بالاهانة يومياً حين أقرأ الصحف بسبب مواضيع مختلفة، لكني لا أنزل إلى الشارع وأحرق السفارات وأطالب باعتذار رسمي. هذا جزء من المجتمع التعددي المتحضر الذي يضم مجموعات مختلفة تتعايش في ظل معطيات محددة وحيث من الممكن التعرض للإهانة بين الحين والآخر».
    وعن نفسه وعلاقته بالدين، يقول الرسام الدنماركي: «لست مؤمناً، لكني أؤمن بحرية اختيار الديانة، وأساس حرية الديانات هو رفض الديانات. في مختلف أنحاء العالم، إذا نظرنا إلى الدول التي تسيطر فيها السلطات الدينية، نرى غياباً تاماً للحرية الدينية». ويتابع «لا يمكن مقارنتي بحالة سلمان رشدي، فهو مسلم أما أنا فلست مسلماً ولا مسيحياً ولا يهودياً».
    ويستطرد: «سأكرر ما قلته سابقاً، لم أقلق جراء نشر الرسوم على رد فعل المسلمين في الدنمارك، بل ركزت على ما أشعرني بالإهانة حين تصورت خضوع بعض رسامي الكاريكاتور للرقابة بسبب المحظورات الدينية. أخبرني أحدهم أنها كانت المرة الأولى منذ القرن الرابع عشر التي يقرر فيها المسلمون معاقبة غير المسلمين على عدم تطبيق القوانين الإسلامية في بلد غير إسلامي».
    ويتابع: «المشكلة هنا أن بعض المسلمين يصرّون على فرض معتقداتهم على الجميع. نحن لا نجبر أحداً على شراء الصحيفة، ومن المضحك أن أكثر الذين شعروا بالإهانة من الرسوم هم الذين أصرّوا على توزيعها بين المسلمين».
    إضافة إلى المجتمع الإسلامي، في الدنمارك اليوم نحو 250 أقلية إثنية أخرى، «فهل أنا مجبر على معرفة جميع المحظورات في كّل من تلك الأقليات؟ لا أعتقد ذلك، لذا قلت إن علينا تقبل السخرية في مجتمع حضاري».
    عن الإسلام
    لا يعرف فليمنغ روز الكثير عن الإسلام، وهو يقرّ بأنه ليس خبيراً بشؤونه أو بشؤون الشرق الاوسط، لكنه يشير إلى أنه زار الأردن والضفة الغربية وإيران. يعلم أن هناك فرقتين في الاسلام هما السنة والشيعة، وأن النبي أقام الدولة الاسلامية في المدينة المنورة ثم عاد إلى مكة.
    ولتبيان مدى معرفته بالاسلام، يشرح روز «أعرف أن حظر صور النبي عند الشيعة ليس صارماً، فهم لا يعارضون ذلك، خلال زيارتي إيران قبل ثلاث سنوات، وجدت أنه يمكن شراء صور للرسول على الطرقات، أو بالأحرى لعلي وهو النبي بالنسبة إليهم. إّنه أهم شخصية عند الشيعة».
    الإسلام «الآخر»
    هل بات الاسلام اليوم العدو الجديد للغرب، وهل ترسخت هذه الصورة جذرياً؟ يجيب الصحافي الدنماركي: «في الواقع كنت مراسلاً في الاتحاد السوفياتي لأكثر من 11 عاماً، وزوجتي روسية، وقد رأيت كيفية انسحاب صورة العدو على زوجتي. كان الناس يخافون منها عندما تقول إنها روسية. يمكنني القول إن الاسلام هو «الآخر»، لكن هذا يعتمد على الأشخاص الذين نتكلم معهم وعليهم. هناك أشخاص بسطاء تسيطر عليهم هذه الأفكار. في رأيي أن صورة الغرب في الشرق الأوسط تندرج في هذا الإطار أكثر من صورة الشرق الأوسط في الغرب. العرب يقولون إن سياسة الغرب هي العدو فيما الإسلام يُعدّ العدو بالنسبة للغرب. إن الكراهية للغرب في الشرق الأوسط أكبر من كراهية الغرب للإسلام».
    لست نادماً!
    يؤكد روز أن «على المهاجرين إدراك حقيقة أنهم إن أرادوا الانتقال إلى عالمنا فعليهم أن يحترموا قوانيننا ويقبلوا بها. بالنسبة إلي، هذه القواعد هي الديموقراطيات المقدسة المذكورة في دستورنا، منها حرية التعبير وحرية الديانة والمساواة بين الجنسين، ومساواة جميع المواطنين أمام القانون». ويتساءل «إذا كانت الاقليات المهاجرة مهمشة في مجتمعاتنا، فلماذا تسافر آلاف الأميال للعيش هنا والتعرض للإهانة كما يقال؟».
    ويضيف: «شعرت بالصدمة أمام ردات الفعل التي شاهدتها، وهذا ليس شعوراً جميلاً. أؤكد أنه لا رسم في العالم يستحق أن يقتل لأجله إنسان، ولا أقبل بإقامة علاقة بين هذه الرسوم وخسارة حياة أبرياء. هناك أسباب داخلية في الشرق الأوسط أكثر أهمية لإحداث العنف الذي شهدناه غير نشر رسوم كاريكاتورية في صحيفة دنماركية».
    «حين أُسأل إن كنت نادماً على ما نشرته، أعتقد أن بإمكاني الإجابة بطرق عديدة، الأولى استفزازية، مثل سؤال ضحية اغتصبت عن سبب ارتدائها تنورة قصيرة، وهذا أمر غير مقبول. عادة أجيب أن هذا سؤال افتراضي ولا أجيب عنه. فإن أجبت بالنفي، سيعتقد الناس أني قاس ولا أتعاطف مع ما حصل، وهذا ليس صحيحاً. وقد عبرت صحيفتنا عن أسفها لإهانة الناس. وإن قلت إني شعرت بالندم، فسيكون من يحاول إخافتنا وتهديدنا قد نجح بفعلته، فيعدّ أنه بالتخويف والتهديد يمكنه الحصول على مبتغاه. لذا إجابتي ستكون خاطئة في كلتا الحالتين».
    ما الذي تغيّر؟
    ما الذي تغيّر في الدنمارك بعد الحادث وتداعياته؟ يجيب روز بأن ما تغيّر في الجوهر هو النقاش بشأن المسلمين والإسلام. يوضح: «كانت أهم نتائج هذه الظاهرة تأسيس منظمات جديدة تتركز حول المعتقدات الديموقراطية وترفض بصراحة أن تتمثل بأئمة المساجد، فقد كان خطأ وسائل الإعلام الدنماركية قبل نشر الرسوم أنه كلما تمت مناقشة موضوع يتعلق بالإسلام تلجأ إلى عدد من الأئمة لأخذ رأيهم فيتكلمون بالنيابة عن المجتمع المسلم بأكمله، وهذا أمر غير صحيح».
    هل ساهمت الأزمة في اعتناق الكثيرين للاسلام وبالعكس؟ لا يعتقد روز أن هذا الأمر صحيح «أنا لا أشعر بذلك أبداً. أرى أن المسيحية في ما يتعلق بالمعتقدات والهوية الدينية والانتماء تزداد أهمية عند الناس اليوم، لكني لا أعتقد أن هذا سببه الهجرة وعلاقة المهاجرين بجذورهم وديانتهم. نحن مجتمع علماني، وفي رأيي لن يعود الدين ليفرض نفسه على مجتمعنا في المدى المنظور. جميع الاحصاءات تشير إلى أن الدول الاسكندنافية هي الأكثر علمانية في العالم. لا أعتقد أن الغرب يعتنق المسيحية في وجه الشرق المسلم».
    الاقتصاد وحرية الرأي
    في الدنمارك، انقسم مجتمع الاقتصاد والاعمال حيال هذه المسألة بين مؤيد لحرية الصحافة والرأي، ومطالب بإقفال الملف في أسرع وقت نظراً لحجم الخسائر الاقتصادية جراء موجة المقاطعة التي تعرضت لها المنتجات الدنماركية في عدد كبير من الدول العربية والاسلامية.
    وفي هذا الاطار، يقول روز: «غضب عدد من الشركات الكبرى على الصحيفة وانتقدتها رئاسة اتحاد الشركات التجارية وطلبت منا نشر اعتذار من دون أن تعلم أننا كنّا فعلاً قد نشرنا اعتذاراً نأسف فيه لجرح مشاعر بعض قرائنا». ويضيف «أفهم أن الشركات الكبرى تريد الحفاظ على مصالحها وأسواقها، لكني أعتقد أن عليهم أن يفهموا بدورهم أن سبب شراء السعودية للمنتجات الدنماركية وعدم تصنيعها بنفسها يعود إلى الحرية التي نتمتع بها في مجتمع ديموقراطي يمكننا فيه مساءلة مسؤولينا وانتقادهم وتغيير طريقة الانتاج لتحسين المنتجات، بينما لا يستطيعون ذلك في مجتمعاتهم».
    حياتي عادية
    «يولاند بوستن»، كما يصفها فليمنغ روز، جريدة يومية تنتمي إلى اليمين الوسط، وهي واحدة من كبريات الصحف في الدنمارك. «غيرنا من الصحف لا يتردد في نشر صور إباحية على صفحاته الأولى، لكننا لا نفعل ذلك ولا ننكر عليهم فعله، فهذا قرارهم ولا ننتقده. كل شخص له حدوده، لكن لا يحق له فرض حدوده على الآخرين، وهذا أساسي بالنسبة لي. أنا لا أفرض رأيي على المسلمين، فالبعض يتهمني بأني متعصب، لكن التعصب لا علاقة له برسام كاريكاتور أو كاتب مقال أو مخرج فيلم، بل يتعلق بمن ينظر إلى الكاريكاتور ويشاهد الفيلم أو يقرأ المقال. المتعصبون هم أولئك الذين يطالبون بعدم نشر الرسوم في الصحيفة، فالنشر لا يعني التبنّي».
    يؤكد روز أن حياته الشخصية لم تتغيّر بشكل دراماتيكي كما قد يتصور البعض جراء الحادثة، فهو يعيش حياة شبه عادية في الدنمارك اليوم، وعدا بعض الاحياء المحدودة في كوبنهاغن، حيث تكثر الأقليات المهاجرة (من المسلمين) فهو يتجول بحرية في العاصمة الدنماركية. ويضيف «أواجه بعض المشاكل في بلدان مثل بريطانيا وإسبانيا، لذا أنا مسرور بإقامتي في الدنمارك. غيّرت بعض عاداتي، لا لأني أشعر بأني مهدد، بل لأن الشرطة طلبت مني ذلك. لا أخضع للحماية، إلا في حال ظهوري علناً. بادئ الأمر تلقيت الكثير من التهديدات، وهوجمت مرتين في الشارع. لكن الأمر ليس سيئاً. الوضع أسوأ بكثير بالنسبة للرسامين، لأني تمكنت من شرح موقفي، لكنهم لا يزالون مختبئين».


    ممنوع فقط في لبنان!بهذا التدبير يكون لبنان البلد الوحيد في العالم الذي منع روز من دخول أراضيه بسبب قضية نشر الرسوم المسيئة للنبي. واستغرب الصحافي الدنماركي أن «يصدر موقف كهذا عن بلد مثل لبنان، معروف بانفتاحه واحترامه لحرية الرأي والتعبير».